الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها
الإرهاص أمر خارق للعادة يظهره الله قبيل مبعث نبي ما، وهو يختلف عن خوارق العادات الأخرى؛ لأن المعجزة تظهر على يد مدعي النبوة تصديقا له، والكرامة تظهر على يد عبد صالح تكريما له، والمعونة تظهر لعبد صالح معونة له.
وقد أورد مؤرخو السيرة المحمدية عددا من الإرهاصات ذكروا أنها وقعت عند ولادته صلى الله عليه وسلم.
من هذه الإرهاصات:
ما رواه محمد بن إسحاق عن حسان بن ثابت، قال:"والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت؛ إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بـ"يثرب": يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك؟! ما لك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به"1.
وعن أسامة بن زيد قال: "قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه، واتبعه"2.
ما رواه ابن سعد بسنده عن ابن عباس أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها، ورفع
1 صحيح السيرة ص14.
2 المرجع السابق ص16.
رأسه إلى السماء، وقالت أيضا: لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده"1.
ويروي ابن سعد أيضا أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقوم خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك من مرازبته فجمعهم، ولبس تاجه، وجلس على سريره، ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده.
قال: أتدرون فيمَ بعثت إليكم؟!
قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك.
فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى، وما هاله.
فقال الموبذان: وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قص علي رؤياه في الإبل، فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟
قال: حدث يكون في ناحية العرب -وكان أعلمهم من أنفسهم- فكتب عند ذلك كتابا: من كسرى ملك الملوك، إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة النسائي، فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟
فقال: لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.
1 البداية والنهاية ج2 ص264.
فأخبره بالذي وجه به إليه فيه.
قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: سطيح.
قال: فائته فأسأله عما سألتك عنه، ثم ائتني بتفسيره، فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه، فلما سمع سطيح قوله، رفع رأسه يقول: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساواة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته1.
والإرهاصات التي ذكرها مؤرخو السيرة عديدة، وكلها تشير إلى حدوث أمر جديد يتأثر به العالم كله، ويصل خبره ونفعه إلى كل مكان في أرض الله تعالى.
أدرك من شاهد هذه الإرهاصات أو بعضها حدوث هذا التغيير، لكنه لم يرتبط في أذهانهم بالمولود الجديد، اللهم إلا نفر قليل من أهل الكتاب الذين كانوا يقرءون الكتاب، ويرون صفة رسول الله، الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وسار العلماء القدامى على تصديق كل أثر صح سنده، فلم يبحثوا عن علة الأثر أو غايته؛ لأنهم رأوا أن من الأخبار ما هو متصل بأمر خارق للعادة، لا يصل العقل إلى كنهه وحقيقته، مما جعلهم يقفون عند حد ثبوت النص وتصديقه والعمل به، ورأينا العلماء القدامى يروون إرهاصات النبوة في مؤلفاتهم ودروسهم ولم يعلقوا عليها، مما يدل على أنهم راضون عنها، سعداء بذكرها.
1 البداية والنهاية ج2 ص268، 269.
إلا أننا في العصر الحديث وجدنا عددا من المستشرقين والمسلمين الذين كتبوا في السيرة، يرفضون الإرهاصات باسم العلم والعقل من غير نظر إلى السند، أو مصدر رواية الحدث.
فمنهم مَن رفض هذه الإرهاصات بحجة أن الإسلام لا يحتاج إليها في حركته وانتشاره؛ لأنه يحمل عوامل التصديق به في ذاته، كما أن هذه الإرهاصات لم تؤدِّ إلى إسلام أحد، ولم تكن دليلا على صدق الرسالة يوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا فلقد ولد مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مولده غيره، ومن الممكن أن يدعي أهل هؤلاء الأبناء وقومهم أن هذه الإرهاصات بسبب ميلاد أبنائهم.
إن هذا الفريق لا يصرح بكذب الإرهاصات، ولا يقول بها؛ لأنها لا تمثل أمامه فائدة تذكر للدعوة الإسلامية.
