الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا
…
المبحث السادس: محمد صلى الله عليه وسلم في مرحلة الصبا
عاد محمد صلى الله عليه وسلم من ديار بني سعد بعدما بلغ خمس سنوات للمرة الثانية والأخيرة، وسُرت أمه بقدومه، وأخذت في توجيهه وتنشئته، تساعدها أم أيمن، ويعاون جده عبد المطلب الذي رأى في محمد صورة ابنه عبد الله.
لاحظت آمنة أن محمدا يتمتع بقوة بدنية وعقلية، تفوق أقرانه من الأطفال، ورأت أن تذهب به لزيارة أخوال أبيه من بني عدي بن النجار، وليعرف قبر أبيه الذي دفن في دارهم، وليعلم أصوله من جهة أمه كما علمها من جهة أبيه.
وأخذته صلى الله عليه وسلم ورحلت به على ناقتين لها، ومعهما أم أيمن، ومكثت في المدينة شهرا كاملا؛ ليتمكن وليدها الصغير من التعرف بالمكان وأهله، ويرى ما هم فيه من عادات وأديان وأعمال، من خلال لعبه مع الصغار، أو جلوسه مع الكبار.
وعند عودة آمنة من المدينة إلى مكة ماتت في الطريق عند الأبواء1 ودفنت بها.. ورجعت القافلة مرة أخرى إلى مكة بلا آمنة، فاستقبلها عبد المطلب، وضم حفيده إليه، فكفل محمدا صلى الله عليه وسلم ومعه حاضنته "أم أيمن" تخدمه.
وبقيت ذكريات رحلة المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر في الإسلام إلى المدينة المنورة بعد سبع وأربعين سنة؛ نظر إلى أطم2 بني النجار وقال: "كنت ألاعب "أنيسة" -وهي جارية من الأنصار- على هذه الأطم، وكنت مع الغلمان أبناء أخوالي نطير طائرا كان يقع علينا، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار"، وقال:"وفي دار بني عدي نزلت مع أمي، وفيها قبر أبي"3.
1 الأبواء: قرية صغيرة بين مكة والمدينة، بينها وبين المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
2 الأطم: الحصون، ومفردها أطمة.
3 الطبقات الكبرى ج1 ص116.
إنها ذكريات باقية بصورتها وحقيقتها.. وكان صلى الله عليه وسلم يذكر حاضنته أم أيمن ويقول: "أم أيمن أمي بعد أمي"1.
وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة أيضا قبر أمه فبكى وأبكى، فلما سئل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: "تذكرت رحمتها فبكيت"2.
وبموت آمنة فقد الرسول أبويه، ووجد نفسه وحيدا فريدا، حرم من الآباء والإخوة، ولو كان غير محمد لأصابه الكثير، إلا أن الرعاية الإلهية كانت معه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قام عبد المطلب بكفالته بعد رجوعه إلى مكة مباشرة، وشمله بعنايته واهتمامه، وكان يرعاه أكثر من أبنائه.
كما أحاطته أم أيمن رضي الله عنها بالرعاية والخدمة، وكانت تخاف عليه من أي أذى يلحق به، وبخاصة أنها رأت من يهود المدينة ما جعلها تخاف عليه منهم، تقول رضي الله عنها:"وكان قوم من اليهود يختلفون إليه، وينظرونه ويتفرسون فيه، تقول أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم"3.
وبقيت هذه الحادثة في ذاكرتها؛ ولذلك نراها بعد عودتها إلى مكة، تذهب به إلى جده عبد المطلب ليكفله، فكفله مرحبا به، وقربه منه، ولما قارب أجله، وصى ابنه "أبا طالب" ليكفله من بعده، وهكذا عاش صلى الله عليه وسلم مع جده، ومن بعده مع عمه، مكرما مصانا.
عناية عبد المطلب بحفيده:
عاد محمد صلى الله عليه وسلم وحيدا إلى جده، فضمه إليه، وقربه من نفسه، ورق عليه رقة لم ينلها أحد من ولده، وكان يتفقده إذا خلا، وإذا نام.
قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ بابنك هذا فإن له شأنا، وإنا لم
1 الطبقات الكبرى ج1 ص116.
2 المرجع السابق ج1 ص117.
3 المرجع السابق ج1 ص118.
نرَ قدما أشبه بقدم إبراهيم الذي في المقام منه، فسُر كثيرا، وأتى بولده أبي طالب وقال له: اسمع ما يقول هؤلاء، فسمع منهم، واحتفظ بما سمع إقرارا بضرورة الاهتمام بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء عبد المطلب لحاضنته "أم أيمن" وكان اسمها "بركة" وقال لها: يا بركة، لا تغفلي عن ابني هذا، فإني وجدته من غلمان قريبا من السدرة، وإن أهل الكتاب يرون أن له شأنا.
وقد عمد عبد المطلب أن ينشئ حفيده نشأة الرجال الكبار، يقول ابن إسحاق:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك، حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له"، يقول ابن إسحاق:"فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول لهم عبد المطلب حين رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع"1.
ويبدو أن هذه الواقعة تكررت مع غير أبناء عبد المطلب، فلقد روى ابن جريج قال: "كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الأنداد من قريش -حرب بن أمية فمن دونه- يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى، فقال عبد المطلب وذلك بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟
قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه.
1 الروض الأنف ج1 ص195.
فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده"1.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا ناداه ليأكل معه، ويقول لمن حوله: علي بابني، فيؤتى إليه، ويأكل معه.
يروي كندير بن سعيد عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز، ويقول:
يا رب رد لي راكبي محمدا
يا رب رده واصطنع عندي يدا
فقلت: مَن هذا؟
قالوا: هذا عبد المطلب، ذهبت إبل له، فأرسل ابن ابنه محمد في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه هذه المرة.. يقول الراوي: فما برحت حتى أنظر ما يحدث، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالإبل، قال له جده: يا بني، لقد حزنت عليك حزنا، لا تفارقني أبدا2.
وكان هذا الاهتمام بمحمد هو شأن عبد المطلب منذ مولد رسول الله، حتى عرف ذلك عنه؛ ولذلك حينما افتقدته حليمة السعدية مرة، لم تجد سوى جده، فأتت إليه، وأخبرته بضياعه ليبحث عنه..
يقول ابن إسحاق: "إن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس، وهي مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدري أين هو؟! فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، يقول ابن إسحاق: وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك
1 سير أعلام النبلاء ج1 ص56.
2 سير أعلام النبلاء ج1 ص54.
