المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس: - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي - جـ ٢

[الحجوي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌القسم الثالث: في الطور الثالث للفقه وهو طور الكهولة

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي

- ‌حدوث مادة الكاغد وتأثيره على الفقه:

- ‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر:

- ‌استطراد بعض المكثرين من التأليف:

- ‌الاختلاف في مظنة الاتفاق:

- ‌حدوث علم التصوف ومجمل تاريخه وأطواره:

- ‌بعض تراجم الصوفية

- ‌مدخل

- ‌الزيدية في اليمن:

- ‌بعض تراجم الزيدية:

- ‌فقه الشافعية

- ‌تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع

- ‌مدخل

- ‌تراجم الحنفية في القرن الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب مالك في المائة الثالثة والرابعة:

- ‌بعض أصحاب الشافعي الذين نشروا مذهبه في القرنين الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث والرابع:

- ‌صنعة التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر

- ‌استنتاج من حالة الفقهاء في المدة السالفة:

- ‌علم الخلافيات:

- ‌القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي لهذه القرون:

- ‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:

- ‌تراجم الفقهاء في هذه العصور:

- ‌إصلاح القرويين:

- ‌أشهر أصحاب الإمام مالك بعد القرن الرابع إلى الآن:

- ‌أشهر مشاهير الشافعية بعد المائة الرابعة إلى الآن:

- ‌مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع:

- ‌تجديد الفقه:

- ‌ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا:

- ‌مناظرة فقيهين في القرن الخامس:

- ‌غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه:

- ‌عدم تنقيح كتب الفقه:

- ‌فقه العمليات وتاريخ نشأته وانتشاره:

- ‌تحرير لمسألة العمل الفاسي:

- ‌التقليد وأحكامه:

- ‌تقليد الإمام الميت:

- ‌التزام مذهب معين وتتبع الرخص:

- ‌المذاهب الأربعة ليست متباعدة:

- ‌هل يجوز الخروج عن المذاهب:

- ‌حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم:

- ‌خصال المفتي:

- ‌ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى:

- ‌حال الإفتاء في زماننا:

- ‌الكتب التي يفتى منها بالمغرب:

- ‌الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المجتهد، شروطه، أقسامه:

- ‌مواد الاجتهاد، تيسر الاجتهاد، الطباعة، كتبه:

- ‌بحث مهم:

- ‌هل كل مجتهد مصيب:

- ‌اقتداء المذهب بعضهم ببعض

- ‌نقض حكم المجتهد:

- ‌هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده:

- ‌من أدرك رتبة الاجتهاد:

- ‌ذيل وتعقيبات للمؤلف

- ‌مدخل

- ‌البحث الأول:

- ‌البحث الثاني:

- ‌البحث الثالث:

- ‌البحث الرابع:

- ‌البحث الخامس:

- ‌البحث السادس:

- ‌البحث السابع:

- ‌البحث الثامن:

- ‌البحث التاسع:

- ‌البحث العاشر:

- ‌البحث الحادي عشر:

- ‌البحث الثاني عشر:

- ‌البحث الثالث عشر:

- ‌البحث الرابع عشر:

- ‌البحث الخامس عشر:

- ‌البحث السادس عشر:

- ‌البحث السابع عشر:

- ‌البحث الثامن عشر:

- ‌البحث التاسع عشر:

- ‌البحث العشرون لبعض الأصحاب الرباطيين:

- ‌البحث الحادي والعشرون له أيضا ونصه:

- ‌البحث الثاني: والعشرون له أيضا ونصه

- ‌البحث الثالث والعشرو: له أيضا

- ‌البحث الرابع والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين

- ‌البحث الخامس والعشرون:

- ‌البحث السادس والعشرون:

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس أبواب القسم الثالث من الفكر السامي:

- ‌فهرس أبواب القسم الرابع من كتاب الفكر السامي:

الفصل: ‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:

‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:

اعلم أنه برقت بارقة على الفقه سنة 550 خمسين وخمسمائة تحرك بها حركة لكن كانت أشبه بحركة الموت، وذلك أن عبد المؤمن بن علي لما غلب المغرب ووجد العلماء انهمكوا في الفروع راضين خطة التقليد الذي يقضي على الفقه، فكر فكرة في إلزام العلماء الاجتهاد، وترك التقليد فقيل: إنه أبرزها إلى حيز العمل، فحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع كتب أحاديث الأحكام ذكر ذلك في القرطاس وهو حجة ثبت وثقه ابن خلدون وغيره وأنكر ذلك التميمي في "المعجب" وقال: إن عبد المؤمن إنما فكر في ذلك، وإن الذي أبرزه هو حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور المتوفى سنة 595 خمس وتسعين وخمسمائة قال: إن في أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب الفروع بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب، قال: لقد شهدت منها وأنا بفاس يومئذ يؤتى منها بالأجمال فتوضع ويطلق فيها النار، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة وهي الكتب الخمسة والموطأ ومسند البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن

