المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر: - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي - جـ ٢

[الحجوي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌القسم الثالث: في الطور الثالث للفقه وهو طور الكهولة

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي

- ‌حدوث مادة الكاغد وتأثيره على الفقه:

- ‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر:

- ‌استطراد بعض المكثرين من التأليف:

- ‌الاختلاف في مظنة الاتفاق:

- ‌حدوث علم التصوف ومجمل تاريخه وأطواره:

- ‌بعض تراجم الصوفية

- ‌مدخل

- ‌الزيدية في اليمن:

- ‌بعض تراجم الزيدية:

- ‌فقه الشافعية

- ‌تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع

- ‌مدخل

- ‌تراجم الحنفية في القرن الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب مالك في المائة الثالثة والرابعة:

- ‌بعض أصحاب الشافعي الذين نشروا مذهبه في القرنين الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث والرابع:

- ‌صنعة التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر

- ‌استنتاج من حالة الفقهاء في المدة السالفة:

- ‌علم الخلافيات:

- ‌القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي لهذه القرون:

- ‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:

- ‌تراجم الفقهاء في هذه العصور:

- ‌إصلاح القرويين:

- ‌أشهر أصحاب الإمام مالك بعد القرن الرابع إلى الآن:

- ‌أشهر مشاهير الشافعية بعد المائة الرابعة إلى الآن:

- ‌مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع:

- ‌تجديد الفقه:

- ‌ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا:

- ‌مناظرة فقيهين في القرن الخامس:

- ‌غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه:

- ‌عدم تنقيح كتب الفقه:

- ‌فقه العمليات وتاريخ نشأته وانتشاره:

- ‌تحرير لمسألة العمل الفاسي:

- ‌التقليد وأحكامه:

- ‌تقليد الإمام الميت:

- ‌التزام مذهب معين وتتبع الرخص:

- ‌المذاهب الأربعة ليست متباعدة:

- ‌هل يجوز الخروج عن المذاهب:

- ‌حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم:

- ‌خصال المفتي:

- ‌ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى:

- ‌حال الإفتاء في زماننا:

- ‌الكتب التي يفتى منها بالمغرب:

- ‌الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المجتهد، شروطه، أقسامه:

- ‌مواد الاجتهاد، تيسر الاجتهاد، الطباعة، كتبه:

- ‌بحث مهم:

- ‌هل كل مجتهد مصيب:

- ‌اقتداء المذهب بعضهم ببعض

- ‌نقض حكم المجتهد:

- ‌هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده:

- ‌من أدرك رتبة الاجتهاد:

- ‌ذيل وتعقيبات للمؤلف

- ‌مدخل

- ‌البحث الأول:

- ‌البحث الثاني:

- ‌البحث الثالث:

- ‌البحث الرابع:

- ‌البحث الخامس:

- ‌البحث السادس:

- ‌البحث السابع:

- ‌البحث الثامن:

- ‌البحث التاسع:

- ‌البحث العاشر:

- ‌البحث الحادي عشر:

- ‌البحث الثاني عشر:

- ‌البحث الثالث عشر:

- ‌البحث الرابع عشر:

- ‌البحث الخامس عشر:

- ‌البحث السادس عشر:

- ‌البحث السابع عشر:

- ‌البحث الثامن عشر:

- ‌البحث التاسع عشر:

- ‌البحث العشرون لبعض الأصحاب الرباطيين:

- ‌البحث الحادي والعشرون له أيضا ونصه:

- ‌البحث الثاني: والعشرون له أيضا ونصه

- ‌البحث الثالث والعشرو: له أيضا

- ‌البحث الرابع والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين

- ‌البحث الخامس والعشرون:

- ‌البحث السادس والعشرون:

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس أبواب القسم الثالث من الفكر السامي:

- ‌فهرس أبواب القسم الرابع من كتاب الفكر السامي:

الفصل: ‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر:

‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر:

وتقدم في العصر قبله ثمانية:

262-

تاسعهم الإمام إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر التميمي الحنظلي 1 المروزي:

أبو محمد أو أبو يعقوب الملقب بابن راهويه بضم الهاء وفتح الياء أو فتح الهاء والواو، نزيل نيسابور وعالمها، بل أحد أئمة الدين وأعلام المسلمين، وهداة المؤمنين، الجامع بين التقوى والفقه والحديث، الحفظ والصدق والورع والزهد.

روى عن ابن عيينة، والدراوردي، ومعتمر بن سليمان، وابن علية، أحمد، وابن معين من أقرانه، وخلق بالحجاز، الشام والعراق وخراسان.

وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي، وأخرجوا له جميعا إلا ابن ماجه، وروى عنه خلق كثير، منهم يحيى بن آدم من شيوخه، وأحمد بن حنبل، وابن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وخلق كثير، آخرهم موتا أبو العباس السراج.

وثناء الفضلاء عليه كثير قال فيه الإمام أحمد: لا أعلم لإسحاق نظيرا

1 ترجمته في تهذيب ابن عساكر 2/ 409، "وتهذيب التهذيب" 1/ 216 "وحلية الأولياء" 9/ 234، وتاريخ بغداد 6/ 345.

ص: 18

إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أمير المؤمنين، فتمسك به، وقال: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثله، وقال: لا أعرف له بالعراق نظيرا.

وقال ابن حجر في الفصل الأول من "مقدمته": هو أمير المؤمنين في الفقه والحديث، وتناظر مع الشافعي في مسائل انظرها في ترجمته من "الطبقات" قال الخفاف: أملى علينا من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها في كتاب، فما زاد ولا نقص، وقال إبراهيم بن أبي طالب: أملى المسند1 كله من حفظه. وقال البخاري: توفي بنيسابور سنة 238 2 ثمان وثلاثين ومائتين عن سبع وسبعين سنة.

263-

عاشرهم الإمام أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان:

الكلبي البغدادي الفقيه أحد الأئمة المجتهدين3 روى عن ابن عيينة، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، وعنه الإمام مسلم خارج الصحيح، وأخرج له في الصحيح بواسطة، كما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

وقال الذهبي في كتاب "العلو": أخذ عنه سفيان بن عيينة والكبار، قال أحمد: هو عندنا في مسلاخ4 الثوري أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وكفى بهذا شهادة.

قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا وخيرا ممن صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها، وقمع مخالفيها.

قال الخطيب: كان أولا يتفقه بالرأي حتى قدم الشافعي بغداد، فاختلف

1 يعني مسنده هو.

2 جاء في ترجمته في "طبقات الحنابلة" ص68: ولادته سنة 166، ووفاته سنة 243.