يقول عباس العقاد: علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلاقات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟..
وإذا تعذر عليها أن تتجمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟ وقد خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟ ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات وكل هاتيك المناقب والصفات؟..
إن المؤرخين يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان، وتفسير العِيَان، وتفسير المعرفة، وتفسير الجهالة.
فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة، واستفاض أمر الإسلام؟..
لا موضع هنا لاختلاف، فما من بشارة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
ولم يكن ثبوت الإسلام متوقفا عليها؛ لأن الذين شهدوا العلامة المزعومة يوم الميلاد لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة، ولأن الذين سمعوا بالدعوة، وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها لؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي صلى الله عليه وسلم أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره، ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين، إلا بعد عشرات السنين، يوم أتت الدعوة بالآيات والبراهين، غنية من شهادة الشاهدين، وإنكار المنكرين، أما العلامة التي لا التباس فيها، ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون، وعلامة التاريخ، قالت حوادث الكون: إن الدنيا في حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب تلك الرسالة، ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون، وعلامة التاريخ؟ 1.
ومنهم مَن رأى ضرورة عرض هذه الإرهاصات على العقل، فهو ميزان القبول والرفض لأي قول، في إطار الأسس العلمية، التي أخذوها من المستشرقين؛ حيث يعتمدون على العقل اعتمادا كاملا في إدراك كل شيء.
وحتى تظهر النظرة العقلية في صورة الحياد العلمي عند أصحاب هذه الاتجاه نراهم يعرضون المرويات على القرآن الكريم أحيانا، فما اتفق معه منها قُبل، وما لم يتفق فمصيره الرفض وعدم القبول، مع أن القرآن يتحدث عن الخوارق المعجزة وغيرها.
1 مطلع النور ص11-13.
وعلى أساس فكرهم هذا رفضوا كثيرا من الإرهاصات، كما رفضوا كثيرا من أحداث السيرة لخروجها على عادة العقل، وسكوت القرآن عنها، ولربما جاءوا لموضعها في القرآن الكريم وأولوه، بما يؤيد موقفهم الرافض لمرويات السيرة والتاريخ، وذلك كموقفهم من شق الصدر وغيرها.
وحين ننظر إلى هؤلاء ندرك الفرق بينهم، فكلاهما يرفض إلارهاصات المروية، إلا أنهما يختلفان في سبب الرفض؛ حيث يذهب الفريق الأول في سبب رفضه إلى عدم فائدتها للدعوة، بينما الفريق الثاني ينكر وجودها لعدم تسليم العقل بها.
وقبل أن نرد عليهم أشير إلى أن أحداث هذه الإرهاصات جاءت على غير ما ألفه الناس، وأقل ما تتركه في عقولهم البحث عن فاعلها، وعن أسباب وقوعها بهذه الصورة الخارقة، وهذا كافٍ في توجيه أنظارهم إلى التفكير والتدبر، وإن لم يصلوا لشيء.
إن الفريقين على خطأ فيما ذهبا إليه لأسباب كثيرة أهمها:
أولا: ضرورة التفريق بين الجانب العقلي والصورة النبوية؛ لأن النبوة وحي مستمد من الله تعالى، وقدرة الله تعالى مطلقة، تعلو كثيرا عن نطاق العقل البشري وطاقته.
وإذا كانت النبوة محاطة بخوارق العادات، فكيف تدرك حقائق هذه الخوارق بالعقل المحدود.
لقد حاول كفار مكة مواجهة النبوة بعقولهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1 وحجتهم فيما طلبوه أن النبوة رئاسة وقيادة، وجدير بها العظماء المشهورون بالغنى والجاه والسطوة؛ ولذلك طلبوها لأحد عظماء مكة أو الطائف.
1 سورة الزخرف آية 31.
ولو عرضنا هذا المنطق على العقل وحده لكان منطقا مسلما، فالعظيم بماله يعطي ويسود، وبجاهه يأمر ويطاع، وبقوته وسطوته يوجه ويسيطر ويحكم.