وجدنا بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فحمله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يعوذه، ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه آمنة"1.
ولما شعر عبد المطلب بدنو أجله، وصى ابنه أبا طالب بكفالته2، فكفله عمه أبو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب، وعُمْر النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات، وقد اشترك في دفن جده، وسار خلفه وهو يبكي، وقد دفن عبد المطلب بالحجون3.
يقول ابن سعد: "ومات عبد المطلب فدفن بالحجون، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة، ويقال: ابن مائة وعشر سنين.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟
قال: نعم، أنا يومئذ ابن ثماني سنين.
قالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطلب"4.
عناية أبي طالب بابن أخيه:
عاش النبي صلى الله عليه وسلم في كفالة عمه أبي طالب، تحيطه رعاية الله الذي حفظه من ذل اليتم وضرر الفقر.
تهيئة أبي طالب لكفالة محمد قدر إلهي خالص؛ لأن أبا طالب كان كثير العيال، فقير الحال، وكان الطعام يقدم لأولاده، فيتطاولون عليه لقلته، وكان الفقر باديا عليهم، يقول السهيلي: كانوا يصبحون غمضا، رمضا، مصفرة ألوانهم من الجوع.
ومع هذا الحال، فإن أبا طالب اهتم بوصية أبيه، وضم محمدا لأبنائه، وخصه بالرعاية والتوجيه، وكان يجالسه ويناقشه.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص167.
2 البداية والنهاية ج2 ص282.
3 سير أعلام النبلاء ج1 ص56.
4 اختار عبد المطلب ولده أبا طالب ووصاه بمحمد دون بنيه؛ لأن أبا طالب هو الشقيق لعبد الله من الأب والأم، فأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ من بني مخزوم، وكان جميع أبناء عبد المطلب يهتمون بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ومن رعاية الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أبي طالب أنه كان إذا وضع الطعام لأولاد أبي طالب سبقوه إليه، ويتقاصر هو، وتمتد أيديهم، وتنقبض يده تكرما واستحياء وقناعة، ومع ذلك يصبح صقيلا دهينا، كأنه في أنعم عيش، وأعز كفاية؛ لطفًا من الله عز وجل.
رأى محمد رغم صغره حاجة عمه أبي طالب للمال، فأخذ على عاتقه أن يعمل ويكتسب شيئا يعين به عمه.
وأراد الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الناس، ويختلط بهم، ويتعامل معهم، في بيئته، وبعيدا عنها؛ لينال أهلية الرسالة بصورة عملية تطبيقية.
إن التربية العملية لها دور رئيسي في بروز الشخصية السوية، وكلما اختلط الصغير بالناس اكتسب خبرة ومعرفة، وكلما سافر ورحل عرف المزيد؛ لهذا نرى -والله أعلم- أن الله هيأ لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم مجالا رحبا لهذه التنشئة..
لقد عاش في بادية بني سعد خمس سنوات، اختلط بالناس وقام بالعمل والنشاط، تقول حليمة:"بينما هو صلى الله عليه وسلم يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا"1.. ورحل إلى المدينة برفقة أمه في رحلتها التي ماتت فيها.. وأقام بالمدينة شهرا.. وفي كفالة جده اختلط بحكماء مكة ورجالاتها..
ومع عمه أبي طالب رأى حنان الأب واهتمامه؛ حيث كان يصطحبه معه أينما ذهب، وكان يحبه حبا شديدا، لا يتركه ينام إلا بجواره، ولا يخرج إلا في معيته، ولا يطعم أبناءه إلا وهو معهم.
وكان عمه لا يطمئن عليه إلا وهو معه؛ ولذلك كانت ملازمته له دائمة ومستمرة.
1 سير أعلام النبلاء ج1 ص51.
وهيأ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أسباب الاتصال بالناس، والالتقاء بهم، مع اختلاف المذاهب والاتجاهات والعادات، فقام بأعمال عديدة ذكرها مؤرخو السيرة، ومنها ما يلي:
أولا: الرحلة الأولى إلى الشام، وقصة بحيرى الراهب
أراد أبو طالب أن يسير في ركب الشام للتجارة، فلما عزم على السفر تعلق به محمد صلى الله عليه وسلم قائلا له:"أي عم، إلى مَن تخلفني هاهنا؟ "، فرق له قلب عمه، وأخذه معه، وأردفه خلفه على بعيره، واتجهوا صوب الشام مع القافلة.
وكان للنصارى عدد من الأديرة في الطريق، يسكنها الرهبان المنقطعون للعبادة، وهم الذين يعلمون ما بقي من دين عيسى عليه السلام، ويبدو أن هؤلاء الرهبان كانوا على علم بأوصاف النبي المنتظر {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} 1، وكما يقول الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2.
لقد وصلت هذه المعرفة لديهم أن علموا ضرورة أن يكون النبي يتيما، وأن يكون موسوما بخاتم النبوة، وأن خوارق الطبيعة تحيط به، وكانوا يعلمون أن هذا النبي سيلقى كراهية اليهود؛ لأنهم يرغبون في أن تكون النبوة لهم ومنهم.
ويبدو أن هذه المسألة كانت معلومة لعديد من الرهبان والقسس؛ لأن ركب أبي طالب ومحمد نزل أولا في دير قريب بشمال الحجاز، فالتقوا مع صاحبه، فنظر صاحب الدير لمحمد، وقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟
1 سورة الأعراف آية 157.
2 سورة البقرة آية 146.
فقال أبو طالب: هو ابني.
فقال الراهب: ما هو ابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي.
قال أبو طالب: ولِمَ؟
قال الراهب: لأن وجهه وجه نبي، وعينه عين نبي.
فقال أبو طالب: وما النبي؟
فقال له الراهب: الذي يوحى إليه من السماء فينبئ أهل الأرض، فاتقِ عليه من اليهود.
لقد كانت هذه الأديرة أماكن يستريح بجوارها المارة الذاهبون إلى الشام أو العائدون منها، ففيها من أسباب الحياة ما يشجع على الراحة عندها.
وكان أبو طالب يسمع من راهب الدير الذي ينزل عنده ما سمعه من غيره، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن أخي، ألا تسمع ما يقولون؟
فقال له محمد: أي عم، لا تنكر لله قدرة!!
وكانت الوقفة الكبرى حين بلغ الركب مدينة بصرى، فنزل الجميع وجلسوا تحت شجرة قريبة من دير "بحيرى".
يقول ابن إسحاق: "فلما نزل الركب أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيرى، في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها، يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم، ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك عن شيء رآه، يذكرون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، تتحرك بحركته، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا من بحيرى، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بالطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟!
قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما، فتأكلوا منه كلكم.
فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم؛ لحداثة سنه، فبقي في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى في القوم لم يرَ الصفة التي يعرف، ويجدها عنده.
فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في الرحال.
فقال: لا تفعلوا، ادعوه، فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأحضره، وأجلسه مع القوم.
فلما رآه بحيرى، جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، وقد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك وحلف باللات والعزى؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما".
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه.
فقال له: سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من قومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني.
قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا.
قال: فإنه ابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده"1.
وقد أورد الإمام الترمذي هذه الحادثة وزاد فيه: "حين سأله أشياخ من قريش عن سبب ما فعل قال لهم: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به وكان هو في رعي الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه.
1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي، ويقول ابن حجر: رواتها ثقات.
فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، وبينما هو قائم عليهم، يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلوه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: جئنا لهذا النبي الذي أظلنا زمانه، فلم يبقَ طريق إلا بعث إليه بأناس منا، وإنا قد بعثنا إلى طريقك هذا.
فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خيرتنا لك، لطريقك هذا.
قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟
قالوا: لا.
فلما رد الرومان قال لأبي طالب ومَن معه: أنشدكم الله أيكم وليه؟
قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب"1.
ويبدو أنها حادثة أخرى؛ لأن رواية ابن إسحاق كان التحذير من اليهود، والتحذير في هذه الحادثة كان من الروم، وأيضا فإن الحادثة الأولى حددت اسم الراهب وهو بحيرى، بينما هذه الحادثة لم تذكر اسما معينا.
وخلاصة هذه المرويات تثبت هذه الرحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومصاحبته لعمه، ومعرفة أهل الكتاب بقرب مبعثه، وكراهيتهم لعروبة هذا النبي المبعوث الذي تمنوه منهم، يقول الله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2.
1 الجامع الصحيح سنن الترمذي ج5 ص590.
2 سورة البقرة آية 89.
وقد روى الهيثمي عددا من الآثار تشهد على علم أهل الكتاب بأمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا تأكيد لما جاء في القرآن الكريم.
يروي سلمة بن سلامة بن وقش -وكان من أصحاب بدر- قال: "كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، وأنا يؤمئذ أحدث من فيه سنا، عليَّ بردة، مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر البعث، والقيامة، والحساب، والميزان، والجنة، والنار.
قال ذلك لقوم أهل أوثان وأصحاب شرك، لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت.
فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا، إن الناس يبعثون بعد موتهم، إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم.
قال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بدل تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، يم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وإنه ينجو من تلك النار غدا.
قالوا: ويحك! وما آية ذلك؟
قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟
فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سنا فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويلك يا فلان! أليس قلت لنا فيه ما قلت؟
قال: بلى، وليس به أومن"1.
وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن سافر مع عمه اثنتي عشرة سنة2..
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج8 ص420.
2 أنساب الأشراف ج1 ص96.
الأمر الذي مكنه من استيعاب كل ما رأى وما سمع، مما جعل الرحلة تربية عملية، استفادة تجريبية من المعاشرة والاختلاط، والنظر والتحليل، والفهم والتدبر.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد على فسحة الصحراء الممتدة الواسعة، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة، وجعل يمر بمدين، ووادي القرى، وديار ثمود، وتستمع أذناه إلى حديث العرب، وأهل البادية، وأخذ يتأمل هذه المنازل، وأخبارها، وماضي نبئها.
وفي هذه الرحلة وقف في بلاد الشام عند الحدائق الغناء، وعرف أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم، وعن مناوأة الفرس "عُبَّاد النار" لهم، وانتظارهم الوقيعة بهم.
لقد كان له صلى الله عليه وسلم من عظمة الروح، وذكاء القلب، ورجحان العقل، ودقة الملاحظة، وقوة الذاكرة، وغير ذلك من صفات حباه القدر بها ما مكنه من معرفة الواقع الحياتي لكل من قابله، تمهيدا للرسالة العظيمة التي أعده الله لها، الأمر الذي جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟
ويبدو أن أبا طلب لم يستفد من رحلته مالا كثيرا، فعاد إلى مكة، ولم يرجع لمثلها بعد ذلك، وبقي في مكة، يقنع بالقليل ينفقه على أبنائه الكثيري العدد.
ثانيا: رعي الغنم
عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ورأى قلة مال عمه، وكثرة أولاده، فرغب في مساعدته، وهداه الله للعمل بأجرة لأهل مكة، فرعى لهم غنمهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"1.
والقيراط عملة فضية تمثل جزءا من الدينار أو الدرهم.. ومن قال: إنها جزء من الأرض فقد وهم؛ لأن قيراط الأرض لم يعرف إلا في مصر.
عن أبي سعيد الخدري قال: افتخر أهل الإبل والشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم، أرعاها لأهلي بأجياد"2.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الطهران، ونحن نجني الكباث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالأسود منه، فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم"، فقلنا: يا رسول الله، كأنك رعيت الغنم، قال:"نعم، وهل من نبي إلا وقد رعاها!! "3.
ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رعى الغنم لحليمة مع غلام لها، كما سبق في حديث شق الصدر، حين جاءه الملكان وشقا صدره.
وللمرء أن يتساءل: وما الحكمة في رعي الغنم؛ حتى يقدرها الله لأنبيائه جميعا؟..
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الإجارة - باب رعي الغنم على قراريط ج4 ص441.
2 المسند ج3 ص42، وفتح الباري ج4 ص441.
3 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الأشربة - باب فضيلة الأسود من الكباث ج4 ص5، والكباث: ثمر الأراك الناضج.
أرى -والله أعلم- أن الحكمة في رعي الغنم هي تربية الأنبياء على ما سيكونون عليه حين تكليفهم بالنبوة، وليتعلموا حسن التعامل مع الناس.
وأهم هذه الفوائد ما يلي:
1-
التعود على المسئولية:
إن ثقل التكليف يحتاج إلى طاقات بشرية تتحمله، والنبوة تكليف شاق؛ لأنها تعني إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإنقاذ البشر من ضلالات الهوى ليسعدوا بنور الإيمان وبرد اليقين. إن النبوة قمة الأمانة والمسئولية، وحاجتها إلى رسول يتحمل مشاقها ومصاعبها ضرورة لا بد منها.
ورعي الغنم عمل شاق، يكفي في تصور مشقته أن الراعي يعيش واقفا ومتحركا طوال الوقت؛ حيث تسرح الغنم وتمرح، وهذه أعمال في حد ذاتها تحتاج إلى قوة وطاقة؛ ولذلك كان رعي الغنم مقدمة للنبوة لما فيهما معا من مشقة وتعب..