3 ترجمته في "تذكرة الحفاظ" 2/ 87، وتاريخ بغداد 6/ 65، وتهذيب التهذيب 1/ 118، وطبقات الشافعية 1/ 118، 119، وشذرات الذهب 2/ 93، ولسان الميزان 1/ 35.

ص: 19

إليه، ورجع عن الرأي إلى الحديث. وقال ابن عبد البر: كان ثقة فيما يروي، وحسن النظر إلا أنه له شذوذا خالف في الحديث، بل في مسائل الفقه التي أغرب فيها. وقوله: وقد عدوه. هو جار مجرى الاعتذار عنه فيما شذ فيه، وأنه بحيث لا يعاب عليه الاجتهاد وإن أغرب فيه، فإنه أحد أئمة الفقهاء.

ومن جملة شذوذ قوله بتقديم الوصية على الدين في التركة لتقدمها في القرآن قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1 وخالف في ذلك سائر الأئمة وقوفا مع ظاهر الآية من غير التفات إلى المعنى. وذكر له في "الطبقات السبكية" مسائل أخرى توفي ببغداد سنة 240 أربعين ومائتين وقد عده السبكي على عدته من المقلدين للشافعي، والذي صرح به غير واحد أنه كان مجتهدا مستقلا، فنسبته إليه نسبه المتعلم للمعلم لا المقلد للمقلد، فقد كان له مذهب مدون وأتباع كما قال في "المدارك" قال في "الديباج": إن أصحابه لم يكثروا، ولا طالت مدتهم، وانقطوا بعد ثلاثمائة.

264-

حادي عشرهم الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل:

العدناني الشيباني المروزي2 البغدادي الإمام الشهير الجليل المنفرد في زمانه بغاية الورع والزهادة، والمبرز على أقرانه بحفظ السنة النبوية، والذب عنها، جمع شتاتها، يدل على ذلك تلاميذه الذين تخرجوا به، وكتبه الكثيرة، وأشهرها "المسند" الذي اعتمده معاصروه ومن بعده بحيث إن الحديث إذا لم يوجد له أصل في "المسند" فلا صحة له غالبا، وجميع أصحاب المذاهب محتاجون إليه، معولون عليه.

1 سورة النساء الآية: 11.

2 المروزي نسبة إلى مرو الشاهجان وهي إحدى كراسي خراسان الأربعة: نيسابور، وهرات، وبلخ، وهناك مرو الروذ النسبة إليها مرو المروذي بخلاف مرو، فالنسبة إليها مروزي بزيادة الزاي، كما زادوها في الري، فقالوا: الرازي للفرق، والله أعلم. من ابن خلكان 1/ 27 و69 بتصرف.

ص: 20

رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام والجزيرة، وروى عن هشيم، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، وعمرو بن عبيد، ويحيى بن أبي زائدة، وعبد الرزاق، وابن علية، والوليد بن مسلم: ووكيع وابن مهدي، والقطان، وابن عيينة وخلائق، وروى عنه البخاري في باب ما يحل من النساء وما يحرم، وفي المغازي بواسطة، وكأنه لم يكثر عنه؛ لأن البخاري في رحلته الأولى لقي أشياخه، فاستغنى عنه بهم، وفي الأخيرة كان أحمد قطع التحديث، فروى عن أقرانه ابن المديني، وأكثر عنه فمن دونه. وروى عنه ولداه السيدان الحفاظان صالح وعبد الله، ومسلم، وأبو داود وغيرهم، بل روى عنه الشافعي، وابن مهدي، الأسود بن عمر، ويزيد بن عمر من شيوخه، وابن معين، وابن المديني من أقرانه، وأبو زرعة، والأثرم، والكوسج وخلق آخرهم موتا أبو القاسم البغوي.

وقد أفردت ترجمته ومناقبه بالتصنيف قال أبو زرعة: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، والذي له في المسند نحو ثلاثين ألف حديث، وفي التفسير مائة وعشرون ألفا. قال أبو زرعة: حزرت كتب أحمد يوم مات، فكانت اثني عشر حملا وعدلا، وكل ذلك يحفظه عن ظهر قلب. قال عبد الله ولده، قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك عن الإسناد، أو عن الإسناد حتى أخبرك عن الكلام.

ولد أحمد سنة 164 أربع وستين ومائة، وامتحن في رمضان سنة 220 عشرين ومائتين، وتوفي ببغداد سنة 241 إحدى وأربعين ومائتين رحمه الله.

ثناء الناس عليه:

أما ثناء الناس عليه، فكثير: قال في "المدارك": وأما زهده وورعه فأشهر من أن يذكر، وقد حاز هو والثوري في ذلك قصب السبق، ومزيد الشهرة، وإن كان لبقية الأئمة من ذلك الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من ابن حنبل.

ص: 21

محنته وظهور حزبه:

قال ابن المديني: إن الله أعز الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة وابن حنبل يوم المحنة، وكفاك بابن المدين شاهدا عدلا، قال بشر الحافي قام أحمد مقام الأنبياء قد تداولته أربعة من الخلفاء بالضراء تارة، وبالسراء، أخرى، وهو معتصم بربه: المأمون، والمعتصم، والواثق، بالضرب والحبس وبعضهم بالإخافة والإرهاب، فما ترك دينه لشيء من ذلك، وبذلك صار زعيم حزب عظيم من أحزاب الإسلام حتى إن العلم إذا وضعه أحمد، لم يرتفع، وإذا رفعه، لم ينحط، وإذا قال في علم: نعم، صار مقبولا محبوبا ثم امتحن في أيام المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسط الدنيا، فما ركن إليها، ولا انتقل عن حالته الأولى، وذلك أنه امتحن محنة عظيمة ليقول بخلق القرآن ثمانية وعشرين شهرا وهو في العذاب ثابت محتسب، وكان ثباته سببا في الإفراج عنه وعن المسلمين.

جاءه المروذي يوما، وقال: يا أستاذ هؤلاء قدموك للضرب، والله يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فقال: يا مروذي اخرج وانظر قال: فخرجت ونظرت في رحبة دار الخليفة، فرأيت خلقا كثيرا، والصحف والأقلام في أيديهم، فقلت: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه، فرجع إلى أحمد وأخبره، فقال: يا مروذي أضل هؤلاء، كلا بل أموت ولا أضلهم، قال المروذي: رجل هانت عليه نفسه في الله.

