الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالله تعالى، الذي يحمل رسالته، ويبلغ دينه، ويعيش مع وحيه سبحانه وتعالى، كما تجعله قوي الصلة بالناس، فهم مجال حركته، ومقياس نجاحه، وأمله كله ينحصر في هدايتهم.
إن الداعية يحتاج إلى هذين الجانبين لأهميتهما له:
أولا: تقوية صلته بالله
الداعية مرشد إلى الخير، وموجه نحو الهدى، وكل هدفه أن يعرف الناس بربهم الخالق؛ ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
وعليه هو أولا أن يمتن صلته بالله في يقين وقوة، ويجعل إيمانه قائما على تفرغ القلب الكامل لمولاه، والارتباط المطلق به، والتوكل الراسخ عليه، والتسليم التام كل ما يأتي به من غير ارتياب -أو حرج- لتكون الدعوة بذلك نابعة من قوله وفعله، ،كل ذلك سهل ميسور.
إن معرفة الله يلمسها من القرآن الكريم، كتاب الدعوة الذي هو دستوره وهاديه، ومن آياته يعلم أن الله واحد، منزه عن الشريك في ذاته وصفاته وأفعاله.
وآيات القرآن واضحة في مفهومها ودلالاتها، انظر قوله تعالى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 1.
تراها قد صرحت بوحدانية الله من غير غموض، بل إن القرآن يدافع عن هذه الوحدانية فيدعو إلى ترك ما عداها فيقول:{لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، ويتجه بالدليل العقلي لمن يريده فيقول:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3.
1 سورة الصافات الآية 4.
2 سورة النحل الآية 51.
3 سورة الأنبياء الآية 22.
ولا تقف الآيات عند الحديث عن وحدانية الذات، بل تتكلم عن كل كمالاتها بإثبات الصفات والآثار، ومن هذه الآيات قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 1، وقوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2.
فتجد هذه الآيات وغيرها تعرف بأن الله موجود، قديم، حي، باقٍ، عليم، مريد، قادر، سميع، بصير، متكلم، وبإثبات هذه الصفات تنتفي أضدادها، والصفات وإن تشابهت ألفاظها مع مسميات صفات البشر إلا أنها ليست هي في الحقيقة؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3.
والقرآن الكريم لا يترك الداعية يبحث وحده عن الدليل الدافع إلى الإيمان، بل يوجه نظره إلى الآثار الإلهية في المخلوقات؛ ليتم إيمانه، ويحس طمأنينة خاصة تمر بين جوانبه، فلا يرى بعد ذلك إلا الخير المطلق يسري في داخل النفس وخارجها، والمخلوقات عديدة، والنظر فيها يبين الدقة الإلهية والعناية الربانية، ويؤدي إلى الإيمان المطلوب، فنفس الإنسان المركبة من باطن فيه جهاز هضمي، وآخر للتنفس، ومن ظاهر به حواس وجوارح، هذه النفس بكل أجزائها تقوم بوظيفتها بطريقة تلقائية.
وقد وزعت الأعمال في براعة ودقة على كافة الأجهزة؛ ليقوم كلٌّ بدوره، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، والرجل تمشي، والأسنان تمضغ، والمعدة تهضم، والرئة تستنشق.
وهذا كله يشير إلى العناية والدقة الموجودة في خلق الله تعالى، وهو الأمر الذي جعل العلماء يرون في القرآن الكريم أدلة خاصة به سموها:
1-
أدلة العناية والدقة.
1 سورة الحديد الآية 3.
2 سورة الرعد الآية 16.
3 سورة الشورى الآية 11.
2-
أدلة الحسن والجمال.
3-
أدلة الغاية والقصد.
وهذه أدلة تجعل الإنسان يؤمن بلا تردد رؤيته لها ونظره فيها.
