الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام
أولا: شيوع الضلال الديني
…
المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام
بالنظر إلى أوضاع العالم قبيل مجيء الإسلام -كما ظهرت في المباحث السابقة- نلمس مدى حاجته إلى دين ينقذه من ضلاله وهوانه، وقد تجلت رحمة الله تعالى بالناس؛ فجاء الإسلام بدعوته وعمل عمله في العقول والقلوب، وأخذ في صناعة العالم بمنهج الله تعالى.
ويمكن إجمال أوضاع العالم التي جعلته ملائما لدعوة الإسلام في النقاط التالية:
أولا: شيوع الضلال الديني
يرحم الله عباده، وينزل عليهم كتبه، ويرسل فيهم رسله؛ ليخرجهم من ظلمات الشرك والكفر، إلى أنوار الحق والإيمان.
وجاءت الرسالات تَتْرَى، فكلما احتاج الناس إلى الحق أتاهم رسول من قبل الله تعالى بالهداية والخير.
ودائما تأتي الرسالة في إحدى الحالات التالية:
1-
أن تكون الرسالة السابقة خاصة بقوم معينين، وحينئذ يحتاج غيرهم إلى رسالة أخرى.
2-
وإما أن يتطور أتباع الرسالة فكريا أو اجتماعيا، مما يجعل الرسالة السابقة فيه قاصرة بتعاليمها عن ملاءمة التطور الجديد.
3-
وإما أن تختفي معالم الرسالة السابقة، أو أغلبها لطول الزمن، مما يجعل أتباعها يعجزون عن معرفتها لتطبيقها.
4-
وإما أن يقوم نفر من الناس بتحريف الرسالة الموجودة لغاية في أنفسهم، وحينئذ يحتاج الناس إلى رسالة صحيحة خالية من التحريف.
وللناس في كل حالة من الحالات المذكورة عذر في عدم الاتباع، وترك ما عندهم من رسالة؛ لأنها تكون قاصرة عن الحق، لا تمثل هدى الله للناس.
فدين إبراهيم عليه السلام قبيل ظهور الإسلام لم يبقَ منه إلا بعض رموز لا تمثل شيئا من الحقيقة، وقد رأينا كيف امتلأت الكعبة بالأصنام، وكيف اخترع العرب ألوان الشرك، وابتدعوا صورا عديدة للعبادات، وزعموا أن ذلك من دين إبراهيم عليه السلام.
ورأينا أهل الكتاب وقد أدخلوا في دين عيسى صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، وحرفوه وبدلوه وشغلوا أنفسهم بالمجادلات والمحاورات حول الألوهية والمسيح ومريم بما لا يفيد.
ورأينا ما كان عند الهند وفارس من ضلال وفساد جعلهم يعبدون النار والحيوان وكافة مظاهر الطبيعة المخلوقة.
كل هذا يؤكد الضلال الديني في العالم كله، ويؤكد حاجة الناس إلى دين ينقذهم من هذا الضياع الذي هم فيه، وفي رواية سلمان الفارسي عن قصة إسلامه دلالة واضحة على هذا الضلال الذي ساد العالم كله؛ لأنه عايش المجوسية والنصرانية واليهودية في هذا الزمان قبيل ظهور الإسلام.
يروي ابن عباس عن سلمان الفارسي أنه قال: "كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: "جي"، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، لا أتركها تخبو ساعة، وكان لأبي ضيعة عظيمة.
شغل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلع عليها، ودبر شئونها، وأمرني فيها ببعض ما يريد.
ثم قال لي: لا تحتبس علي، ولا تغب عني، فإنك إن احتبست علي كنت أهم من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري سبب حبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عيلهم أنظر ماذا يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها.
فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام.
ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وقد شغلت عن عمله كله.
فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟
قلت: يا أبتِ مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زالت عندهم حتى غربت الشمس.
قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، ودينك ودين آبائك خير منه.
قلت: كلا والله، وإنه لخير من ديننا.
فخافني، فجعل في رجلي قيد، ثم حبسني في بيته.
وبعثت إلى النصارى وقلت لهم: إذا قدم عليكم من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، فأقبل عليهم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني.
فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذنوني بهم.
فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام.
فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟
قالوا: الأسقف في الكنيسة.
فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك.
قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه.
فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جمعتم له منها أشياء جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئًا.
قالوا: وما علمك بذلك؟
قلت: أنا أدلكم على كنزه.
قالوا: فدلنا عليه.
فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا.
فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه.
يقول سلمان: فما رأيت رجلًا يصلي أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَن توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم علي ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على مثل أمره.
فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خبر رجل "على أمر صاحبه"، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانا أوصاني إليك وقد أمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي.
قال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت: يا فلان، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته، فإنه على مثل أمرنا.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري.
فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على أمر أصحابه وهديهم، واكتسبت حتى صارت لي بقيرات وغنيمة.
قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل.
قال: فلما حضر، قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، وأنه أوصى بي إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، إلى فلان، وأوصاني بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرة
إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل"1.
ونلحظ من القصة ما كان عليه الفرس والنصارى، وما كان عليه الجميع من ضلال جعلت سلمان رضي الله عنه يترك موطنه، ودين آبائه، وينتقل في العديد من الأماكن باحثا عن الدين الحق، حتى وجده في مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن رحمة الله بالناس أن جاءهم بالإسلام في وقت تلاقت فيه الأفهام، ونضجت العقول، وتشابهت في التوجه والتفكير، حتى صارت البشرية كيانا فكريا واحدا في مصاحبة دين الله الواحد، الذي جاء مناسبا للناس أجمعين.
وقد ضمن الله دينه من التعاليم ما يجعله صالحا على الزمن كله لا يقصر عن غاية للناس إلى يوم القيامة، وحفظ الله دينه بثبوت الوحي الذي نزل به، وحقق الأسباب الموجبة لهذا الحفظ، الأمر الذي يؤكد استمرار الإسلام بين الناس كما أنزل من عند الله تعالى بلا تحريف أو غموض.
إن الحقيقة التطبيقية تؤكد كفاية الإسلام للناس وعدم حاجتهم لدين جديد، وكل ما عليهم أن يعلموا دينهم، ويعملوا بما جاء به.
1 رواه أحمد في المسند - الفتح الرباني - باب المناقب - باب ما جاء في سلمان ج22 ص261، والحاكم في مستدركه، والطبراني في الكبير بنحوه، يقول الهيثمي: رجال هذه الرواية رجال الصحيح، وقد صرح محمد بن إسحاق بالسماع فانتفت تهمة التدليس، وذكر البخاري في الصحيح أن قصة إسلام سلمان تناولها بضعة عشر سيدا.