وقد ناظر ابن أبي دؤاد وهو في قيوده، فغلبه بالحجة، فانكشفت بسببه تلك الظلمة عن علماء السنة رحمهم الله، على أن محنته فيما يظهر كانت سياسية أكثر منه دينية، فإنها بإشارة من ابن أبي دؤاد الذي كان قاضيا، وله الحظوة التامة عند الخلفاء الثلاثة الأول، فلما كانت أيام المتوكل وغضب عليه وعلى ولده، وعزله عن القضاء والمظالم، وصادر ماله، أفرج عن أحمد، وبمراجعة ترجمة ابن أبي دؤاد في ابن خلكان1 وغيره يظهر لك ما قلناه.

1 1/ 81، وانظر تاريخ بغداد 4/ 141، 156، ولسان الميزان 1/ 17.

ص: 22

وقد تولى المتوكل نشر مذهب أهل السنة، ونصره وإيقاع المصائب بالمعتزلة أكثر مما أوقع سلفه بأهل السنة، فالمسألة كانت سياسية أكثر منها دينية بدليل أن الخلاف الذي هولوا به في مسألة الكلام تبين أنه لفظي؛ إذ الصفة القائمة بذاته تعالى قديمة، والمعتزلة لا يقرون بقيام الصفات بالقديم فرارا من تعدد القدماء والحروف والأصوات التي ننطق بها نحن حادثة وتعصب بعض المنتسبين لابن حنبل، فقالوا بقدمها، بل قالوا: إن الجلد وغلاف المصحف أزليان وهو جهل أو عناد، ومثله لا يعد في آراء أهل العلم. فتبين أنه لا خلاف إلا في إثبات قيام الصفات به تعالى، وهكذا جل الخلاف المنسوب للمعتزلة وأهل السنة آيل إلى هذا فهي مسائل حزبية سياسية لا مذهبية دينية1.

ومن أعجب ما يراه الناظر المتبصر في هذه المسألة أن ابن حنبل وحزبه تحرجوا أن يقولوا: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح وأنعم وأكرم بالوقوف عند حد ما ورد، لكنهم أنفسهم لم يقفوا عند حد ما ورد، بل قالوا: إنه غير مخلوق، وإنه قديم، وكلا اللفظين لم يردا أيضا، فكان الاعتراض مشترك الإلزام، بل ورد في القرآن:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} 2 الآية، ولعمري أنه لا فرق بين محدث ومخلوق، بل الذي يقول: إنه قديم، وإنه غير مخلوق هو الذي بظاهر كلامه يناقض الوارد وإن كان قصده صحيحا؛ لأنه يريد المعنى القديم الذي هو صفة الحق سبحانه وهي قديمة كما أن من قال: مخلوق ومحدث يريد الأصوات والحروف، وعلى كل حال كل من كان حر الضمير واللسان يقف باهتا كيف وقع هذا الخلاف، وسفكت لأجله دماء، واستبيحت أعراض في لا شيء ما ذاك إلا أنها مسائل سياسية طليت

1 بل دينية أولا. فإن المعتزلة زعموا أن صفات الله تعالى غير ذاته، وسواه سبحانه مخلوق، فقالوا تبعا لهذا الزعم: إن القرآن وهو كلام الله مخلوق، وأهل السنة قائلون: إن صفات الله تعالى قديمه بقدمه سبحانه ومن تلك الصفات الكلام فنقول تبعا لهذا: إن القرآن هو كلام الله قديم غير مخلوق، وهو الحق.

2 سورة الأنبياء: 3 قال القرطبي: محدث يريد في النزول تلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية. تفسير القرطبي: 11/ 266.

ص: 23

بطلاء الدين تمويهًا على المغفلين.

عقيدته:

قد رموه هو وأصحابه بالحلول وبالتجسيم وبالجهة حيث قال بالفوقية والعلو الواردين في النصوص والاستواء، ونسبوا إليه القول بقدم الحروف والأصوات، وكل ذلك غير صحيح، وإنما هم سلفيون يقتصرون على الوارد، ولا يخوضون في علم الكلام، ولا التأويل، بل يفوضون ويعتقدون في نحو الاستواء واليد والعلو أنها صفات لا نعلم كنهها مع كمال التنزيه عن سمات الحدوث.

وهذا محض التوحيد الحق، فإن القدر الوارد في الكتاب والسنة القطعية من صفات الباري يجب أن يكون حدا مانعا يوقف عنده ويفوض في فهمه، ولا يتطلع إلى ما سواه، فاجناب أعظم من أن يقاس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 نعم حملتهم على الأشعرية وعلماء الكلام من أهل السنة، وتنديد من ندد بهم منهم كالذهبي حملة غير مستحسنة، فالحنابلة رأي استصوبوه لا يسوغ لهم التنديد بأعلام الأمة فيما سلكوه من التأويل الذي لم يجزموا بأنه مراد، بل طرقوه احتمالا، لا سيما تنديدهم بهم في ذبهم عن عقائد السنة بالبراهين القطعية، وهدم بناء الاعتزال بالأسلحة التي بها كان بناؤه، ولولا ذلك لبقي سائدا إلى اليوم، فإن جمود الحنابلة لم يكن مفيدا في هدم قواعد الاعتزال، والذي أفاد في هدمها هو الإمام الأشعري الذي فل الحديد بالحديد كما يأتي لنا في ترجمته، نعم إن جهلة الحنابلة أداهم الجمود على الظاهر إلى بعض معتقدات فاسدة ففي تاريخ ابن العبري إن الخليفة الراضي العباسي لما وقع تشغيب من الحنابلة خرج توقيع بما يقرأ عليهم، ومنه: إنكم تارة تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، تذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين الذهب والشعر القطط والنزول إلى الدنيا، فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات ما أغواه إلخ

انظر عدد 283 منه وإلى هذه المعتقدات

1 سورة الشورى: الآية: 11.

ص: 24

يشير الزمخشري في نظم رمز فيه إلى ما تلمز به المذاهب الأربعة، وهو:

لئن سألوا عن مذهبي لم أبح به

وأكتمه كتمانه لي أسلم

فإن حنفيا قلت قالوا بأنني

أبيح الطلا وهو النبيذ المحرم

وإن مالكيا قلت قالوا بأنني

أبيح لهم أكل الكلاب وهو هم

وإن شافعيا قلت قالوا بأنني

أبيح نكاح البنت والبنت تحرم

وإن حنبليا قلت قالوا بأنني

ثقيل حلولي بغيض مجسم

تحيرت من هذا الزمان وأهله

ولا أحد من أهله قط يسلم

وعلى كل حال فالإمام أحمد والجلة من أصحابه براء من تلك المعتقدات الزائغة1.

قواعد مذهب ابن حنبل في الفقه:

مبدؤه قريب من مبدإ الشافعي؛ لأنه تفقه عليه حتى إن الشافعية يعدونه شافعيا، ولكن الحق أنه مذهب مستقل وأن نسبته للشافعي كنسبة أبي يوسف لأبي حنيفة غير أن مذهب أبي يوسف ألف مع مذهب أبي حنيفة، فامتزجا بخلاف أحمد، فقد ألف مذهبه مستقلا. قاله الدهلوي.