2-
تعليم الصبر والتحمل:
تحتاج النبوة إلى التخلق بالخلق الكريم، والاتصاف بالحلم والصبر، وذلك أمر يحققه رعي الغنم؛ لأن القطيع يرعى وهو مطلق السراح، فيتوزع هنا وهنا، وكلما يجمعه الراعي يعود من حيث أتى، وذلك أمر يحتاج إلى الصبر والتحمل، وبدون ذلك لا يمكن للراعي رعي الغنم..
ومن رعي الغنم إذن تعلَّم الأنبياء الصبر والتحمل في دعوة الناس؛ لأن المدعوين ليسوا على اتجاه واحد، وإنما لكل اتجاهه ومذهبه وجدله، والنبي مسئول عن تبليغ الدعوة للناس على الوجه الصحيح؛ ولذلك وجب أن يكون صابرا حليما.
يقول ابن حجر: "إن مخالطة الغنم يحقق الحلم والشفقة؛ لأن النبي إذا صبر على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع، وسارق، وغير ذلك، ألف من ذلك الصبر على الأمة، وتحمل
اختلاف الطبع، وتفاوت العقول، ويكون تحمله لمشقة ذلك أسهل بعد تدريبه عليه"1..
2-
شمول الرعاية:
راعي الغنم يحتاج إلى سعة الأفق وهو يدبر أمر غنمه؛ لتعدد جوانب الرعاية التي تحتاج إليها، ففيها الصغير المحتاج للرضاعة، وفيها الذكر، وفيها الأنثى، كما أنها تحتاج دائما إلى البحث عن مصادر أكلها وغذائها، ولا بد لها من حراسة تحميها من الذئاب واللصوص، ومن الضروري المحافظة عليها من شدة الحر، وقسوة البرد، وكثيرا ما تنتابها الآلام والأوجاع، وعلى الراعي متابعة ذلك، ومن مسئوليات الراعي تدبير أمر مبيتها في الخلاء، أو في البناء.
إنها مسئوليات عديدة، لا يصلح لها ضيق الأفق، العاجز حمايتها، وإعداد كافة الجوانب التي تحتاج إليها.
ولذلك كان رعي الغنم تدريبا عمليا على مباشرة أعمال النبوة لتعدد المسئوليات النبوية، فعلى النبي أن يعلم حدود ما كلف به، ويحسن فهم من سيدعوهم، ولغة من سيخاطبهم، حتى إذا سئل أجاب، وإن عورض رد، وإن واجه عدوا قاومه بالحسنى.. كل ذلك في قوالب عديدة وصور كثيرة.
إن تعدد المسئولية في رعي الغنم باب يعلم النبي ضرورة قيامه الأمر، والدعوة إليه بصورة كاملة، تامة، شاملة.
4-
التسوية والعدل بين الناس:
يحتاج النبي إلى تبليغ الدعوة لسائر الناس على وجه يتناسب مع كل واحد منهم، ولا يقدم واحدا، ويترك غيره، ولا يهتم بغني على حساب فقير، ولا يتصور أن الخير في هذا أو في ذاك، فيفضله على غيره.
1 فتح الباري ج4 ص441.
ورعي الغنم يحقق هذا الخُلُق؛ لأن الراعي عليه أن يرفق بالضعيف، ويحيطه بعنايته، فلو ولدت نعجة في الطريق فعليه حمل المولود بيده؛ ولذلك نراه يسير خلف القطيع ليكون في عون الضعفاء، ويراعي الأقوياء.
5-
تعليم التواضع:
إن قيام الأنبياء برعي الغنم يعوِّدهم التواضع وترك الكبر؛ لأن رعاية الغنم والحرص عليها يحتاج إلى العمل الدءوب بعيدا عن الخيلاء؛ حيث لا فخر بعمل كله تعب ومشقة، تحت حر الشمس، أو في برد الشتاء، والنبوة في حاجة إلى هذا التواضع الذي يجعل الأنبياء يتعاملون بالخلق الكريم مع كافة الناس، مع الرجال والنساء، مع الأغنياء والفقراء، مع الكبير والصغير، مع العظيم والحقير، وبذلك كانوا أمثلة عليا، وقدوة سامية.
وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله أنه رعى الغنم دليل على عظيم تواضعه، اعترافه بفضل ما مَنَّ الله عليه به.
6-
التعامل مع الناس:
يقتني الغنم عديد من الناس، ورعاتها كثيرون، وكل راعٍ يجد نفسه يتعامل بالضرورة مع كثير من أقرانه الرعاة؛ حيث يجلسون في وقت الراحة، ويتسامرون، ويتناقشون، وفي ذلك فرصة للأنبياء يتعرفون بها على الناس؛ لتتم دعوتهم بعد ذلك بما يناسبهم ويفيدهم.
7-
الشجاعة:
الراعي يعمل على حماية غنمه من الذئاب واللصوص وغيرها، وهو لذلك يحتاج إلى شجاعة تعينه على هذه الحماية ليلا ونهارا، والأنبياء وهم يقومون بالدعوة يتصدى لهم الأعداء من شياطين الإنس والجن، وهم محتاجون للشجاعة والجرأة، حتى يمكنهم القيام بواجب الدعوة.
8-
التأمل والتفكير:
وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجو الطلق أثناء النهار، وفي تلألؤ النجوم إذا جن الليل موضعا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرا لهذ الكون وخلقه.
أليس هو يتنفس هواءه ولو لم يتنفسه لمات؟!..
أليست تحييه أشعة الشمس، ويغمره ضياء القمر، ويتصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعا؟!..
هذه الأفلاك والعوالم التي يراها في فسحة الكون أمامه، متصلا بعضها ببعض في نظام محكم {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} !!
وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضل إحداها في مهامه البادية، فأي انتباه وأية قوة تحافظ على نظام العالم كله مع إحكامه الموجود؟!!..
إن رعي الغنم مدرسة تحتاج إلى قوة البدن، وقوة العزيمة، والهدوء والأناة، مع الصدق والإخلاص، وقصد الاستفادة والتعلم.
وقد جعل الله رسله رعاة للغنم ليتعلموا منها الكثير، في إطار معونة الله ورعايته لهم.
ولكن، لِمَ كانت الفوائد في رعي الغنم خاصة دون سائر الأنعام كالإبل والبقر وغيرها؟..