ص: 196

الدارقطني، وسنن البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها ابن تومرت في الطهارة، فأجابوه لذلك، وجمعوا ما أمرهم بجمعه، فكان يمليه على الناس بنفسه، ويأخذهم بحفظه، وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب، وحفظه الناس من العوام والخاصة، فكان يجعل الجعل السني من الكساء والأموال، وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك من المغرب جملة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه، وأظهره يعقوب هذا، يشهد لذلك عندي ما أخبرني به غير واحد ممن لقي أبا بكر بن الجد أخبرهم قال: لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المشعبة التي أحذثت في دين الله أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أو أكثر، فأي هذه الأقوال هو الحق، وأيها يجب أن يأخذ به المقلد، فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود عن يمينه، أو السيف، فظهر في أيامه ما خفي في أيام أبيه وجده، ونال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوه في أيام أبيه وجده. ا. هـ.

وقال ابن خلكان: أمر يعقوب المنصور الموحدي برفض فروع الفقه، وأحرق كتب المذهب وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباط القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس، قال: ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا وهم على ذلك الطريق مثل أبي الخطاب1

1 أبو الخطاب هو عمر بن الحسن بن علي يرفع نسبه إلى دحية الكلبي الصحابي الجليل وبقية النسب في ابن خلكان قال: إنه من بلنسية من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء أتقن فن الحديث وما يتعلق به من اللغة وأيام العرب وأشعارها، طلب الحديث في بلده الأندلس، ورحل منها إلى مراكش وأفريقيا والشام والعراق وخراسان وفازندران وأصبهان ونيسابور وهو في كل ذلك يطلب الحديث، ويؤخذ عنه، وقدم أربل سنة 604، فوجد مظفر الدين الملك المعظم صاحبها يحتفل للمولد، فعمل له كتابا سماه "التنوير في مولد السراج المنير" وهو أول ما ألف في الباب، ودفع له الملك ألف دينار، وله عدة تصانيف، وتوفي بالقاهرة=

ص: 197

بن دحية، وأخيه أبي عمر، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي نزيل دمشق وغيرهم. ا. هـ.

ولا يخفى ما هناك من المخالفة بثني كلامي "لمعجب""وابن خلكان"، فالأول يقتضي أنه ألزمهم بالظاهر، والثاني يقتضي حرية الاجتهاد حتى في العمل بالقياس، ويظهر لي أن الحق ما قاله صاحب "المعجب" لأنه حضر الوقعة وفي بلده كانت، فهو أحرى أن يحقق الواقع.

وعندي أنه لو أعطاهم حرية الاجتهاد، ما تركوه، ولا رجعوا للتقليد عند اضمحلال دولته، وأن الذي أوجب نبذهم لعمله هو أنه ألزمهم بالانتقال من تقليد مالك إلى تقليد الظاهرية في الحقيقة، وإن كان في اللفظ ألزمهم بالاجتهاد ولا معنى لإبدال مذهب يرون صوابيته، وعليه وجدوا آباءهم وأجدادهم إلى مذهب ظهر له وحده حقيته.

ويدل لما في "المعجب" ما قاله سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي

= سنة 633، ثلاث وثلاثين وستمائة عن سبع وثمانين سنة 516، أما أخوه أبو عمر عثمان، فكان أسن منه حافظا للغة العرب قيما بها، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي كان أنشأها بالقاهرة، ورتب مكانه أخاه أبا عمر، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة 634 أربع وثلاثين وستمائة. ا. هـ. ابن خلكان بخ 517 أبو بكر محمد محيي الدين بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي شهر بابن عربي ويزاد لام التعريف ولد بمرسية سنة 560 ثم طاف البلدان من الأندلس والمغرب والشام، ودخل بغداد، وحدث بها شيء من مصنفاته، ودخل بلاد الروم والمشرق، وله مؤلفات كثيرة كالتفسير والفتوحات المكية المشهورة في النوادي العلمية وتآليفه تدل على عقل وفلسفة عظيمة ومعرفة نادرة وخيال واسع وتمكن من العلوم والمعرفة إلا أن أرباب البصائر حذروا من الاشتغال بكتبه لما فيها من المقالات التي لا ينبغي أن يشتغل بها لمخالفتها ظاهرا لما عليه جمهور الأمة، توفي بدمشق سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة وله اختيارات في الفقفه شاذة لاجتهاده منها قوله بمسح الرجلين في الوضوء من غير خف، وجواز السجود في التلاوة إلى أي جهة، وجواز إمامة المرأة، والقول بإيمان فرعون، وعبور الجنب المسجد والإقامة فيه وقراءته القرآن، وأن الطهارة لا تشترط في صلاة الجنازة في احتيارات أخر يطول ذكرها والقول الفصل ما قال جلال السيوطي: اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه وابن عربي نفسه حرم النظر فيها. ا. هـ. مؤلف. قلت: وراجع أيضا ما نقله الحصفكي في الدر المختار "3/ 303"، من معروضات أبي السعود العمادي من وجوب ترك مطالعة كتب ابن عربي، وقد صدر أمر سلطاني بذلك.