قال في "إعلام الموقعين": فتاوى أحمد بن حنبل مبنية على خمسة أصول أحدها:

النصوص القرآن والحديث المرفوع، فإذا وجده، أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس2 وساق أمثلة من ذلك، قال: وهذا كثيرا جدا،

1 يحسن مراجعة "دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي في هذا الباب.

2 هو في صحيح مسلم 2/ 1118 رقم "46" ولفظه عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى، فحصبه، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .

ص: 25

ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا، ولا قياسا، ولا قول صحابي، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الصحيح، وكذا الشافعي في رسالته الجديدة ولفظه: ما لا يعلم فيه خلاف، فليس إجماعا قال: ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، لو ساغ، لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم خلافا أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص.

الأصل الثاني: فتاوى الصحابة، فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف لها مخالفا منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، ولا يقدم على هذا عملا ولا رأيا ولا قياسا.

الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، ويأتي عنه أنه قد يقدم قول الصحابي على الحديث المرسل.

الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد عنده بالضعيف الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، بل هو عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح، وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان

ص: 26

العمل به أولى من القياس، ولا أحد من الأئمة إلا وهو موافقة على هذا الأصل في الجملة، ثم ضرب أمثلة من كلام الشافعي وأبي حنيفة ومالك.

الأصل الخامس: القياس وهو عنده مستعمل للضرورة بحيث إذا لم يجد حديثا، ولا قول الصحابي، ولا مرسلا ولا ضعيفا قال به.

فهذه الأصول الخمسة من فتاويه، وعليها مدارها، ويتوقف إذا تعارضت الأدلة، وكان شديد الكره والمنع للفتوى في مسألة ليس فيها أثر عن السلف، ويسوغ إفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدل عليهم، ويمتنع من إفتاء من يعرض عن الحديث. ا. هـ. منه.

وليست أصول أحمد محصورة فيما ذكر، بل من أصوله سد الذرائع الذي هو أحد أرباع التكليف كما قال ابن القيم نفسه في عدد "136" من الجزء الثالث وأطال في الانتصار له، واستدل له بتسعة وتسعين دليلا، فانظره، وله أصول أخرى تقدمت الإشارة إليها في مبحث الاستدلال أول الكتاب ومن أصوله إبطال الحيل إلا ما خلص من المحارم، ولم يوقع في المآثم، وتقدمت الإشارة إليه.

هل يعتد بمذهب أحمد في الخلافيات:

لم يعتبر ابن جرير الطبري في الخلافيات مذهب ابن حنبل وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وامتحن ذلك، وقد أهمل مذهبه كثير ممن صنفوا في الخلافيات كالطحاوي والدبوسي1 والنسفي في منظومته، والعلاء السمرقندي والفراهي2 الحنفي أحد علماء المائة السابعة في منظومته ذات العقدين، وكذلك أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي المالكي في كتابه "الدلائل" والغزالي في "الوجيز" وأبو البركات النسفي في "الوافي" ولم يذكره

1 بتخفيف الباء كما في حاشية الكمال على المحلى في القياس قال نسبة إلى دبوس قرية من قرى سمرقند. ا. هـ. مؤلف.

2 اسمه مسعود بن أبي بكر بن حسين توفي سنة 640هـ مترجم في "الجواهر المضية" 2/ 172.

ص: 27

ابن قتيبة في "المعارف" وذكره المقدسي في "أحسن التقاسيم" في أصحاب الحديث فقط مع ذكره داود الظاهري في الفقهاء، واعتبره كثير من المتقدمين كالإمام الترمذي في جامعه، فإنه مع عدم ذكره لأبي حنيفة وصاحبه إلا نادرا أو في جملة عموم الكوفيين ينص على مذهبه بالخصوص، واعتبره كثير من المتأخرين أيضا منهم ابن هبيرة الحنبلي في كتابه "الإشراف في مذاهب الأشراف" الذي ألفه في مسائل الخلاف بين الأئمة الأربعة وغيره.

وقال في "المدارك" إنه دون الإمامة في الفقه وجودة النظر في مأخذه عكس أستاذه الشافعي.

لكن أصحابه لا يسلمون ذلك، بل يعتبرون من الرعيل الأول في الفقه والاستنباط قال في "إعلام الموقعين": جمع الخلال نصوص أحمد في "الجامع الكبير" فبلغ عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن قال: وكتب من كلامه وفتاويه أكثر من ثلاثين سفرا ومن الله علينا بأكثرها فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره يعظمون نصوصه وفتاويه، ويعرفون حقها وقربها من النصوص، وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتاويه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة رأي الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان حتى إنه ليقدم فتاويهم على الحديث المرسل.

أتباع أحمد:

قال الغزالي: كان سفيان وابن حنبل من أشهر الأئمة بالورع وأقلهم أتباعا، وأما الآن بعد الخمسمائة، فمذهب سفيان متروك، وقد أجمع المسلمون على الأربعة المعلومين الذين منهم أحمد بن حنبل. يعني إلا ما كان من زيدية اليمن والشيعة بفارس، وعلى كل حال فلم يزل أتباعه أقل من أتباع بقية الأربعة إلى الآن، ولو لم يكن له الفضل إلا جمعه السنة المتفرقة في الأقطار وتدوينها في

ص: 28

مسند لكفاه شرفا، فجزاه الله عن المسلمين خيرا.

265-

ثاني عشرهم الإمام أبو سليمان داود بن علي 1 بن خلف:

الأصبهاني الأصل البغدادي الدار، المشهور بداود الظاهري نسبة إلى ظاهر الكتاب والسنة لتمسكه به، أحد أئمة المسلمين وهداتهم كان ورعا ناسكا زاهدا، روى عن إسحاق بن راهويه، وأبي ثور وغيرهما. انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد في وقته، قيل: كان يحضر مجلسه أربعمائة طليلسان أخضر، ووصفه في "المدارك" بما وصف به أحمد من معرفته الحديث وإن فاقه أحمد فيه دون الإمامة في الفقه وإلى جودة النظر في مأخذه؛ إذ لم يتكلما في نوازل كثيرة كلام غيرهما، وميلهما لظاهر السنة، لكن داود نهج اتباع الظاهر ونفي القياس قائلا: إن في عمومات الكتاب والسنة ما يفي بما في الشريعة من وجوب وحرمة وغيرها، وما لم نجد نصا على حكمه ظاهرا، فقد تجاوز الله عنه.