أما لو عرضناه على منطق النبوة والوحي فإن الأمر يختلف كما قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.
إن النبوة رحمة الله تعالى يعطيها لمن اصطفاه واختاره، ولا دخل للعقل فيها؛ لأن العقل محدود التصور، محدود الإدراك، فكيف له أن يتدخل في رحمة الله وعطائه بالرأي والتوزيع والنقد؟!!..
إن العقل يعجز في إدراك شأن صاحبه، ولا يستطيع له أمرا، فأمور الدنيا تجري بقدر الله تعالى، ولا يمكن لإنسان أن يخرج عن هذه القدرة الإلهية.
إن الغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، والصحة والمرض، والتيسير والتعسير.. كل ذلك وغيره قدر لا دخل للإنسان فيه.. فأين العقل إذن في هذه المجالات؟!..
إن القدر الإلهي قد يرفع إنسانا ويعطيه، وحينئذ يستخدم كثيرا من العقلاء الموهوبين، ومع أن حظه في العبقرية قليل، مما يدل على أن الأمر بيد الله رب العالمين.
إن العقل البشري قد يتصور العظمة في الأمور الظاهرة، كالغنى والوظيفة والسلطان، وتثبت الأيام والتجارب أن العظمة الحقيقية في الجوانب المعنوية، المستورة التي يعلمها الله تعالى وحده؛ ولذلك كانت النبوة قدرا إلهيا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} .
1 سورة الزخرف آية 32.
لقد استعمل القرشيون عقلهم أيضا أمام الوحي، والقدرة الإلهية في حادثة الإسراء والمعراج، وأنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله لهم، وقالوا له: أنضرب لها الأكباد الإبل شهرا وتزعم أنك تأتيها في ليلة واحدة؟!..
لقد أملى عليهم عقلهم استحالة ما سمعوه من رسول الله؛ لأن العقل لا يسلم أبدا بأن يسافر إنسان ما في زمان النبوة والبعثة، من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ويعود في ليلة واحدة، ونسوا أن الذي أسرى برسول الله هو قدر الله تعالى، والفاعل هو الله، يقول تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أُسري بي الليلة" 2، ولم ينسب الفعل لنفسه.
إن أصل الخلاف بين الرسول وأهل مكة في هذه الحادثة هو مصدر الفعل والتصور، فأهل مكة يعتمدون على عقولهم، بينما الرسول ينطلق من الوحي والنبوة.
لقد ذهب الكفار إلى أبي بكر رضي الله عنه ليكون معهم في تصورهم العقلي وينكر معهم الإسراء والمعراج..
لكنه رضي الله عنه بمنطق الإيمان بالنبوة والرسالة يرد عليهم قائلا: إن قال فقد صدق، إنه يخبرني أن الوحي يأتيه من السماء في لحظة وأنا معه فأصدقه، أفلا أصدقه هنا؟!
إن البعض قد يتصور أن الإيمان أبي بكر في شأن حادثة الإسراء والمعراج وغيرها قد بني على غير تفكير، أو على أساس الإيمان فقط، وهذا تصور خاطئ، إنه قد علَّم الجميع درسا فائقا، في كيفية استعمال العقل، وحدوده التي لا ينبغي له أن يتجاوزها.
1 سورة الإسراء آية 1.
2 صحيح مسلم بشرح النووي - باب الإسراء ج2 ص210.
إن العقل له أن يفكر في قول الرسول إنه رسول، فإذا ثبت لديه صدق الرسول فالنتيجة الحتمية الموافقة لأي منهج عقلي، أن يؤمن بكل ما صدر عن ذلك الرسول، بدون تدخل للعقل؛ لأن الرسالة مستمدة من الله عز وجل، وقدرة الله صالحة لكل فعل خالف العقل أو توافق معه، وذلك هو جوهر القياس العقلي الذي أجراه أبو بكر أمام المشركين، لقد قال لهم: إنه يقول لي: إن الخبر يأتيه من السماء في لحظة فأصدقه، فأي غرابة في منطق العقل والعلم أن يصدقه بعد ذلك في أنه قد أسري به إلى بيت المقدس ما دامت القدرة التي أنجزت هذا الفعل هي قدرة الله عز وجل.