وأرى أن السر في اختيار الغنم لذلك -والله أعلم- كثرة عددها، وسرعة حركتها، وسهولة تفرقها؛ لعدم ربطها أو تقييدها، أما الإبل والبقر والخيل، فعددها قليل وربطها وتقييدها بالحبال أمر عادي، وكأن الله تعالى يعلم رسله عليهم السلام حسن التعامل مع الناس وهم أحرار.
وأيضا فإن السيطرة على الغنم المتفرقة سهل، وانقيادها للراعي لا يحتاج لجهد كبير؛ لأنها بنداء واحد أو بإشارة بالعصا تعود لمكانها، أما البقر والخيل والإبل فلا.
ومن هنا كان اختيار الغنم يرعاها الأنبياء ليتعلموا قيادة أشتات من الناس، ومخاطبة العديد من العقول، والتفاهم مع كافة لغات ولهجات المدعوين، الذين يصيخون للحق، ويؤمنون به.
وهكذا رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم في مكة..
ثالثا: حرب الفجار
الإجارة عند العرب عهد لا يمكن الفكاك منه، وهو وعد يعطيه العربي لضعيف يلجأ إليه، ويلتزم بإنفاذه له، وكان الضعفاء أو المحتاجون يلجئون إلى مَن لديه قوة للحماية والنصرة فيجيرهم، ويعلن ذلك للناس، وبعدها تلتزم قبيلته معه في إنفاد ما وعد به مهما كلفهم ذلك، وبخاصة إذا كان من المقدمين فيهم.
وقد تقع الحرب بين القبائل بسبب هذه الحماية، وكثيرا ما وقعت.
وحروب العرب هي أيامهم التي كانوا يتواعدون عليها، وكثيرا ما جعلوها قريبة من البيت مع أوقات أسواقهم وتجاراتهم.
ومن أشهر أيام العرب التي وقعت بسبب الإجارة حرب الفجار -بكسر الفاء وفتح الجيم الممدود- التي هاجت بين العرب، واستمرت خمسة أعوام، واشترك فيها محمد صلى الله عليه وسلم وعمره خمسة عشر عاما.
وسبب وقوعها أن النعمان بن المنذر أتى مكة بإبل تحمل الحرير والعطر، ويسميها العرب "لطيمة"، أتى بها لبيعها في سوق عكاظ، فلما نزلت عند بئر "أوارة" أراد البراض بن قيس -وكان صعلوكا خليعا- أن يستولي على اللطيمة لضعف صاحبها المنذري، وبعد قومه من مكة، فاستجار النعمان بـ"عروة الرحال بن ربيعة" ليقوي ضعفه، ويصد عنه عدوان كنانة، فأجار عروة اللطيمة، وأصبح العدوان عليها عدوانا على عروة وقبيلته.
فجاء البراض بن قيس أحد بن ضمرة يعاتب عروة، ويقول له: أتجير اللطيمة على كنانة؟!!
فقال عروة: نعم، وأجيرهم على الخلق كلهم.
وأدت هذه المواجهة الساخنة بني الرجلين إلى أن خرج عروة الرحال في سفره فتبعه البراض بن قيس، يطلب غفلته لينال منه، حتى إذا وصلا إلى "تيمن ذي
ظلال" وهو وادٍ بعالية نجد1 غفل عروة، وهو ابن ربيعة بن جعفر بن كلاب، فوثب عليه البراض، وقتله في شهر شوال، وهو من الأشهر الحرم، وتعرف هذه الحرب بـ"فجار البراض".
أدى مقتل عروة إلى قيام حرب الفجار -بكسر الفاء وفتح الجيم2- وسماها العرب بهذا الاسم بسبب وقوعها في الأشهر الحرم؛ لأنهم لما تقاتلوا لم يأبهوا بحرمة الأيام، ولا بحرمة المكان، وقالوا: قد فجرنا وارتكبنا ذنبا عظيما، وبذلك سميت الحرب بهذا الاسم3.
وقيل: إنما سميت بذلك لأن كلا الطرفين استحلا من المحارم بينهم ما لم يكن يقع في أيام العرب الأخرى4.
وقد جاء خبر مقتل عروة إلى قريش، وهي بعكاظ فتركت السوق، ورحلت حيث عروة، وهوازن لا تشعر، وانفض السوق، ولم يقم بعكاظ سوق هذا العام.
علمت هوازن بعد ذلك أن قريشا ذهبت تيمن ذي ظلال، فاتبتعها ورأتها راجعة إلى مكة، وأدركتها قبل أن تدخل الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل.
فلما دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن فوقفت الحرب، ولكنهم تواعدوا على اللقاء في عكاظ من العام القادم حيث كان يوم شمطة، وقد استمرت أيامهم بعد ذلك مدة طويلة.
وانتظم الفريقان خلال اقتتالهما تحت قيادة واحدة لكل قبيلة، حيث كان لكل بطن من قريش وكنانة رئيس منهم، ولكل قبيلة من قيس رئيس منهم، وعلى القبائل جميعا عند كل طرف رئيس واحد، وبهذا التنظيم يلتزم كل فرد بما يوجبه عليه العرف القبلي؛ حفاظا على وضع القبيلة، وحماية لها من الذل والهوان.
1 معجم البلدان ج2 ص68، وتيمن ذي ظلال: ليس تيمن الموجودة بين جرش وتبالة من مخالفي اليمن.
2 انظر: لسان العرب - مادة فجر ج6 ص354، ط الدار المصرية للتأليف.
3 الروض الأنف ج1 ص211.
4 سيرة ابن هشام ج1 ص186.
ولذلك أشرك أبناء عبد المطلب محمدا صلى الله عليه وسلم معهم في حرب الفجار، وكانت هذه المشاركة تجربة عملية، عاشها مع أعمامه وأقرانه من غير أن يكون منه عدوان أو ظلم، وبخاصة إذا علمنا أن أيام العرب كانت نادرة الدم، فهي عبارة عن تدريب ويقظة، وحراسة مستمرة، ومواجهة ينشغل بها أبناء القبيلة جميعا، حتى لا يتركوا غفلة لخصومهم، وكانوا يحددون لحروبهم أياما يتقابلون فيها في مكان معين، وفي موعد معين، وكأنها مباراة دورية، ومبارزة تنتهي بانتصار طرف، وانسحاب الفريق المنهزم، وبعدها يحددون موعدا جديدا في مكان يتفقون عليه، وأغلب أيام الفجار كانت في عكاظ.
يدل على ندرة الدم في أيام العرب أن هوازن حين عرض الصلح عليها، أخذت أربعين رجلا من قريش رهينة لديها حتى تأخذ دية قتلاها، الذين بلغوا هذا العدد طوال أيام الفجار التي استمرت خمسة أعوام.