ص: 198

في تأليف له في بيوتات فاس ونصه: "إن مهدي الدولة الموحدية وأتباعه من ملوكها كانوا ينكرون الرأي، وانتحلوا مذهب الظاهرية، وهو العمل بظاهر القرآن والسنة، وحملوا الناس على ترك الفروع الفقهية، وحرقوا كتب الفروع كلها، ولم تزل كتب الفروع منبوذة عنده، وعند عبد المؤمن بن علي وأولاده، بل حرقوها ووضعوا في السنن أوضاعا، وأوقعوا المحن بذوي الفروع، وقتلوهم وضربوهم بالسياط، وألزموهم الأيمان المغلظة من عتق وطلاق على أن لا يتمسكوا بشيء من كتب الفقه، ولما جاءت الدولة المرينية، نقضت ذلك كله، وجددت كل الفروع، فأملى الفقيه أبو الحسن علي بن عشرين "المدونة" من حفظه، ووجدوا نسخة قوبلت عليها النسخة التي أملاها، فلم تختلف إلا بواو أو فاء. ا. هـ.

وفي "نيل الابتهاج" أن عبد الله بن محمد بن عيسى التادلي الفاسي كتب "المدونة" من حفظه بعد أن أمر الموحدون بحرقها. ا. هـ.

وفي قوانين ابن جزي عند ذكره الخلفاء الموحدين: وكان المنصور أبو يوسف يعقوب عالما محدثا ألف كتاب الترغيب في الصلة، وحمل الناس على مذهب الظاهرية، وحرق كتب المالكية. ا. هـ. وهذا كله يؤيد ما ارتأيناه، فتبين أن لسرعة انهدام ما أسسه الموحدون أسبابا:

الأول: جعلهم ذلك إجباريا، وكل ما كان كذلك لا يقبل، ويسرع زواله ولو كان حقا لأنفه النفوس من كل ما تلزم به جبرا.

الثاني: أنهم سموه اجتهادا، وإنما هو إبدال الرأي بمذهب الظاهرية الذي هو جمود لم يستسحنه الجمهور، ومثل هذا وقع لابن حزم عاب على الناس تقليد مالك، وقلد داود الظاهري، وإن كان المفتي على مذهبهم لا بد له من اجتهاد، ورجوع للأصول من كتاب أو سنة، ولذلك استفاد الفقه من عمل الموحدين فائدة عظمى بظهور حفاظ وعلماء كبار تآليفهم تآليف مهمة في الحديث وغيره.

ص: 199

الثالث: انقضاء دولتهم وإتيان دولة أخرى تريد تخريب مجد ما قبلها لتشيد مجدا جديدا، ثم إن الداعي لما فعله الموحدون ليس نصرة مذهب ظهر لهم صوابيته فقط، بل مع الانتقام من الفقهاء المالكية الذين أدركوا شأوا بعيدا أيام لمتونة قبلهم فيما يظهر لي.

قال في "المعجب": قد أدرك الفقهاء في أيام علي بن يوسف بن تاشفين وهي الثلث الأول من القرن السادس مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكام كبيرها وصغيرها موقوفة عليهم طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت أموالهم، واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول أبو جعفر بن البني الجياني:

أهل الرياء لبستم ناموسكم

كالذئب أدلج في الظلام العاتم

فملكتم الدنيا بمذهب مالك

وقسمتم الأموال بابن القاسم

وركبتم شهب البغال بأشهب

وبأصبغ صبغت لكم في العالم

إلى أن قال: ولم يكن يحظى عند أمير المسلمين إلا من علم علم الفروع على مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمن كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمن يعتني بهما كل الاعتناء. ا. هـ. المراد.

