الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ساعد هذا التواصل على سرعة انتقال الأفكار والأخبار؛ ولذلك كان كل فريق يعرف أخبار الآخرين، وكانت العقائد والأديان والمذاهب الخاصة بجماعة ما معلومة لغيرهم من الناس.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم انتشر خبره في الجزيرة العربية، وفي العالم كله؛ ولذلك جاءت الوفود إلى مكة لاكتشاف أخبار الدعوة الجديدة، فلما رأوا موقف أهل مكة انتظروا نتائج صراعهم مع الدعوة، فلما فتحت مكة دخلت الجزيرة كلها في دين الله تعالى..
رابعا: تعدد الصراع
ساد العالم في هذا الزمان صراع عام، فلم تخلُ أمة أو منطقة منه، سواء كان الصراع بين عناصر الأمة الواحدة، أو بينها ويبن غيرها، وأهم ما تميز به هذا العصر هو تكرار الصراع تكررا متلاحقا فمنهزم اليوم ينتصرغدا، وهكذا دواليك من غير توقف، وغالبا ما كان الصراع بسبب سياسي أو اقتصادي أو ديني تبعا لاختلاف البيئات، ففي البيئة العربية لم ينشأ صراع بسبب السلطة خاصة بعد أن وزع "قصي" الأعمال بين القبائل وجعلها فيهم وراثية، وإنما كان صراع العرب بسبب الاقتصاد في أكثر الأحيان.
وفي البيئة الرومانية كان سبب الصراع ينحصر في الدين والسياسة.
وفي الفرس والحبشة كان السبب في الدين.
وفي الهند كان السبب في نظام الطبقات المعروف فيهم.
وقد ساد الصراع الداخلي سائر الأمم، ففي الدولة الرومانية الشرقية قامت ثورات عدة أشهرها ثورة الزرق والخضر أثناء حكم جستنيان سنة 532م التي طالبت بإقصاء وزير المالية وإجراء تعديلات كثيرة، وقد قضى جستنيان على هذه الثورة بإراقة دماء كثيرة وصلت إلى قتل خمسة وثلاثين ألفا1.
1 الإمبراطورية البيزنطية ص60-63.
وفي الرومانية الغربية نشأت دولة جرمانية، وقامت ثورات عدة وحروب كثيرة، من أشهرها في بلاد الغال "فرنسا" حيث ظهر الصراع بين كلوفسي وسيجاريوس، والثورنجيين، والبرجنديين، واللأليمان1، وكان هناك صراع في إيطاليا2 وبين البربر في شمال إفريقيا3.
وبين العرب كانت أيامهم كيوم داحس الذي استمر مدة طويلة، وكذلك حرب حالب، ويوم بعاث بين الأوس والخزرج، وقد استمرت إلى قبيل الإسلام.
وفي فارس كان الصراع مستحكما بين أفراد البيت الواحد، بين الأب وبين الابن، ومما ساعد على ازدهار الصراع في الفرس ظهور مذهب "ماني" القائم على الشيوعية المطلقة.
ومع الصراع الإقليمي وُجد الصراع الدولي بين الفرس والروم؛ إذ كانت الحرب مستعرة بينهما على الدوام في أطراف الجزيرة العربية جنوبا في اليمن، وشمالا بين الغساسنة والمناذرة.
إن الصراع بكافة أشكاله وصوره يؤدي حتما إلى تغيرات اجتماعية، سواء كانت هذه التغييرات متجهة إلى التقدم، أو إلى التأخر، وقد سلم علماء الاجتماع بضرورة هذه التغييرات4، إلا أنها تتجه عندهم في النهاية إلى التطور والتقدم، يقول إيمانول كانت: إن القوة التي تدفع التاريخ إلى التطور هي الصراع، وهيجل يرى أن التعارض هو أهم مؤثر في العلاقات الإنسانية، وأن حركة التطور الاجتماعي ما هي إلا النماء المستمر للأضداد ثم اندماجها في النهاية لإيجاد مرحلة من التطور5.
1 المسلمون والجرمان ص37.
2 نفس المرجع ص30.
3 نفس المرجع ص25.
4 أصول علم الاجتماع ص220.
5 أصول علم الاجتماع ص85.
ومن التغييرات التي يمكن أن تحدث بعد أي صراع ظهور قُوَى جديدة، وبروز أفراد يقابلون المخاطر بفهم وشجاعة، كما أن التفتح الذهني يجعل المتصارعين لا يتعصبون لشيء معين، ويبحثون عن أية قيمة إنسانية تخلصهم من هذا الصراع، فإن الطبقة المستضعفة تتمنى الخلاص والهروب مما هي فيه.
وقد استفادت الدعوة الإسلامية من كل هذا؛ لأن القوى الجديدة التي ظهرت كانت ركيزة لانطلاق الدعوة ونشرها، وكان أتباع الدعوة الأول من هذه الفئات الجديدة التي لا تتعصب لمواريث قديمة.
وأيضا فإن الانفتاح الذهني وذوبان التعصب الأعمى يفيدان الدعوة في كثير، فبالذهن الصافي تفهم التعاليم والأفكار، وبذوبان التعصب تتخلص الدعوة من عدو بغيض يقف في طريقها.
إن فكرة البحث عن قيمة راقية، وخلاص للضعفاء، وجدا في الدعوة بغيتهما، فكان الضعفاء هم أتباع الدعوة في العرب وفي كل مكان؛ لأنهم بها يتخلصون من مهانة الرق، وذل الطبقية، وضعة المنبوذين، وبها كذلك لا يتجهون بالتعظيم والتقديس إلى شخص ما، لا ينالهم منه سوى الظلم والجبروت والتعالي، وإنما يتجهون إلى الله الخالق، صاحب النعم كلها، الذي يملك الخلق كله، ويحيط به علما، وإرادة، وقدرة، ويوزع رحمته على جميع الناس، ويأمر في الدعوة بالقيم الراقية، والسلوك الممتاز، ويحث على إقامة أخوة صادقة، ومساواة حقيقية، وعدل في الكسب والعمل.
إن وضعية الضعفاء تتفق لأول وهلة مع روح الدعوة ومبادئها، والمتصارعون يجدون بغيتهم في الدعوة؛ لأنها تهدم سبب صراعهم، وتؤاخي بينهم بالحسنى، وتعوِّدهم على الألفة والخير.
إن صراعات هذا الزمن تميزت عن كل ما سبقها بالشمول والعمق؛ حيث اتنشرت في العالم كله، بشكل مستمر، ومتجدد، كما أنها لامست سائر حياة الناس