وقد حث الله الإنسان على النظر إلى النفس، فقال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1 ليروا فيها دلالة اضحة على وجود الصانع وحكمته وتدبيره، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى نفسه ليرى -كما قال الزمخشري- في ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها، عجائب الفطر وبدائع الخلق، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة، والبينات القاطعة، على حكمة المدبر، دع الأسماع، والأبصار، والأطراف، وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل2.
وكما يجب النظر إلى النفس، فإن هناك العالم الفسيح المملوء بالآيات البينات والعجائب الرائعة التي يجب النظر فيها، يقول تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
إن الداعية وهو يلازم الدعوة عليه أن يفكر في هذا، وفي غيره؛ ليؤمن الإيمان الواجب، ويعلم من غير تردد حق الله الذي آمن به فيؤديه.
وقد حصر الله سبب خلقه للجن والإنس في أداء هذا الحق، فقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
1 سورة الذاريات الآية 21.
2 تفسير الكشاف ج4 ص16.
يقول الزمخشري: إن معنى الآية: ما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جمعهم لا إياها1؛ ولذا دعيت كل الأمم إلى واجبها، يقول تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وكان النداء الأول في دعوة كل رسول هي:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لأن الإيمان بالله الخالق والتسليم له يقتضي حتما وبالضرورة أن تكون العبادة له وحده.
إن العبادة هي الحبل الوثيق الذي يربط الإنسان بالله، وليس هناك سبيل سواها، والله قريب من عباده قربا ولا واسطة فيه، والداعية يعلم ذلك فيعبد الله مخلصا له الدين، ويتفرغ بكليته في عبادته؛ ولذلك فعبادته غذاء روحي، ترقَى به ذاته، وتذكره بالسلطان المطلق، وتسمه بحسن الخلق، وكريم المعاملة، وذلك كله سر العبادة وحقيقتها، فمثلا عن الصلاة -كعبادة- قد أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها؛ لأن إقامة الشيء يعني الإتيان به مقوما كاملا، يصدر عن علته، وتصدر عنه آثاره، ومن المعلوم أن الغاية من الصلاة ذكر الله، كما قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 2 وآثارها تظهر على المصلي ذاته لأنها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} 3 وهي بالإقامة عبادة حقة، فيها خضوع كامل، ناشئ عن إحساس يقيني بعظمة الرب القادر سبحانه وتعالى، ويتبعها أثرها المراد الذي يظهر في البعد عن كل باطل، والتخلق بكل حسن جميل، وهكذا كل عبادة تعطي للنفس جرعة من الذكر، وجزءا من السعادة.
ولا يرى الداعية من عبادته هذه المنزلة إلا إذا أداها مخلصا كما أمر، فإن القوم جميعا:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 4، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:" {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} "5؛ ولذلك فهم
1 تفسير الكشاف ج4 ص21.
2 سورة طه الآية 14.
3 سورة العنكبوت الآية 45.
4 سورة البينة الآية 5.
5 سورة الزمر الآية 11.
بسبب هذا الإخلاص يشعرون بالمعية الإلهية دائما {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، انظر إليهم تجدهم {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2، لا يفارقون ذكره في لحظة من لحظات الحياة، وكذلك يذكرهم ربهم، ففي الحديث القدسي:"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" 3، وهم في ذكرهم الدائم يتقلبون بين الخوف والرجاء {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} 4.
والداعية كما هو الواقع يعلم أن العبادة لا تقتصر عن نوعها الخاص الذي رسم الدين إطارها، وحدد شعائرها؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج، بل إنه في كل حياته عابد كما أراد الله بالمعنى العام والخاص معا، فاجتماعياته عبادة يفعلها لله رب العالمين، والسعي في معايشه، والتعاون مع أهله عبادة يؤديها ويلتزم بها؛ لأنها من حقيقة دينه.
والقرآن الكريم يقرن من خرج مجاهدا في سبيل الله بمن خرج سعيا على المعاش فيقول تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 5.