فليخجل أتباع المدرسة العقلية من أنفسهم، وليتعلموا ذلك الدرس العظيم على يد أبي بكر في كيفية استخدام العقل1.
يقول ابن عطاء الله السكندري: زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد رضي الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد؟
فأشير إلى شيخ كبير في السن كان حاضرا هناك.
فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبي يزيد؟
فقال: نعم سمعته يقول: "من زارني لا تحرقه النار".
فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وتحرقه النار؟
فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم، إنما رأى "يتيم أبي طالب"، ولو رآه صلى الله عليه وسلم رسولا لم تحرقه النار.
ففهم السلطان كلامه، وأعجبه هذا الجواب منه، أي: إنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لتغير حاله، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه "يتيم أبي طالب"، فلم تنفعه تلك الرؤية.
1 السيرة النبوية ص57، 58.
وما كان المستشرقون في تركيزهم على بشرية الرسول إلا متابعين في ذلك لهذه النزعة، وكل من يركز على بشرية الرسول من الكُتَّاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين في هذه النزعة، أو يتابع أبا جهل، وهم في ذلك ليسوا تقدميين ولا تطوريين، وإنما هم من الرجعيين حيث ترجع فكرتهم إلى ما قبل خمسة عشر قرنا مضت، وينزعهم فيها أبو الجهل كله، وأبو الظلمة القلبية كلها!!!
ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فيتحدث الله مبينا طبيعة رسوله الكريمة، فطرته الرحيمة، ورأفته الواضحة، ويبين في الوقت نفسه: أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها، وليسوا أهلا لها، لفساد طويتهم وسوء نواياهم.
ومن الحقائق المعروفة: أن الإنسان يميل إلى التركيز على "بشر" أو على "يوحى إلي" حسب قوة شعوره الديني وضعفه، فالذي لا إيمان له لا يرى إلا البشرية والعقل والمنهج الوضعي، ومن ضعف إيمانه يركز على البشرية، ويخفف التركيز على البشرية كلما قوي الإيمان، ويزداد التركيز على:"يوحى إلي" كلما ازداد الإيمان حتى يصل الإنسان إلى مستوى ألا يرى، أو يكاد يرى إلا "يوحى إلي"..
وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس، طرف "بشرا" أو {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وطرف {يُوحِي إِلَيَّ} أو "رسولا"، وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولا وارتفاعا، وانخفاضا وسموا.
إن مقياس الإيمان قوة وضعفا، ومقياس درجة الإيمان الذي لا يخطئ، إنما هو ما وقر في القلب، أو غلبه عليه من "البشرية" أو من "يوحى إلي" إنهما يمثلان ما يوضع في كفتي ميزان.
إن النبوة اصطفاء إلهي، واختيار رباني، لا يدرك سرها إلا القادر العظيم، ومن الضروري أن توضع في موضعها، ويقف العقل عند حده، وبذلك يتميز جانب
النبوة عن جانب البشرية في التصور الإنساني.
ثانيا: التفرقة بين الجانب الإلهي والجانب البشري تكريم للإنسان واحترام للعقل؛ لأن الإنسان إن أدرك حقيقة ذاته وعرف حقوقه وواجباته، وتمكن من القيام بما هو مسئول عنه، ونال ما هو محتاج إليه في كمال ودقة، كان هذا تكريما له.
وحينما يكلف العقل بما هو ممكن، وحينما يعيش في إطار قدرته الذاتيه ينال رضى نفسه، ويحسن تفكره وتدبره، ويصير مصدر السعادة والخير لذاته ولصاحبه.
وحينما يخرج الإنسان عن طاقته، ويتمادى العقل بعيدا فوق مداركه واستعداداته، فإنه يضل، ويزيغ عن الحق، ويجلب على صاحبه الاضطراب والضياع. من أين للإنسان أن يتصل بقدرة غيبية بعيدا عن ميزان النبوة ومسالكها؟! ومن أين للعقل أن يدرك الغيب الخفي مجردا عن أدواته ومصادره؟؟..
