الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار
مدخل
…
المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار
تيقن كفار مكة أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تختلف عن ما سبقها من أفكار الحنفاء وأمثالهم من ناحية: تحديد موضوعها، وثباتها، وسمو أهدافها
…
وكان أكثر ما أثار انتباهم ازدياد قوة المسلمين يوما بعد يوم، وشدة تواصل المؤمنين وترابطهم، وقوة حب المسلمين لله ورسوله، وعظمة اعتزاز المسلمين بدينهم، وتمسكهم بتطبيق تعاليمه بصدق وإخلاص.
وصل كفار مكة إلى هذا الفهم، وبدءوا في التحرك لمواجهته، وقد أخذ توجهم يزداد عنفا شيئا فشيئا من أجل الوصول إلى إطفاء نور الحق، والقضاء على الدين الوليد.
بدءوا -أولا- بإغراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والجاه والسلطان وبكل ما يريد شريطة أن يترك دعوته1، لكنه صلى الله عليه وسلم رد عليهم بتمسكه بدعوة الله، وحذرهم من عاقبة كفرهم، ونفذ معهم أمر الله في قوله تعالى:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 2.
وحاولوا -ثانيا- مساومة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع شيئا من دينهم وشيئا من دعوته ليلتقي الفريقان في منتصف الطريق، وبذلك لا تضار آلهتهم؛ لأنها ستعبد مع الله تعالى، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 3.
1 انظر صفحة 345.
2 سورة فصلت آية 13.
3 سورة الكافرون.
وطلبوا منه ثالثا أن يُبقي أمره لنفسه، وعلى آل بيته، فأبَى عليهم ذلك، وعرفهم أنه رسول الله تعالى لهم، وللعالم كله.
عندئذ أخذوا في صد الناس عنه بنشر الإشاعات الكاذبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالسحر، والكذب، والسفه، واتهموا القرآن بالاختلاق، والنقل من الأساطير، واتهموا المسلمين بالضعف وعدم التعقل، يحكي الله تعالى حملتهم هذه فيقول سبحانه:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 1.
فلما يئسوا من محاولاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبوا إلى عمه عددا من المرات.
مرة يطلبون منه أن يكف ابن أخيه عن دعوته؛ لأنها -في نظرهم- فرقت جمعهم، وعابت آلهتهم، وأساءت إلى آبائهم.
ومرة يحاولون أن يستبدلوا به فتى منهم، للقيام بقتله بعد تملكه، فلما لم يستجب لهم أبو طالب ذهبوا إليه مهددين، فكلم أبو طالب محمدا صلى الله عليه وسلم في الأمر، فرد عليه بأنه مستمر على دعوته، ولن يتركها بحال.
يصور ابن إسحاق ذلك فيقول: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم اشتد الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على
1 سورة الفرقان الآيات 5-8.
هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولا لأحد منهم، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فابقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، والله لو ضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته".
ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا"1.
وحينئذ تأكدوا من فشلهم في تحريض عمه أبي طالب، وتجريده صلى الله عليه وسلم من الحماية والمساندة، فوضعوا خطه متعددة الأطراف لإرهاب الرسول والمؤمنين، ومنع الناس من الاقتراب من رسول الله، والاستماع لدعوته، ومجمل هذه الخطة يتضح في النقاط التالية:
1-
قيام كل قبيلة بتعذيب واضطهاد من أسلم من أبنائهم أو من عبيدهم.
- من ذلك أن أبا جهل كان إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به2.
1 سيرة النبي ج1 ص265، 266.
2 سيرة النبي ج1 ص320.
- ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية1.
- وكان أمية بن خلف الجمحي يضع حبلا في عنق مولاه بلال، ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به جبال مكة، وكان أمية يشده شدا ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول بلال وهو في ذلك: أحد، أحد، حتى مر أبو بكر يوما وهو يصنعون ذلك به، فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه2.
- وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون -وعلى رأسهم أبو جهل- يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال لهم:"صبرا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة"، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية -أم عمار- في قلبها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى، وبالتغريق ثالثة، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا، أو تقول في اللات والعزى خيرا، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء باكيا معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.
1 رحمة للعالمين ص58.
2 سيرة ابن هشام ج1 ص317، 318.
3 سورة النحل آية 106.
- وكان أبو فكيهة -واسمه أفلح- مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل ثم يجرونه على الأرض1.
- وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعا من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه تلوية عنيفة ويضجعونه مرات عديدة على فهام ملتهبة، ويضعون عليه حجرا، حتى لا يستطيع أن يقوم2.
- وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا.
- وأسلمت جارية لبني مؤمل -وهم حي من بني عدي- فكان عمر بن الخطاب- وهو يومئذ مشرك- يضربها، وإذا مل قال: إني لم أتركك إلا ملالة3.
- وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضا أخر درعا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة4.
- وقائمة التعذيب طويلة شملت أغلب من أسلم في مكة بعد الجهر بالدعوة، يروي ابن كثير بسنده عن ابن جبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عباس: "أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟
قال: نعم والله! إنهم كانوا يضربون أحدهم، ويجيعونه، ويبطشون به حتى ما يقدر أن يستوي جالسا" من شدة الضرر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له:اللات والعزى إلهان من دون الله، فيقول: نعم! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم5.
1 رحمة العالمين ج1 ص57.
2 تلقيح فهوم أهل الأثر ص106.
3 سيرة ابن هشام ج1 ص319.
4 رحمة للعالمين ج1 ص58.
5 البداية والنهاية ج3 ص59.
2-
إعداد فريق من شباب الكفر ممن يجيد فن التعامل مع الناس؛ ليمروا على القبائل في مواسمهم؛ ليقولوا في رسول الله ما شاءوا من قول سيئ، ووشاية كاذبة.
3-
تكليف جماعة من أبنائهم لملاحقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيت، وشتمه، ووصفه بكل صفة منفرة، وإحاطته بالسخرية، والاستهزاء حتى تسقط مهابته في نظر الناس، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن عروة بن الزبير سأله عن أكثر ما رأى من قريش إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.
فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم ثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال:"أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول فيقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.
فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به، يقولون له: أنت تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم.
فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا الذي أقول ذلك".
فرأيت رجلا منهم يأخذ بمجمع ردائه صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط1.
وقد سبق أن ذكرنا ما كان منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة إسلام حمزة رضي الله عنه2.
4-
التعنت في مواجهة رسول الله، وطلبهم أمورا خارقة للعادة، دليلا على صدقه، وهم مع ذلك عازمون على الكفر، مهما جاءهم من الخوارق؛ ولذلك قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصرفه عن مواجهتهم:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 3.
لقد رأى أهل مكة العديد من المعجزات الخارقة للعادة وعلى رأسها القرآن الكريم، ومع ذلك لم يؤمنوا، فلما طلبوا خوارق جديدة لم يستجب الله لهم رحمة بهم؛ لأنه سبحانه وتعالى لو أوجدها لهم، واستمروا على كفرهم لعذبهم عذابا شديدا.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص298، 299.
2 انظر صفحة 481.
3 سورة الأنعام الآيات 109-111.
4 سورة يونس الآيات 96، 97.