قال الخطابي في "معالم السنن" المتوفى سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة ما نصه: رأيت أهل العلم في زمننا قد انقسموا1 فرقتين: أصحاب الحديث، وأصحاب الفقه، وكل فرقة لا تنفك محتاجة إلى ما عند الأخرى؛ إذ الحديث

1 بلغ بهم الأنقسام إلى التنازع والخصام ذكر عياض في مداركه أن عيسى بن سعادة الفاسي لما توفي سنة 355 تنازع فيه علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء والمحدثون كل يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه، وهذا نظير ما وقع بعد الصدر الأول من انسحاب القراء عن صف الفقهاء والمحدثين، وما وقع في هذا العصر من انفراد الصوفية عن الفقهاء وكثرة الفرق داعية إلى التلاشي والانحطاط ولله عاقبة الأمور. ا. هـ. مؤلف.

ص: 200

أساس، والفقه بناء، وكل بناء على غير أساس فمنهار، وكل أساس لا بناء عليه فخراب، وعلى ما بينهما من التداني، وشدة الحاجة بل الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبتها، فهما أخوان متهاجران على أنه يجب عليهما التناصر والتعاون، فأهل الأثر وكدهم الرواية، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ الذي أكثره موضوع ومقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستخرجون ركازها وسرها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم قاصرون عن مبلغ العلم بالسنن، وآثمون بسوء القول.

وأما أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون إلا على أقل قليل من الحديث، ولا يكادون يميزون بين سقيمه من صحيحه، ولا يعبئون أن يحتجوا بالسقيم إذا وافق آراءهم وقد اصطلحوا على قبول الضعيف والمنقطع إذا ما اشتهر عندهم، وتعاورته الألسنة من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنا فيه، ولو حكي لهم عن أئمة مذاهبهم قول، لتثبتوا واستبرءوا له العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون إلا رواية ابن القاسم أو أشهب أو أضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم، لم يكن عندهم طائلا، وترى أصحاب أبي حنيفة يتثبتون، ولا يقبلون إلا رواية محمد بن الحسن أو أبي يوسف والعلية من أصحابه، فإذا جاء عن الحسن بن زياد اللؤلئي وذوي روايته قول بخلافه، لم يقبلوه، وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها وهكذا كل فرقة من الفقهاء في مذهب أئمتهم لا يقتنعون1 إلا بالثقة الثبت، فإذا كان هذا في الفروع، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم وهو الرواية عن رسول رب العزة الواجب حكمه، اللازم طاعته، الذي يجب التسليم لأمره، والانقياد لحكمه حتى لا نجد في أنفسنا حرجا

1 قوله: لا يقتنعون إلا بالثقة الثبت إلخ هذا مع وقوع الاختلاط في المذاهب، وكثرة الروايات والرواة، فأصحاب الشافعي البغدادي ينقلون أقوالا غير ما ينقله المصريون، وهكذا المالكية لهم طريقة العراقيين والحجازيين والمصريين والقرويين، نص على ذلك صاحب "المعيار" نقلا عن ابن مرزوق في نوازل الصلاة. ا. هـ. مؤلف.

ص: 201

مما قضاه؟ وإذا جاز للإنسان أن يتسامح في حق نفسه، فيقبض الزائف، ويغضي عن العيب، فلا يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبا عنه كولي اليتيم الضعيف، ووكيل الغائب، فإذا فعل، كان خيانة للعهد، وإخفارا للذمة، ولكن قوما استوعروا طريق الحق، واستطابوا الدعة، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللا، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، واتخذوها جنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدل يتناظرون بها.

هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلواه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين، يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلا فريقا من المؤلفين. فيا للرجال ويا للعقول أين يذهب بهم وأين يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان. ا. هـ. بخ.

وقال ابن العربي في "القواصم والعواصم": عطفنا عنان القول إلى مصائب نزلت بالعلماء في طريق الفتوى لما كثرت البدع، وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء، وتعلقت أطماع الجهال به، فنالوه بفساد الزمان ونفوذ وعد الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله:"اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 1 وبقيت الحال هكذا، فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، وذلك بقدر الله تعالى، وجعل الخلف منهم يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك وكبراء أصحابه ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلنمكة وأهل طليطلة، وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به أمثل طريقة لهم، علموه كتاب الله، ثم نقلوه إلى

1 أخرجه البخاري "1/ 174، 175"، ومسلم "2673" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 202

الأدب ثم إلى "الموطأ" ثم إلى "المدونة" ثم إلى وثائق ابن العطار، ثم يختمون له بأحكام ابن سهل، ثم يقال له: قال فلان الطيطلي وفلان المجتريطي وابن مغيث -لا أغاث الله ثراه، فيرجع القهقرى، ولا يزال يمشي إلى وراء، ولولا أن الله مَنَّ بطائفة تفرقت في ديار العلم، وجاءت بلباب منه كالقاضي أبي الوليد الباجي، وأبي محمد الأصيلي، فرشوا من ماء العلم على هذه القلوب الميتة، وعطروا أنفاس الأمة الذفرة، لكان الدين قد ذهب، ولكن تدارك الباري تعالى بقدرته ضرر هؤلاء بنفع هؤلاء، وربما سكنت الحال قليلا، والحمد لله. ا. هـ. نقله في "الاستقصا".