قال الشهرستاني في "الملل": إنه لم يجوز القياس والاجتهاد في الأحكام قائلا: إن الأصول الكتاب والسنة والإجماع فقط ومنع أن يكون القياس أصلا من الأصول، وقال: أول من قاس إبليس. ا. هـ. فخالف السلف والخلف وما مضى عليه عمل الصحابة فمن بعدهم حتى قال بعض العلماء: إن مذهبه بدعة ظهرت بعد المائتين، وأنكر عليه إسماعيل القاضي أشد إنكار، وقال إمام الحرمين: إن المحققين لا يقيمون للظاهرية وزنا، وخلافهم لا يعتبر.

قال التاج السبكي: ومحمله عندي على ابن حزم وأمثاله من نفاة القياس،

1 أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني: أبو سليمان الظاهري الأصبهاني البغدادي ت"270".

ديوان الضعفاء "1331"، الميزان "2/ 14"، الأنساب "9/ 129"، نسيم الرياض "4/ 492"، لسان الميزان "1/ 422"، البداية والنهاية "11/ 47"، تاريخ بغداد "8/ 369"، سير النبلاء "13/ 97"، ضعفاء ابن الجوزي "1/ 266".

ص: 29

وأما داود، فمعاذ الله أن يقول إمام الحرمين أو غيره: إن خلافة لا يعتبر، فلقد كان جبلا من جبال العلم والدين، له من سداد الرأي والنظر، وسعة العلم ونور البصيرة ما يعظم وقعه، وقد دونت كتبه، وكثرت أتباعه، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقاته" من الأئمة المتبوعين، وقد كان مشهورا في زمن إمام الحرمين وبعده بكثير لا سيما في بلاد فارس شيراز وما والاها إلى ناحية العراق، وفي بلاد المغرب الأندلس.

كان داود من عقلاء العالم حتى قال فيه ثعلب: عقله أكثر من علمه، ومن كلامه: خير الكلام ما دخل الأذن من غير إذن.

ولد بالكوفة سنة 200 مائتين، وتوفي ببغداد سنة 270 سبعين ومائتين في رمضان، وكان له أتباع في بغداد وشيراز وما والاها يقال لهم: الظاهرية، ووصل مذهبه إلى الأندلس، ثم انقرضوا بعد الخمسمائة.

أصول مذهب الظاهرية:

مبدؤهم هو التمسك بظواهر آيات القرآن والسنة، وتقديمها في التشريع على مراعاة المصالح والمعاني التي لأجلها وقع تشريع الحكم. وأصلهم هذا قد خالفوا فيه جمهور أهل المذاهب الأربعة الذين أخذوا بالقياس وغيره من بقية الأصول السابقة، فإن الجمهور لم يقطعوا النظر عن روح التشريع، ومراعاة المعاني، ولم يجمدوا على الظواهر، بل نظروا إلى المقاصد، ورأوا أن ألفاظ الشرع وسائل لتلك المعاني وإن اختلفت مراتبهم في ذلك حتى إن منهم من يقدم القياس على خبر الواحد كما سبق، فكان الظاهرية ضدهم جميعا إلا أن الضدية اشتدت بينهم وبين الحنفية المغرقين في القياس، ثم المالكية، ثم الحنابلة، ثم الشافعية، ولا شك أن مذهب أهل القياس أقرب إلى الترقيات العصرية، وتطورات الزمان والمكان، والحال بخلاف مذهب الظاهرية، فإنه مخالف لناموس العمران والمكان، والاجتماع البشري المبني على النظر للمصالح العامة، متباعد عن اعتبار الحكم التي شرعت الشريعة لأجلها وحقائق روح التشريع في

ص: 30

الأحكام.

ومن أصول داود الظاهري ما نص عليه في رسالة الأصول ونصها: الحكم بالقياس لا يجب، والقول بالاستحسان لا يجوز، ثم قال: ولا يجوز1 أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحرم محرم غير ما حرم؛ لأنه يشبهه إلا أو يوقفنا على علة من أجلها وقع التحريم مثل أن يقول: حرمت الحنطة؛ لأنها مكيلة، واغسل هذا الثوب؛ لأن فيه دما، واقتل هذا لأنه أسود يفهم بهذا أن الذي أوجب الحكم من أجله هو ما وقف عليه، وما لم يكن كذلك، فالتعبد فيه ظاهر، وما جاوز ذلك، فمسكوت عنه، داخل في باب ما عفي عنه. ا. هـ. نقله في "الطبقات" فهو على هذا لا يسلم من القياس إلا ما كان منصوص العلة نصا صريحا على أن الذي يظهر من كلامه أنه مع النص على العلة لا يجب العمل به، وإنما يجوز فتأمل ذلك.

قال ابن السبكي: والذي صح عند الشيخ الإمام الوالد أنه لا ينكر القياس الجلي، وإن نقل إنكاره عنه ناقلون، وإنما ينكر الخفي منه، ومنكر القياس مطلقا الخفي والجلي طائفة من أصحابه زعيمهم ابن حزم، وفي الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع.

ثالثها: ما لا يخالف القياس الجلي انظر الطبقات غير أن ما نقله عن والده ليس هو أول من قاله، بل وجدت نحوه للغزالي في "المستصفى"، ونصه: فلا يظن بالظاهري المنكر القياس إنكار المعلوم والمقطوع به من هذه الإلحاقات، لكن لعله ينكر المظنون منه، ويقول: ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير، فهو كاختلاف الزمان والمكان، والسواد والبياض، والطول والقصر، فيجب حذفه

1 مراده بهذه الجملة المنع من قياس الشبه بمعنى أنه إذا ورد نص بتحريم الحمر الأنسية فلا يجوز لنا أن نقيس عليها بتحريم البغال لشبهها بها إلا أن يوقفنا على العلة التي من أجلها وقع تحريم الخمر بأن تكون العلة منصوصة نصا صريحا، فهو يقر بالقياس في الجملة، ولكن لا يثبت من مسالكه إلا مسلك النص دون الإيماء أو المناسبة أو الشبه مثلا هذا حاصل كلامه وعلى هذا فمن نسب إليه القول بنفي القياس مطلقا لم يصب، وكذا من قال: إنه يقول بقياس الأحرى. ا. هـ. "مؤلف".

ص: 31

عن درجة الاعتبار، أما ما يحتمل، فلا يجوز حذفه بالظن.

قال الغزالي: وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن، كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العلم؛ لأن المسائل التي اختلفوا فيها، واجتهدوا كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية. ا. هـ. منه "عدد 276 من جزء الثاني".