إن العقل ليس هو النبوة؛ ولذلك يجب أن يكون عقلا فقط، ويجب أن يؤمن العقل بالنبوة ليعرف ويعلم، ويؤمن ويهتدي.
ثالثا: يتصور القائلون بالعقل أنهم تقدميون، يسلكون منهجا علميا معاصرا، وما دروا أنهم حين أعملوا العقل في مقابل النبوة، والإرادة الإلهية، رجعوا إلى عصور سحيقة، وتشبهوا بمخلوقات قديمة، اعتمدت على عقلها، وبذلك أثبتوا رجعيتهم وتخلفهم.
ألم يقف إبليس بعقله إمام الوحي والنبوة، حين أمره الله بالسجود لآدم عليه السلام؛ حيث أبى وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ؟!.. وتمسك برأيه، وتصور صوابه، مع أنه قائم على الضلال والهوى..
على هؤلاء القائلين بالعقل فقط أن يروا مدى رجعيتهم وتخلفهم، ويعلموا أنهم تشبهوا مع أمثالهم الذين وجدوا مع آدم عليه السلام في القول والتوجيه.
رابعا: يرى المنكرون للإرهاصات النبوية غرابة فيها لا يستسيغها العقل؛ ولذلك سارعوا إلى إنكارها، أو السكوت عنها، ومن عجب أن هؤلاء المنكرين أغلبهم من المستشرقين غير المؤمنين بالإسلام والذين يدينون بالمسيحية؛ ولذلك نسألهم: أيها أكثر غرابة في عقولكم: امرأة تحمل بلا زوج، أم انطفاء نار؟ وأيها أقرب للعقل: اهتزاز قصر، أو ولادة طفل بغير أب؟!..
إن المسلم يصدق بكل هذا؛ لأنه يؤمن بالله، وبنبوة عيسى عليه السلام..
ولكن السؤال نوجهه لهؤلاء الذي يحاولون تفسير الإسلام تفسيرا عقليا، بعيدا عن بيئته وطبيعته.
لو وقفنا أمام كل غريبة من الغرائب، ولم نسلم بها، وأخذنا نعرضها على التجربة والقواعد العقلية، فسوف نهدم كثيرا من وقائع الحياة التي نعيشها، فكم فيها من الغرائب والعجائب؟!!
إن كون الله معجز كله، وتصور إيجاده فوق مستوى العقل كسائر أسرار الله في الخلق.
كيف وجد العقل؟ وكيف يتصور ويفهم ويحكم؟
كيف للقلب أن يعمل؟ ومتى ينشط؟ ومتى يتوقف؟
كيف تقوم الجوارح والأحاسيس والعواطف بوظائفها؟
إن كل ذلك وغيره قدرة إلهية، لا تدرك العقل حقيقتها وكنهها، مما يجعلنا نقول لهؤلاء: متى تقفون بالعقل عند طاقته وحدوده؟.. متى؟!..
خامسا: المنكرون للإرهاصات والأحاديث يحكمون القرآن الكريم حينما يتصورون تعارض الأحاديث ومرويات السيرة معه؛ لأنهم لا يريدون تكذيب القرآن -كما يزعمون- ولكنهم يردون السنة فقط، حتى يظهروا بمظهر الإنصاف والحياد.
ألم يعلموا أن السنة الصحيحة لها حجة شرعية كحجية القرآن الكريم؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه".
والأمر المهم هنا، هو سؤالهم: لِمَ صدقتكم بالقرآن الكريم وهو وحي صادر عن الغيب؟ وهل دفعكم تصديق القرآن الكريم إلى الإيمان بما جاء فيه؟ وقد جاء فيه ضرورة الإيمان بالنبوة والوحي وتسليم الأمر لله رب العالمين.
