الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وساعدهم على هذه النظرة أن العبيد من هؤلاء الضعفاء لم يقصروا في أعمالهم، ولم يرتكبوا خيانة لسادتهم، مع أنهم لم يسلموا.
وقد قضى الله تعالى بأن يكون أتباع الدعوة الأول من الضعفاء الفقراء؛ لتنمو الدعوة على سنة البشر في التطور والتقدم، وليعلم المسلمون دائما حاجتهم الملحة للصبر والتحمل، ومواجهة الطغيان بالعفو والتسامح.
إن هؤلاء الضعفاء هم القوة العملية في مجتمعهم، فمنهم العمال والأجراء والعبيد، ولا بد أن يعملوا ليعيشوا، فليس معهم المال الذي يدفعهم إلى الترفه والكسل، وتلك خاصية أفادت الدعوة الإسلامية لأنهم لما آمنوا بها وضعوا طاقتهم واستعدادهم في خدمتها، ولذلك هاجروا بها، وواصلوا الدعوة إليها، وتحملوا في سبيلها الكثير، فقدموا بذلك النماذج الرائدة للمسلمين بعدهم، ولو كانوا من المترفين المنعمين ما تحملوا أذى، وما صبروا على مشقة، ولعجزوا عن أداء ما كلفوا به.
وأحب أن أبين قضية لها أهميتها، وهي أن ضعف هؤلاء كانت في الجانب المادي فقط، أما في الجانب المعنوي فكانوا هم الأقوياء، وهم العقلاء، فقد دخلوا في الإسلام مخالفين أسيادهم، ولم يعبئوا بأي أذى ينالهم، وتحملوا -صابرين- كل ما أصابهم من ظلم وعدوان، وصل أحيانا إلى حد القتل والفناء.
سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه
اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال هذه المرحلة على أفراد من الأقربين إليه في مكة، ولم يخرج عن هذا الإطار في دعوته، اللهم إلا مع من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خارج مكة، وجاء يبحث عن دين الله تعالى.
ولذلك بقيت الدعوة في نطاق محدود، لم يؤمن بتعاليمها أحد خارج مكة، ولم ينشغل كفار مكة بتتبعها، ولم يحدث صدام بين المؤمنين وغيرهم.
واستمر الأمر هكذا حتى قويت هذه الجماعة الأولى، وأسلم أبو بكر رضي الله عنه فأعلن الأمر، وجاهر به، بعد إصرار منه على ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصا في هذه المرحلة على عدم إثارة كفار مكة منعا للتصادم معهم، فكان إذا جاءه من يسلم بدعوته، وهو من غير مكة يأمره بكتم إسلامه، والامتثال لأمر الله، والعمل به بعيدا عن الناس، وهذا من الحكمة في الدعوة؛ لأن كفار مكة لو بدءوا يعملون ضد المسلمين في هذه المرحلة لتمكنوا منهم لقلة عددهم وضعف وجودهم، وهذا قدر أراده الله للمؤمنين في هذه المرحلة لينصر دينه بهم.
يروي ابن سعد بسنده عن شداد بن عبد الله: أن أبا أمامة سأل عمرو بن عبسة: بأي شيء تدعي أنك ربع الإسلام؟
قال: إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان بشيء، ثم سمعت عن رجل يخبر أخبارا بمكة، ويحدث بأحاديث، فركت راحلتي، حتى قدمت مكة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا، وإذا قومه عليه جرآء.
فتلطفت حتى دخلت عليه فقلت: من أنت؟
قال: "أنا نبي".
فقلت: وما نبي؟
قال: "رسول الله".
قلت: الله أرسلك؟
قال: "نعم".
قلت: فبأي شيء؟
قال: "بأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، وتكسر الأوثان، وتوصل الأرحام".
فقلت له: من معك على هذا؟
قال: "حر وعبد" يقصد: أبا بكر، وبلال بن رباح.
فقلت له: إني متبعك.
قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت، فالحق بي".
فرجعت إلى أهلي وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة وقد أسلمت، فجعلت أتخبر الأخبار حتى جاء ركبه من يثرب فقلت: ما فعل هذا الرجل المكي الذي أتاكم؟ فقالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذاك، وحيل بينهم وبينه، وتركت الناس إليه سراعا، فركبت راحلتي، حتى قدمت عليه المدينة.
فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟
قال: "نعم، ألست الذي أتيتني بمكة؟ ".
فقلت: بلى يا رسول الله، علمني مما علمك الله وأجهله.
"ثم ذكر الحديث بطوله، وفيه تفصيل مواقيت الصلاة والوضوء وغير ذلك"1.
وهكذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل إلى عدم البقاء في مكة والرجوع إلى قومه، وملازمة الصمت والسكوت، حتى يظهر أمر الإسلام، وبعدها يتمكن من الحركة والجهر والدعوة، في ظلال حفظ الله، ونصر إخوانه له.
ويبدو أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه كان من الحنفاء، الذين أظهروا فساد آلهة القوم، وأخذوا في البحث عن الدين الحق؛ ولذلك كان توجيهه إلى التخفي أمرا ضروريا في هذه المرحلة من مراحل الدعوة؛ لأن الحنفاء تعودوا نقد ما عليه الناس، واحتقار آلهتم، من غير تقديم دعوة جديدة، تتضمن معالم دين صحيح، فلو استمر عمرو بن عبسة في النقد مع إسلامه، فإنه يمثل خطورة لأهل مكة تشعل غضبهم في هذه المرحلة التي لا تتحمل هذا.
يخبر شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، وذلك أنها باطل، فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله.
1 الطبقات الكبرى ج4 ص216.
يخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده.
ثم لعله يجد ما هو أحسن منه، قبل أن يرتحل، فيتركه، ويأخذ غيره إذا نزل منزلا سواه.
فرأيت أنه إله باطل، لا ينفع، ولا يضر، فدلني على خير من هذا.
فقال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها، فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم تكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة فآتي فاسأل: هل حدث فيها حدث؟ فيقال: لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقالوا: حدث فيها رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فرجعت إلى أهلي، فشددت راحلتي، ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت حتى دخلت عليه فسألته.
فقلت: أي شيء أنت؟
قال: "نبي".
قلت: ومن أرسلك؟
قال: "الله".
قلت: وبِمَ أرسلك؟
قال: "بعبادة الله وحده لا شريك له، ويحقن الدماء، ويكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل".
فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك، وصدقتك، أتأمرني أمكث معك أو أنصرف؟
فقالت: "ألا ترى كراهة الناس ما جئت به؟ فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني"1.. وساق الحديث السابق بطوله، وبألفاظ متقاربة.
1 الطبقات ج4 ص217.