ومن أصولهم عدم العمل بخبر الواحد؛ لأنه ظني زاعمين أنهم لا يعملون بدليل ظني وقد خالفهم الجمهور من الأمة فعملوا بالدلائل الظنية في الفروع.

تصوير مناظرة الظاهرية وغيرهم:

قد عاب أصحاب المذاهب الأربعة مذهب الظاهرية كثيرا وأنحوا عليهم باللائمة، ورموهم بالجمود وعدم النظر للمعاني المقصودة من روح التشريع كما تقدم لنا بعض ذلك في الكلام على القياس، وفي ترجمة أبي حنيفة، ومن جملة ما استدلوا به عليهم قوله تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 فإذا كان الله ينعى على الكفار اقتصارهم على فهم ظواهر الدنيا، فكيف بمن اقتصر على ظواهر الشريعة.

وقال تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} 2 وقال الظاهرية: إن القصد من الشريعة هو التعبد، وظهور سر الامتثال، أما التعمق في القياس والعلل، فيخرجها من حد التشريع الإلهي إلى التشريع الوضعي البشري.

ولا ننكر أن هناك عللا ومصالح للأحكام إذا نص عليها، أو قطع بعدم الفارق، أما عند عدم ذلك، فتطلعنا وتكلفنا لاستخراج الخفي منها يخرجها إلى أن تكون ألغازا ومحاجاة، فمن أين يستفاد أن العلة في تحريم الربا هي الاقتيات والادخار أو الطعمية أو الكيل والوزن كما يقول أهل القياس.

1 سورة الروم الآية: 7.

2 سورة الرعد الآية: 33.

ص: 32

ومن أين يفهم وجوب الدم على من قطع من جسده ثلاث شعرات من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 1.

ومن أين تدل الآية على ذلك، ومن أين يستفاد من قوله عليه السلام:"الولد للفراش" 2 أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشا بمجرد قوله: قبلت ومع هذا لو كانت له أمة يطؤها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له، ولو أتت بولد، لم يلحقه إلا أن يدعيه ويستلحقه مع أن حديث "الولد للفراش" ورد في الأمة.

ومن أن يفهم من قوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن لم يكن له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة" 3 أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها، فلا حد عليه، وأنه في معنى الشبهة التي تدرأ الحد وهي الشبهة في المحل، أو الفاعل، أو الاعتقاد، ولو عرض هذا على فهم من عرض عليه من العالمين، لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه، وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين، فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وبتحريم الله لذلك، ويفهم هذا كله من "ادرءوا الحدود بالشبهات".

1 سورة البقرة الآية: 196.

2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

3 رواه ابن ماجه "3545" بلفظ "ادفعوا الحدود عن عباد الله ما وجدتم لها مدفعا"، وفي سنده إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف أما في الكتاب فرواية الترمذي "1424" من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيدن بن زياد. ويزيد ضعيف وأسند في العلل عن البخاري: يزيد منكر الحديث ذاهب، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي به، قال: والموقوف أقرب إلى الصواب، انظر فتح القدير شرح الهداية "4-116".

ص: 33

وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر. فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره وننكر أن يكون في كلام الله دلالة على فهمه بوجه من الوجوه ومن أين يفهم من قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} 1، ومن قوله:{فَاعْتَبِرُوا} 2 تحريم بيع الكشك باللبن، وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 3 ولم يقل إلى آرائكم وأقيستكم، ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 4 فإنما منعهم من الخيرة إذا كان حكم لله أو لرسوله لا أقيسة القياسين. هذه عيون ألة الظاهرة وهي كثيرة.

الردود عليهم:

قال القياسيون: أما قوله تعالى: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فلا حصر فيه على أن القياس على كلام الله وكلام رسول الله في معنى حكم الله وشرعه وإن كنا لا نقول فيه: قال الله، لعدم تنصيصه عليه بالخصوص، وقد أمر الله بحكم الصيد في أقل قليل في الدرهم والدرهمين، وحكم الزوجين فكيف بالأمور العظام، فإذا وقعت الفأرة، نجست ما حولها، وإذا وقع خنزير، فكيف لا نقيسه على الفأرة، وكيف لا نقيس البنتين على الأختين في استحقاق الثلثين مع تنبيه الله لنا على علة الإرث بقوله {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} 5 والقرآن لم يصرح بالثلثين، بل سكن عن حكم البنتين حيث قال:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} 5 وظاهرة أن الاثنتين لهما أقل من الثلثين، فلو أخذنا بهذا الظاهر، لكان الأختان أقرب من البنتين وأمثال هذا كثير.

فالنظر إلى المقاصد التي هي اللب واجب وراجع ما تقدم لنا في ترجمة

1 سورة النحل الآية: 66.

2 سورة الحشر الآية: 2.

3 سورة الشورى الآية: 10.

4 سورة الأحزاب الآية: 36.

5 سورة النساء الآية: 11.

ص: 34

"هل أحكام الشرع معقولة المعنى".

وأما ما اعترضوا به من التمحلات في الأحكام لسابقة، فهو وارد على تمحل في بعض تلك الجزئيات، ولا يلزم من عدم إصابة البعض في بعض جزئيات القياس بطلان القياس كليا، وقد مهد الناس مسالك التعليل، وبينوا المقبول من المردود، والصحيح من الفاسد، وبينوا القوادح كذلك بما تكفلت به كتب الأصول، فذلك ميزان الاعتدال يفيد المقبول قوة وغيره ضعفا، وعلى حال المجازفة برد القياس أو غير الجلي منه لا يقبله من له إمعان في موارد الشريعة، وما كان عليه السلف الصالح في طرق اجتهادهم، وإن شئت بسطا في ذلك، فانظر أول المجلد من "إعلام الموقعين".