إن حربا تقع بين قريش وكنانة بقبائلهما وبطونهما، وبين هوازن بكل ما تشتمل عليه، وتستمر خمسة أعوام، ويقتل من هوازن أربعون رجلا، ويقتل من قريش عشرون رجلا فقط، لدليل على قلة القتلى في أيام العرب.
والجانب الضعيف هو جانب هوازن؛ حيث انتصر القرشيون في يوم الشرب أكبر أيامهم، وانتصرت هوازن في يوم الحريرة انتصارا جزئيا؛ لأن بني نصر من قريش ثبتوا فيها، ولم ينسحبوا، مع أن هذه الأيام كانت تقع قرب ديار هوازن عند عكاظ، وقد دفعت قريش لهوازن دية عشرين قتيلا وهو العدد الزائد عن قتلاهم.
وأيام حرب فجار البراض هذه1 ستة، هي:
1 فجارات العرب أربعة:
الفجار الأول: بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن بدر بن معشر -أحد بني عقال بن مليك من كنانة- جعل له مجلسا بسوق عكاظ، وكان حدثا منيعا في نفسه، ثم كان أن افتخر في السوق وتصدى له الأحيمر بن مازن أحد بني دهمان، ثم تحاور الحيان عند ذلك حتى كاد أن تكون بينهما الدماء ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير. =
1-
يوم نخلة: وهو يوم مقتل عروة حيث هبت قريش لعروة فتبعتهم هوازن، وأدركتهم قبل دخولهم الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فلما دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن، فكان كفافا، لا على هؤلاء، ولا على هؤلاء.
2-
يوم شمطة: وهي الوقعة الثانية للفجار، والمؤرخون يعدونها الأولى؛ لأن اليوم الأول تم بصورة تلقائية كرد فعل على قتل عروة، وأتصورهم يعدون الأيام التي يتم التواعد فيها، وكان النصر في يوم شمطة لقريش وكنانة أول الأمر ثم انقلب لهوازن آخره.
3-
يوم العبلاء: وهو جبل صغير قرب عكاظ، صخره أبيض، وقعت في الواقعة، وكان النصر لهوازن..
4-
يوم الشَّرِب: بفتح الشين مشددة وكسر الراء، وبها كانت وقعة الفجار العظمى التي يقع للقرب مثلها، وفي هذا اليوم قيد حرب بن أمية وسفيان وأبو سفيان أنفسهم كي لا يفروا؛ ولذا سموا بـ"العنابس" أي: الأسود لشجاعتهم، وكان النصر في هذا اليوم لقريش.
5-
يوم الحريرة: والحريرة تصغير حرة، وادٍ بين الأبواء ومكة قرب نخلة، وفيه انهزمت قريش ما عدا بني النصر، فقد ثبتت ولم تنهزم.
= الفجار الثاني: وكان بين قريش وهوازن، وكان الذي هاجه فتية من قريش، تعرضوا لامرأة من بني عامر بن صعصعة، فهاجت الحرب، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، تحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم.
الفجار الثالث: كان بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دية لرجل من بني نصر، فأعدم الكناني، فغير النصراني ذلك قومه بسوق عكاظ، فقام إليه كناني فضربه، ثم تهايج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم تراجعوا.
الفجار الرابع: ويعرف بفجار البراض، وهي التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، وهي أخطرها؛ لأن الفجارات الأخرى لم يحدث فيها قتال، وإنما كانت تنتهي بالصلح والحوار، والبحث هنا يتناول هذا الفجار الرابع.
6-
يوم عكاظ: وهو اليوم الذي تصالحوا فيه.
وقد استغرقت تلك الأيام خمس سنوات1.
قصة الصلح بعد هذه الفجار:
تواعدت هوازن وكنانة على التقابل في عكاظ، وحضروا في الموعد المحدد، وقبيل التراشق بالسهام، وجد الصفان بينهما عتبة بن ربيعة، وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة قد ضربه، ومنعه من الخروج شفقة عليه ليتمه وصغره؛ لأنه لم يكن قد أتم الثلاثين بعد، إلا أنه خرج سرا، ولم يشعر به أحد، وفوجئ به حرب على بعيره بين الصفين ينادي: يا معشر مضر، علامَ تفانون؟.. وإنما ناداهم باسم مضر لأنه الجد الجامع لقريش وهوازن وكنانة.
فقالت هوازن: ما تدعو إليه؟
قال عتبة: أدعوكم إلى الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم، وتعفوا عن دمائنا.
قالوا: وكيف ذاك؟
قال: ندفع لكم رهنا منا.
قالوا: ومَن لنا بهذا؟
قال: أنا.
قالوا: ومن أنت؟
قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
فرضوا، ورضيت كنانة، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا، منهم حكيم بن حزام، بعد أن عدوا قتلاهم وقتلى قريش وكنانة، وجعلوا رجلا برجل، ثم أخذوا دية مَن زاد منهم، فأخذوا دية عشرين رجلا.
فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء، وانقضت حرب الفجار2.
1 الروض الأنف ج1 ص212.
2 الروض الأنف ج1 ص211.
اشتراك محمد صلى الله عليه وسلم في حرب الفجار:
هاجت حرب الفجار وعمر محمد صلى الله عليه وسلم خمسة عشر عاما، وانتهت وهو في العشرين من عمره.
والروايات عن اشتراك محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الحرب كثيرة، يذكر ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترك في هذه الحرب دفاعا عن أعمامه؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم:"كنت أنبل على أعمامي" أي: أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها1.
ويقول ابن سعد: إن محمدا حضر الحرب مع أعمامه، ورمى بالسهام2.
وأرى -والله أعلم- أن اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم في حرب الفجار كان لمساعدة أعمامه بإعداد النبال لهم والدفاع عنهم، من غير عدوان على أحد من خصوم قومه، أو محاولة النيل منهم على غرة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول:"ما أحب أني لم أكن فعلت"3.
إن الله الذي صرف محمدا صلى الله عليه وسلم في شبابه عن كل ما كانت الجاهلية تفعله هو سبحانه الذي أبعده عن الفجور في هذه الأيام، وإنما كان اشتراكه -والله أعلم- لتحقيق بعض الفوائد، ومن أهمها:
1-
مخالطة قبائل العرب بسائر أفرادها، الكبار والصغار، حين تجمعهم للحرب والقتال؛ لمعرفة أحوالهم وطبائعهم، وطرق تفكيرهم في هذه الظروف العصيبة.