إن إنكار الوحي الغيبي إنكار للإسلام كله، يقول الدكتور/ سعيد البوطي: إن الهمس الذي يدعو المسلمين إلى ثورة علمية إصلاحية في شئون العقيدة الإسلامية يستهدف في الحقيقة نسف الإسلام كله؛ لأن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية، يعني حشوه بأمور عقلية غريبة عنه؛ لأن الوحي الإلهي -وهو ينبوع الإسلام ومصدره- يعد قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها، ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما جاء في السيرة النبوية من خوارق العادات بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله، بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها.
كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج إلى مصلح، يتدارك شأنه ولا يحتاج إلى إصلاح يغير من جوهره.
غاب عن هؤلاء الناس هذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم لو كانوا يتمتعون بحقيقته، وينسجمون مع منطقيته، ولكن أعينهم غابت في غمرة انبهارها بالنضهة الأوربية الحديثة، وما قد حف بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق العلم والمنطق إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا بأمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين، وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات1.
سادسا: من الحقائق المسلمة أن عديدا من الأطفال وُلدوا يوم مولد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه من الضرورات المعلومة.
1 فقه السيرة للبوطي ص39.
ومع ذلك فلا تعارض بين كثرة المواليد وهذه الإرهاصات؛ لأن القائلين بها لا يتخذونها دليلا على معرفة الله والتصديق بالرسالة، وإنما يتصورونها رمزا قدريا لإعلان جزء من القدرة المتحكمة في هذا الكون، وتهيئة العقول لاستقبال منقذ البشرية، ومحرر الإنسان من ظلمات الطغاة، وعبث العابثين، المرسل من الله العزيز الحكيم.
وحين نقول -والقول حق- إن أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم شهدت حدثا فريدا لا يمكن للعقل تصوره، مع أنه حقيقة ثابتة، وهو هلاك جيش أبرهة بحبات الحصى تنزل على الرءوس فتجعلها كعصف مأكول.. نعم، العقل لا يتصور أن حبات الحصى الصغيرة تملك قوة فكرية تمكنها من اختراق الرأس، وتقتل بعدما تتحرك كل حصاة نحو من تريد قتله!! بلا أدنى خطأ، وهل يمكن لحصاة صغيرة أن تدبر وتقتل وتفعل كل هذا؟!
إنها حادثة فوق مستوى العقل.. ولكنها حدثت لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} وكان حدوثها بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما على الأرجح.
وما الذي يمنع أن تكون هذه الحادثة من إرهاصات المولد النبوي..
إن القضية في النهاية ليست منهجا علميا أو عقليا، بقدر ما هي قضية إيمان وتسليم.. فالمؤمن يصدق بالخبر إذا اشتمل على صدق روايته، ويكذبه إذا لم تأته الرواية صحيحة مقبولة، أما غير المؤمن فإنه ابتداء لا يصدق، وبعدها يبحث عن مبرر يؤيد مقالته وتكذيبه.
سابعا: الوجود كله خضع واستسلم لله تعالى، إلا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تمرد عن الحق، ولعب به الشيطان، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} 1.
والآية توضح هذه الحقيقة التي يجب أن تُعرف معرفة مَن رأى وشاهد؛ لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} .. هذه الحقيقة تبين ما يلي:
1-
كل من في السماوات ومن في الأرض وما بينهما، صغيرا أو كبيرا -خاضع ومستسلم لله تعالى.
2-
المخلوقات الكبرى المنتظمة في عملها كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب -خاضعة خاشعة لله رب العالمين.
3-
انقسم الناس إلى قسمين: قسم خشع وخضع لله، وهو القسم الفائز الناجي.
أما القسم الثاني فهو قسم متمرد ضال؛ ولذلك حق عليه العذاب، ووجبت له اللعنة، ولحقه الهوان؛ لأنه مطرود من رحمة الله تعالى.
إن هذه الحقيقة بعناصرها المذكورة تؤكد حاجة الكون إلى التوازن بعودة الإنسان إليه، وائتلافه معه في حركته ونشاطه.