وعلى كل حال، فإن مذهب الظاهرية أثار في هذه المدة حربا عوانا تلاطمت أمواج حججة بين أهل القياس والظاهرية، وقد ارتفع عجاج المعترك إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق، وأتى كل حزب بما لا يسعه المجال هنا من الحجج التي تتضاءل لها أفكار النظار الكبار على أننا قدمنا الإشارة إلى أنها وإن كانت في الظاهر خلافا في المبدإ، لكنها ترجع إلى الخلاف في المسائل والجزئيات، وإلا فالقياس لا بد منه وذلك مبني على أصل نبينه:

هل لله في كل مسألة حكم؟ وهل النصوص وافية بالأحكام؟

قد انقسم المجتهدون في هاتين المسألتين ثلاثة أحزاب: حزب القياسيين يقولون: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعضهم فقال: ولا بعشر معشارها، قالوا: وكل مسألة لا بد من حكم لله فيها وعليه، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وحجتهم أن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي محال، لكن لا نسلم أن الحوادث غير متناهية؛ إذ هي داخلة الوجود حالا أو استقبالا، وكل ما كان كذلك فهو متناه، سلمنا عدم التناهي في الأفراد، لكنها تنضبط بالأنواع، فيحكم لكل نوع بحكم تندرج فيه الأفراد غير المتناهية مثلا المنكوحات من

ص: 35

الأقارب نوعان: بنات العم والعمة والخال والخالة وهذا مباح، وما سواهن من القريبات حرام، وما ينقض الوضوء محصور بالعد، فما سواه لا ينقض، وما يفسد الصوم وما يوجب الغسل، وما يوجب العدة، وما يمنع المحرم وأمثال ذلك، وإذا كان أرباب المذاهب يحصرونها بضوابط وجوامع تحيط بما يحل أو يحرم، أو يباح إلخ مع قصور بيانهم، فالله الذي بعث رسوله بجوامع الكلم أولى بذلك وأقدر سبحانه عن أن تكون هناك مشاركة في قدرة أو علم.

وكم جاء في الكتاب والسنة من كلمات جامعة وهي قواعد عامة لأنواع من المسائل، وتدل دلالتين: دلالة طرد، ودلالة عكس، كما سئل صلى الله عليه وسلم عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر، فقال:"كل مسكر حرام" 1 و "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" 2 و"كل قرض جر نفعا فهو ربا"3 و "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل" 4 و "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه" 5 و"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين"6 وسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 7 وقال تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 8 فدخل كل طيب مطعوم أو مشروب

1 أخرجه البخاري "10/ 35"، ومسلم "2001" من حديث عائشة، وأخرجه مسلم "2003" من حديث ابن عمر بلفظ "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وأخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر مرفوعا "ما أسكر كثيره، فقليله حرام" وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسنده حسن.

2 أخرجه أحمد "6/ 270"، والبخاري "5/ 221"، ومسلم "1718""18"، وفي رواية لمسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد".

3 أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي وفي سنده سوار بن مصعب وهو متروك كما قال أحمد والدارقطني، ولذا قال السخاوي: إسناده ساقط.

4 أخرجه مالك "2/ 780، 781" والبخاري "4/ 315"، ومسلم "1504".

5 أخرجه مسلم "2563" و"2564".

6 أخرجه البيهقي من حديث حبان الجمحي، وقال الذهبي في "المهذب": لا يصح لانقطاعه.

7 أخرجه البخاري "8/ 558"، ومسلم "987" من حديث أبي هريرة.

8 المائدة الآية: 4.

ص: 36

أو منكوح، ودخل في قوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 1 الآية كل فاحشة ظاهرة أو باطنة.

الحزب الثاني الظاهرية الذين قالوا: إن النصوص وافية الأحكام، ونفوا القياس، وأنكر غلاتهم كابن حزم حتى الجلي منه، فقالوا: كل قياس باطل محرم، وفرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة، ونفوا تعليل أوامره ونهيه، وجزموا بأنه يفرق بين المتماثلين، ويقرن بين المختلفين، فكما أن فعله وخلقه منزه عن العلة والغرض والغاية كذلك تكاليفه وأوامره.

ولما أغلقوا على أنفسهم باب التعليل والتمثيل، واعتبار المصالح والحكم الإلهية الراجعة منافعها إلينا، ضاقت عليهم النصوص، ولم توف لهم بحاجة النوازل، فوسعوا الظاهر والاستصحاب، وحملوها أكثر مما هو ممكن، ومع كونهم أحسنوا في الاعتناء بنصوص السنة ونصرتها، والمحافظة عليها، والبحث عنها، فقد وقع لهم فساد كبير، فإنهم مهما فهموا من النص حكما أثبتوه، ولم يبالوا وراءه، وحيث لم يفهموه، ادعوا استصحاب البراءة الأصلية، أو استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، أو استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، وقالوا: ما لم نجد عليه نصا؛ فقد تجاوز الله عنه، لما ورد في2 حديث أحمد وغيره "إن الله فرض

1 الأعراف الآية: 33.

2 هذا الحديث أخرجه الترمذي أيضا بمعناه عن سلمان مرفوعا في كتاب اللباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" قال: وفي الباب عن المغيرة وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان موقوفا، قال البخاري: وسيف بن هارون البرجمي الراوي عن سليمان التيمي مقارب الحديث، وشيخ الترمذي فيه هو إسماعيل بن موسى الفزار يقال: حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث قلت: وإسماعيل بن موسى أخرج له أصحاب السنن عدا النسائي، قال فيه: ليس به بأس، وقال ابن عدي: أنكروا منه الغلو في التشيع. قلت: والحديث المذكور مع الحديث الذي أخرجه أحمد قصاري أمرهما خبر آحاد، وإجماع الصحابة ومن بعدهم على الاجتهاد والبحث عن حكم كل مسألة أقوى منهما، على أن هذا القسم السكوت عنه في الحديث يمكن حمله على المشتبهات التي ذكرت في الحديث فلا متمسك للظاهرية في الحديث والله أعلم. "المؤلف".

ص: 37

عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"1 قال الله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 2 فإذا استعملنا القياس بطل القسم الثالث المعفو عنه، ويكفينا التمسك باستصحاب البراءة الأصلية، فإذا اعتبرتم هذا هو حكم الله في المسألة، فذاك وإلا، فلا دليل يصرح بأن لله في كل مسألة حكما، وهذا الحديث ناطق بأن هناك قسما قد عفا عنه، ولم يبينه، بل سكت عنه رحمة غير نسيان.

وقد عاب جمهور الأمة عليهم أمورا، وشنعوا عليهم فيها.

الأول: رد القياس الصحيح لا سيما المنصوص على علته التي يجري عليها مجرى النص على التعميم، فكيف يتوقف عاقل أن قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 3 أنه نهى عن كل رجس، فيدخل شحمه وبعره وشعره كما لا يستريب مسلم أن قوله عليه الصلاة والسلام في الهرة "ليست بنجس، إنها من الطوافين عليهم والطوافات" 4 أن ما كان من

1 حديث حسن أخرجه الدارقطني ص205، والحاكم 4/ 15، والبيهقي 10/ 12، 13 من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة ألا إن مكحول لا يصح له سماع منه، لكن يشهد له حديث أبي الدرداء بلفظ "الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي 10/ 12، وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 75، بعد أن عزاه للبزار: ورجاله ثقات، وحديث سلمان الفارسي عند الترمذي "1726" وابن ماجه "3367" والحاكم 4/ 115، والبيهقي "9/ 320، 10/ 12" قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهذا مما عفا عنه"، وسنده ضعيف.