2-
معركة كيفية نظم الحرب التي يباشرها العرب؛ حيث سيحتاج إلى هذه المعرفة فيما بعد.
1 سيرة ابن هشام ج1 ص210.
2 الطبقات الكبرى ج1 ص128.
3 الطبقات الكبرى ج1 ص128.
3-
التدرب على أعمال الحرب الشاقة؛ حيث الحاجة إلى جهد كبير، في الليل والنهار، وتحت ظروف مناخية متقلبة، وفي ظروف قد ينعدم فيها الطعام ويندر الماء.
4-
المساهمة مع قومه في أعمالهم، وأداء حق القرابة لهم؛ لأنه قريبا سيطالبهم بحق القرابة له، والمحافظة على ما للقربى من مودة وتعاون ونصرة.
هذا بعض ما يمكن تصوره في مجال الفوائد التي اكتسبها النبي صلى الله عليه وسلم باشتراكه في حرب الفجار.. مع ملاحظة أن الله سبحانه وتعالى نجاه من العدوان والظلم فيها، وقصر نشاطه على خدمة أعمامه والنبل عنهم.
رابعا: حلف الفضول
من أعظم ما فعل العرب قبل الإسلام حلف الفضول -بضم الفاء- وقد شاهده النبي صلى الله عليه وسلم وعمره عشرون سنة؛ لأنه كان في ذي القعدة بعد انتهاء حرب الفجار في شوال، قبل المبعث بعشرين عاما، والحلف يعني: العهد والبيعة وأخذ الميثاق بين أفراد أو جماعات حول موضوع ما.
وأول مَن تكلم في هذا الحلف ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل السهمي -وكان ذا قدر وشرف بمكة- فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، فأبوا أن يعينوا الزبيدي على العاصي بن وائل وزبروه ونهروه، فلما رأى الزبيدي الشر، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
…
يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت مكارمه
…
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟
فاجتمعت بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسيد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتحالفوا في ذي القعدة، في شهر حرام، قياما، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفه، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"، ثم مشوا إلى
العاصي بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي ودفعوها إليه1.
والسر في تسميته بالفضول أن العرب بعدما تحالف هؤلاء قالت: "لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر" ي: قاموا بعمل فاضل.
ويذكر ابن قتيبة سببا آخر للتسمية؛ وهو أن جرهم في الزمن الأول عقدوا حلفا بين ثلاثة رجال منها، هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، وفضيل بن الحارث، فلما أشبه حلف قريش حلف هؤلاء سمي باسمهم، والفضول جمع فضل، والفضل اسم هؤلاء الثلاثة.
وقيل: سمي حلف الفضول؛ لأن الذين تحالفوا اتفقوا على إخراج فضول أموالهم للأضياف، وعلى التآسي في المعاش2.
ويخطئ من يسمي هذا الحلف المطيبين3؛ لأن حلف المطيبين كان في أبناء قصي يوم أن تنازع بنو عبد مناف وبنو عبد الدار حول الحجابة والسقاية واللواء والرفادة؛ حيث اجتمع بنو عبد مناف ومن تبعهم، وغمسوا أيديهم في حفنة مملوءة طيبا، ومسحوها في أستار الكعبة فسموا بالمطيبين، وقد انتهى النزاع بالصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت، فحلف المطيبين ليس هو حلف الفضول.
وقد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وبيَّن بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم ما في هذا الحلف من عدل؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم:"لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفا، يقال له: حلف الفضول، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعي به اليوم في الإسلام لأجبت"4.
1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص208.
2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص210.
3 يروي البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي"، وهذا خطأ واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين، وإنما أراد حلف الفضول الذي شاهده مع أعمامه. "انظر: سبل الهدى والرشاد ج2 ص209".
4 السيرة النبوية ج1 ص134، إتحاف الورى بأخبار أم القرى ج1 ص121.
وعبد الله بن جدعان من بني تيم ابن عم عائشة رضي الله عنها، وكان في بدء أمره صعلوكا، ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدا لما أثقله من الغرم، وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا بائرا، يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيها ما يقتله فيستريح، فلم يرَ شيئا، فدخل فيه وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت، واللؤلؤ، والذهب والفضة، والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ ثم علم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس، ويفعل المعروف1.
من آثار حلف الفضول:
وقد أفاد حلف الفضول كثيرا من المظلومين المعتدَى عليهم، فلقد أخذ الزبيدي سلعته من العاصي بن وائل كما رأينا.
ويقال: إن رجل من خثعم قدم مكة معتمرا، أو حاجا، ومعه بنت له يقال لها: القتول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحاج، وغيبها عنه.
فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل.
فقال له: عليك بحلف الفضول.
فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول.
فإذا هم يأتون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث، فما لك؟
فقال: إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسرا.
فساروا معه، حتى وقفوا على باب الدار، فخرج إليهم.
1 البداية والنهاية ج2 ص217.
فقالوا له: أخرج الجارية ويحك! فقد علمت من نحن، وما تعاقدنا عليه.
فقال: أفعل، ولكن متعوني بها الليلة.
فقالوا له: لا والله، ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم1.
ومن آثاره ما رواه ابن إسحاق من أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان- منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه؛ لسلطانه وجاهه.
فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد حين قال الحسين رضي الله عنهم ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعا.
فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك.
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي2.
وقد اهتم الفقهاء والعلماء بأمر هذا الحلف.. وأجابوا على من يسأل عن جواز المناداة بحلف الفضول، قائلا: يا لحلف الفضول!!
فقالوا: إن الإسلام قد رفع ما كان في الجاهلية من قولهم: يا لفلان عند التعصب والتحزب، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع رجلا يقول: يا للمهاجرين!.. وآخر يقول: يا للأنصار!..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"..
1 الروض الأنف ج1 ص157، ومعنى شخب لقحة: لا نتركك قدر شرب نقطة من لبن الناقة.
2 سيرة النبي ج1 ص134، 135.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من ادعى بدعوى الجاهلية، فأعضوه بهن أباه ولا تكنوا" أي: سموه بها صراحة بلا كناية.
ونادى رجل بالبصرة: يا لعامر! فجاءه النابغة الجعدي بعصبة له، فضربه أبو موسى رضي الله عنه خمسين جلدة.
وذلك أن الله عز وجل جعل المؤمنين إخوة، يوالي بعضهم بعضا، ولا يقال إلا كما قال عمر رضي الله عنه: يا لله ويا للمسلمين؛ لأنهم كلهم حزب واحد، وإخوة في الدين، إلا ما خص الشرع به أهل حلف الفضول.