ألا يحق لهذا الكون أن يسعد يوم ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سيبعث لإعادة التوازن بين سائر عناصره، وليضع الإنسان في إطار الطاعة لله رب العالمين؟
يقول الشيخ/ محمد متولي الشعراوي: "تقرأ في كتب السيرة أنه حدث في يوم مولده صلى الله عليه وسلم: أن انشق إيوان كسرى، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نيران فارس
…
إلى آخره"، وهذه هي المعروفة بإرهاصات النبوة.
نجد بعض الناس يرددها بأسلوب التأدب مع سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه لا يتعرض لها بالنفي أو التأييد، وإن كان يقترب من الرفض، وربما ذهب بعض الناس الذين
1 سورة الحج آية 18.
لا يريدون الإقرار بهذه الظواهر، أو المعجزات الكونية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في حاجة إلى هذه المعجزات الكونية.
أما وقد وضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليعيد انسجام الإنسان مع الكون الساجد، وأن كل ما في الوجود يسجد ويسبح لله، غير أن الجنس البشري هو الذي يشذ بعضه عن الإجماع في الخضوع والسجود لله، فإن هذه الظواهر الكونية المخلوقة لله والعابدة له بلغتها كما أثبتها القرآن ليس مستبعدا أن تفرح، وأن تبتهج بمثل هذا المولد، مولد الإنسان الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليعيد إلى الإنسانية رشدها.
فإذا عرضت لنا السيرة أن أشياء من الكون فرحت بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو حدثت منها أشياء، فذلك أمر لا نستبعده على كون مسبح لله، عارف بحق الله، وأيضا لسنا نحن المطلوبين بأن نؤمن بهذا، ولكن الذي آمنوا بها هم الذين شاهدوها، وهم الذين سمعوا عنها، فالذين سمعوها حجة على أنفسهم، ونحن نتلقى عنهم الخبر فإن كنا موثقين لهم في الخير صدقناه، وإن لم يتسع ظننا لتوثيقهم في خبرهم فنحن أحرار في أن نصدق أو لا نصدق، ولكن منطق الوجود، لا يمنع حدوث شيء من ذلك أبدا، فإذا ذكر أن إيوان كسرى قد انشق، فماذا في ذلك من الدهشة؟ وماذا في ذلك من العجب؟
أنستبعد أن يوقف شق الإيوان بالميلاد المحمدي؟ ولِمَ يكون هذا الاستبعاد؟
أننكر على الله أن يطفئ نار فارس التي تعبد من دونه، وأن يوقت ذلك بالميلاد المحمدي؟ وما سبب الإنكار؟
أنتصور ألا تغيض بحيرة ساوة مع الميلاد المحمدي؟ ولماذا هذا التصور؟ 1
ألم ينشق القمر نصفين معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ألم يفض الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم؟
ألم يحدثه الحجر والشجر؟
1 السيرة النبوية ص63.
ألم..؟ ألم..؟ ألم..؟
وقد يرد هنا سؤال:
وهل تدرك الكائنات؟
نعم الكائنات مدركة عابدة لربها..
لنقرأ قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1، ونقرأ قوله تعالى وهو يحكي حديث النمل والهدهد، يقول تعالى:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 2، ويقول تعالى:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 3
…
ألا يدل ذلك على أن الكون يدرك، فللطير منطقه وللنمل فكره وحذره، وللهدهد تخطيط وفهم وعمل.
ثامنا: ونحن في إطار الدعوة ندرك ضرورة وجود المنبهات الموقظة قبيل عرض الشيء الهام، لينتبه الغافلون، ويستيقظ النائمون.. وهذه قضية علمية معاصرة.
1 سورة النمل آية 16.
2 سورة النمل آية 18.
3 سورة النمل الآيات 20-22.
ألا يدفعنا استيعاب هذه القضية إلى اعتبار أن هذه الإرهاصات جاءت بقدر الله للتنبيه، وليعلم من يعقل أن لا دوام لمخلوق، وما يلحقه النقص، والتغيير ليس بإله، وكل ما يلحقه العجز والهلاك والانتهاء فهو مخلوق لله رب العالمين.