إن هذا الفهم الأصيل يجعل العابد في علاقة خيرة مع الناس، فيعود المريض، ويطعم الجائع، ويسقي العطشان، ويرفع الأذى من طريق الناس، ويدفع إلى السعي
1 سورة المجادلة الآية 7.
2 سورة آل عمران الآية 191.
3 صحيح البخاري ج9 ص139.
4 سورة السجدة الآية 16.
5 سورة المزمل الآية 20.
والضرب في الأرض، وهكذا، يؤديها الداعية بهذا الفهم وبتلك النية ويسلمها لله رب العالمين.
وعبادة الداعية كما هو المطلوب استغراق كامل في عالم الروح؛ لأنها عنده لذاتها فتربطه تلقائيا بالله، وتبرزه كحقيقته خاضعا لربه، محبا هائما في تعلقه به؛ لأنه بإيمانه أشد حبا لله؛ لأنهم كما عرفهم ربهم بقوله:{أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 1، والدعاة عباد الله بحق {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} لأن الله يحب المتقين، والمحسنين الصابرين.
ومع هذه العاطفة الصادقة من الداعية لا يملك أمام أمر الله إلا السمع والطاعة، ويبحث عن المعروف ليفعله، ويأمر به، وعن المنكر ليجتنبه، وينهى عنه، وبسبب استغراق الداعية في ذكر ربه الحبيب إليه كانت العبادة أعظم علاج لراحة نفسه، ونسيان آلامها، كما أنها أعظم وسائل الشكر تحقق الهدوء التام، ألا تراها كانت علاجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن أكثر القوم من أكاذيبهم ومفترياتهم حتى ضاق صدره بما يقال، فوجهه الله إليها علاجا له فقال:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 2، ووجهه إليها كذلك إذا أحس بالنصر والفوز شكرا ورضًا، فقال تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 3.
والعبادة بدورها لا تجد عسرا في القيام بمهمتها في الشدة أو الرخاء؛ لأنها تعايش إنسانا منفعلا بها، ومسلما بأنه مخلوق يتصرف كإرادة الخالق ويؤمن أنه {مَا
1 سورة البقرة الآية 165.
2 سورة الحجر الآيات 97-99.
3 سورة النصر.
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1.
إن هذا الإيمان الراسخ "من الداعية" الذي استتبع عبادة مخلصة صادقة، وحبا هائما شاملا، يؤدي بصاحبه حتما إلى التوكل الدائم على الله، والاستسلام له بلا تردد؛ لأنه ما دام قد ثبت في نفسه ثبوتا جازما أنه لا فاعل إلا الله، واعتقد فيه تمام العلم وتمام القدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والرحمة بجملة العباد وآحادهم، وأنه ليس وراء منتهى قدرته وعلمه ورحمته قدرة ولا علم ولا رحمة، فإنه متكل لا محالة على الله، مستمر في انفعاله الروحي الصادق؛ لأن الله معه في كل آنٍ وحال.
ولتمام توكله نجده يسلم أمر رزقه إلى الله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} 2، ويترك كل شيء لإرادة الله؛ لأن المسألة هي:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} 3، ويشكر النعم ويصبر على المكروه:{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 4.
وعلى الجملة، فإن المرء كما يقول الحكيم الترمذي:"من نور الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بصيرته بنور اليقين، فاستقام قلبه، واطمأنت نفسه، وسكنت، ووثقت، وأيقنت، وسعدت بربها الخالق، وائتمنته على نفسها، فرضيت به وكيلا، وتركت التدبير عليه، فإن وسوس له عدوه بالرزق والمعايش لم يضطرب قلبه ولم يتحير؛ لأنه قد عرف أن ربه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه حليم ودود، وأنه رب عفو غفور، وأنه عدل لا يجور، وأنه عزيز لا تمتنع منه الأشياء، وأنه يجير ولا يجار"5.
1 سورة الحديد الآية 22.
2 سورة الذاريات الآية 58.
3 سورة يوسف الآية 67.
4 سورة إبراهيم الآية 12.
5 الرياضة وأدب النفس ص93.