والأصل في تخصيصه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو دعيت به اليوم لأجبت" يريد: لو قال قائل من المظلومين: يا لحلف الفضول لأجبت، وذلك أن الإسلام إنما جاء لإقامة الحق ونصرة المظلومين، فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من حلف في الجاهلية، فلن يزيده الإسلام إلا شدة" ليس معناه: أن يقول الحليف: يا لفلان، لحلفائه، فيجيبوه، بل الشدة التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي راجعة إلى معنى التواصل والتعاطف والتآلف.
وأما دعوى الجاهلية، فقد رفعها الإسلام إلا ما كان من حلف الفضول كما قدمنا، فحكمه باقٍ، والدعوة به جائزة، وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن الحليف يعقل مع العاقلة إذا وجبت الدية لقوله صلى الله عليه وسلم:"وما كان من حلف في الجاهلية، فلم يزده الإسلام إلى شدة"1..
1 الروض الأنف ج1 ص160، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج2 ص184.
خامسا: الرحلة الثانية إلى الشام، التجارة لخديجة
بلغ محمد صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وكان يهتم بأحوال عمه أبي طالب، وبكثرة عياله، لما بلغ هذا السن وجد أن رعي الغنم لم يعد يناسبه، ودخله من الرعي قليل، لا يفي بحاجته وعمه، فأخذ يفكر في عمل آخر يحقق له ما يتمنى.
ولم يطل به البحث؛ إذ قال له عمه أبو طالب: يابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر أوان خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها، وعرضت نفسك عليها، لأسرعت إليك، وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه:"فلعلها ترسل إليَّ في ذلك"1.
وخديجة رضي الله عنها امرأة قرشية، كثيرة المال، عريقة الأصل، حسيبة، نسيبة، كانت تتجر بمالها، وترسل عيرانها مع القوافل برجال تستأجرهم، أو تضاربهم بجزء من الربح، وقد اشتهرت مكة بالتجارة حيث لا زرع فيها ولا صناعة، وكل ما فيها من بضاعة فهو مستورد من الشام، أو من اليمن، أو من غيرهما، وعادة التجار البحث عن الرجل الأمين، يتعاملون معه؛ صيانة للمال، ومحافظة عليه من الضياع.. وقد رغب أبو طالب من محمد ابن أخيه أن يذهب لخديجة يتاجر لها في مالها؛ لشدة ثقته في ابن أخيه، ولما اشتهر به في مكة بالأمانة والصدق، ولما عرف عن خديجة من حسن المعاملة، والمسارعة في إعطاء الحقوق،
1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص214.
وكان يرى أن خديجة ستعطي محمدا من الأجر الكثير بعدما ترى منه الصدق والأمانة وحسن المعاملة.
لكن محمدا صلى الله عليه وسلم أنفت نفسه أن يذهب لخديجة، باحثا عن عمل في أموالها؛ ولذلك قال لعمه:"لعلها ترسل إليَّ".
لم ينتظر أبو طالب أن ترسل خديجة لمحمد مخافة أن تولي رجلا آخر، أو تظنه لا يقبل العمل لديها، ولذلك ذهب بنفسه إلى خديجة وقال لها: يا خديجة، هل لك أن تستأجري محمدا؟
فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولن نرضى لمحمد دون ذلك.
فقال خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لقريب حبيب1!!
عاد أبو طالب لمحمد، وأخبره بما جرى مع خديجة، وقال له: هذا رزق ساقه الله إليك.
وقالت خديجة لميسرة لما تأهب ومحمد للسفر، قالت له: لا تنقض له أمرا، ولا تخالف له رأيا؛ لعلمها بحسن إدارته، وقوة شخصيته، وإتقان ما يقوم به من عمل.
وأخذ عمومته يوصون أهل العير بابن أخيهم، ولولا الحاجة ما أخرجوه2..
لكن الله تعالى أخرجه من مكة تاجرا هذه المرة؛ ليجوب أرض الله مكتشفا، وليخرج من تجارته تلك بما يغنيه ويرضيه.
وكانت رحلة مباركة امتلأت بالعجائب التي قدرها الله لحبيبه ومصطفاه.. فقد توالت الإرهاصات، وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت الهاجرة، وقوي الحر، يظله ملكان وهو على بعيره، ولما دخل مكة في وقت الظهيرة ذهب إلى خديجة فرأت الملكين فوقه.
1 الطبقات الكبرى ج1 ص130.
2 المرجع السابق ج1 ص130.
وتقابل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة مع عدد من رهبان أهل الكتاب، وكلهم نظروا إليه، وعلموا خبره ومآله.
نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له: "نسطورا"، فلما رآه الراهب قال لميسرة: يا ميسرة، مَن هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟
قال ميسرة: رجل من قريش.
فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، أفي عينه حمرة يا ميسرة؟
فقال ميسرة: نعم، لا تفارقه.
فقال الراهب: هو، هو1!!
اختلف مرة مع أحد التجار حول سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حلفت بهما قط".
فقال الرجل: القول قولك.. ثم نظر إلى ميسرة، وقال له: هذا نبي هذه الأمة.
وبالنسبة للتجارة فقد رَبِحَا رِبْحًا وفيرًا لم تره خديجة منذ أربعين سنة، فأحبه ميسرة وأطاعه، كأنه عبده، وقدرته وخديجة لمهارته وأمانته.
ولما كانا "محمد وميسرة" عائدين بمر الظهران، قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة، فتخبرها بالذي جرى لعلها تزيدك بكرة إلى بكراتك، فركب النبي صلى الله عليه وسلم قعودا أحمر، فتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك!!
ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك.
وقالت: أين ميسرة؟
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص188.
قال: خلفته في البادية.
فقالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال، وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعدت خديجة تنظر، فرأته على الحالة الأولى، فاستيقنت أنه هو، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، وأخبرها بقول الراهب نسطورا وبقول الآخر الذي خالفه في البيع.
يقول ابن إسحاق: فلما رأت خديجة أن تجارتها قد ربحت أضعفت له ما سمت من البكرات.
وأخبرت ابن عمها ورقة بن نوفل بما رأت، وبما سمعت، فقال لها ورقة: يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة أمر ينتظر1.
وهكذا مرت الرحلة ببركاتها مع محمد صلى الله عليه وسلم، وعاد بالبكرات إلى عمه سعيدا راضيا، وقد أحبه ميسرة حبا جما..
لقد أدت هذه الرحلة عددا من النتائج الهامة التي أرادها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
1 السيرة النبوية ج1 ص189.