وقد وضعناه أمامك لتستفيد كيف كان تعلم أهل الأندلس في القرن الخامس والسادس، وتعلم أن رحلة العلماء من منعشات العلم، وتعلم أن الفقه إذ ذاك قد أخذ في دور التأخر.

وقال القرافي في الفرق الثامن والسبعين: يجب على أهل المذاهب أن يتفقدوا مذاهبهم، فكل ما وجوده على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم من المعارض يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه. قف على آخر كلامه.

وإن رمت التوسع في هذا المقام، فعليك بـ"إعلام الموقعين" فإنه أخنى بلائمة كثيرة على العلماء في تركهم الاجتهاد، وميلهم لظل التقليد وذكر في الطبقات السبكية في ترجمة الحافظ أبي طاهر السلفي الإسكندراني أن والد السبكي اعترض عليه في فتوى أفتاها بأن فنه الحديث، وليس من شأنه الإفتاء وإني لأعجب من شافعي يقرر في غير ما موضع أن إمامهم بنى مذهبه على الحديث، وأن أصلهم الأصيل هو الحديث، وأنه أوصاهم بأن الحديث هو مذهبه، ومع ذلك يعترض هذا الاعتراض، وكم لهذه القضية من نظير في تلك القرون.

وفي "إعلام الموقعين" عدد 457 من الجزء الرابع: لا يجوز أن ينسب

ص: 203

للشافعي قول يخالف الحديث، وأنه يجوز للمفتي أن يفتي من الصحيحين أو السنن أو غيرهما من كتب الحديث الموثوق بها فانظره.

فتبين لكم من هذا ما حصل في هذه الأزمان من استقلال الفقه عن الحديث، والحديث عن الفقه مع ما كانا عليه من التلازم في القرون الأولى، ففي آخر الشمائل الترمذية عن ابن المبارك: إذا ابتليت بالقضاء، فعليك بالأثر. وعن ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذهم.

وقد أراد الموحدون في أفريقيا والأندلس الرجوع إلى الأصل الأول، لكنهم لم ينجحوا، ولم يدم عملهم للأسباب التي بيناها لكم ولله عاقبة الأمور.

قال السبكي في "الطبقات" عدد 169 من الجزء الأول ما نصه: ثم أفضى الأمر إلى طي بساط الأسانيد رأسا وعد الإكثار منها جهالة ووسواسا، ولا يهون الفقيه أمر ما نحكيه من غرائب الوجوه، وشواذ الأقوال، وعجائب الخلاف قائلا: حسب المرء ما عليه الفتيا، فليعلم أن هذا هو المضيع للفقه أعني الاقتصار على ما عليه الفتيا، فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ لا يكون فقيها إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون ناقلا مخبطا حامل فقه إلى غيره لا قدرة له على تخريج حادث بموجود، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق غائب بشاهد، وما أسرع الخطأ إليه، وأكثر تزاحم الغلط عليه، وأبعد الفقه لديه، ثم روى حديث:"نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه ثم وعاها وحملها، رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث رواه الترمذي1 وغيره. ا. هـ.

فانظر رحمك الله تأفف أهل القرن الرابع إلى الثامن من مآل الفقه وترك السنة والاجتهاد والاشتغال بالفروع وهكذا بقيت الحال في نقصان واندحار إلى

1 "2658" وأخرجه أحمد "5/ 83"، وابن ماجه "230"، والدارمي "1/ 75"، من حديث زيد بن ثابت، وصححه غير واحد من المحدثين، وأخرجه من حديث ابن مسعود الشافعي، "1/ 14"، والترمذي "2659"، وابن ماجه "232"، وإسناده صحيح، وأخرجه من حديث جبير بن مطعم أحمد "4/ 81"، وابن ماجه "1/ 75، 76"، وأخرجه من حديث ابن عباس الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" ص166.

ص: 204

وقتنا هذا، وربما حصلت حركة في بعض الأعصار لكن يعقبها سكون وجمود. ومما اشتغل به فقهاء هذه العصور تأليف مناقب أئمتهم، وتفاخروا في ذلك حتى صارت مناقب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في مجلدات. انظر حرف الميم من "كشف الظنون".

ص: 205