2 سورة المائدة الآية: 101.

3 سورة الأنعام الآية: 145.

4 أخرجه مالك 1/ 23، وأحمد 5/ 303، وأبو داود "75" والترمذي "92" والنسائي 1/ 55، وابن خزيمة، وابن حبان "121"، والحاكم 1/ 159، 160، ونقل البيهقي تصحيحه عن البخاري والدارقطني.

ص: 38

الطوافين؛ فليس بنجس، وهل يستريب أحد أن الطبيب إذا قال: لا تأكل هذا الطعام فإنه مسوم، ولا تشرب هذا فإنه مسكر، إنه نهاه عن كل طعام مسموم، وكل شرب مسكر.

وهذا إنما يرد على ابن حزم وغلاتهم، وإلا فجمهورهم أخذ بالقياس الجلي كما سبق، بل قالوا بالقياس في مواضع لم يقل به غيرهم فيها، فقد نقل أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" عنهم أنهم أجازوا مسائل في الإجازة منعها غيرهم، كإعطاء دابة لرجل يسقي عليها بنصف ما يرزق بسعيه عليها، وأن يعطي الحمام لمن ينظر فيه بجزء مما يحصل من غلته كل يوم، وأمثال هذا من المجهولات في الإجارة قياسا على القراض والمساقاة، وعلى ما أباحه الله من إجارة المرضع، وما يأخذ الصبي من لبنها مجهول لاختلاف أحوال الصبي ولبن المرضع، والقرآن أجازه، نقله المواق في أول الإجارة، فها أنت تراهم قاسوا على المرضع والقراض والمساقاة، أما غيرهم، فلم يقس على ذلك، ورآها رخصة لا تتعدى محلها، وهم لم يروها رخصة، بل رأوها أصلا يقاس عليه لقطعهم بنفي الفارق، فيرونه قياسا جليا رغما عما يرونه من أن الأصل في العقود الفساد، فهذا يرونه أصلا خالف الأصل وهو من الغريب.

الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته، لحصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهم غلاتهم كابن حزم من قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1 ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف فقصروا في فهم كتاب الله، كما قصروا في اعتبار ميزانه الذي هو القياس.

الثالث: أنهم حملوا الاستصحاب فوق ما يستحق، وجزموا بموجبه لعدم علمهم بالناقل، ولا يلزم من عدم علمهم به عدم وجوده، وليس عدم العلم

1 سورة الإسراء الآية: 23.

ص: 39

علما بالعدم، ولا يجوز الاعتماد على الاستصحاب إلا إذا قطع المستدل بعدم الناقل، كالقطع ببقاء شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا الكلام على أقسام الاستصحاب، فارجع إليه.

الرابع: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بدون برهان من الله بناء على هذا الأصل الذي أصلوه، وجمهور أهل الاجتهاد على خلاف هذا، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، ولا شك أن حكمهم بالبطلان حكم بالحرمة والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} 1 فكما أن الأصل في العبادات هو البراءة حتى يقوم دليل على الأمر والتكليف؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فكذلك الصلة في المعاملات الصحة حتى يقوم دليل على خلافها؛ لأن البطلان والتأثيم تكليف واستبعاد، والأصل انتفاؤه إلى أن يرد شرعه على لسان رسوله، فإذا لم يرد، فهو من قسم ما سكت عنه رحمة منه تعالى غير نسيان كما تقدم في الحديث، كيف والله صرح بأنها على الإباحة فقال:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 وفي السنن مرفوعا "المسلمون عند شروطهم" 3 وأما حديث "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن شرط مائة شرط" 4 فمراده بكتاب الله حكمه، كقوله تعالى:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بدليل أن الحديث في الولاء، وكون الولاء لمن أعتق ليس هو في القرآن، وإنما

1 سورة يوسف الآية: 4.

2 سورة المائدة الآية: 1.

3 حديث قوي أخرجه الترمذي "1352" وابن ماجه "2352" من حديث عمرو بن عوف، وفي سنده كثير بن عبد الله وهو ضعيف عند الأكثر إلا أن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره، للحديث شاهد من حديث أبي هريرة بسند حسن عند أحمد 2/ 366، وأبي داود "3594" والحاكم 2/ 49، وصححه ابن حبان "1199"، وفي الباب عن عائشة وأنس عند الحاكم.

4 تقدم تخريجه.

ص: 40

هو في السنة، فالشرط المناقض لما أصله الكتاب والسنة باطل كشرط الولاء لبائع العبد الذي جعلته السنة لمن أعتق، وما سوى ذلك، فعلى البراءة الأصلية بدليل قوله في آخر الحديث "شرط الله أحق وأوثق".

الخامس: أن عدم تسليمهم أن لله في كل حادثة حكما معينا مبني على تصويب المجتهدين كلهم فيما لا قاطع فيه، وقد برهن على ضعفه في الأصول.

الحزب الثالث الذين توسطوا، فتمسكوا بالنصوص ظاهرها وإشاراتها وإيماءاتها واقتضاءاتها ومفاهيمها، فإذا لم يجدوا دلالة من الدلالات، تمسكوا بالقياس أو غيره من بقية الأدلة السابقة، فعملوا بكل الأدلة القوية التي عضدتها القرائن واللغة وموارد كلام العرب، وطريق الصحابة في استدلالاتهم وفهمهم وأحكامهم، لا يخرجون عن ذلك، ولا يغرقون في القياس، ولا يتناقضون فيه، ولا يغرقون في التمسك بالظاهر والجمود عليه.

وهذه الطريقة عليها سير الجمهور من أئمة المذاهب الثلاثة والمعتدلين من الحنفية إلا أنه افترقت أفكارهم في تطبيقها على الحوادث والمسائل، ولكل وجهة ولو شاء الله ما اختلفوا، وهذا الحزب يقول أيضا: لكل مسألة حكم، وفي النصوص كثير من الأحكام، ولا غنى عن القياس، وبقية الأدلة لكن عند عدم النص، واستدلوا على أن لله في كل مسألة حكما بقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1 وبقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2 وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} الآية3 {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 4 وأن الصحابة كانوا يسألون عن كل ما يقع لهم، وبأن رسالته عليه السلام عامة، فلتكن شريعته عامة. وهذه كلها أدلة إقناعية والله أعلم.

1 سورة الأنعام: 38.

2 سورة الشورى: 10.

3 سورة النساء: 82.

4 سورة النحل: 89.

ص: 41

وقد رأيت يوما في المنام أني استدل على أن لله في كل مسألة حكما بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 الآية فإن الآية نصت على الأعضاء المذكورة، وسكتت عن غيرها، والأمة مجمعة على ترك غسل ما سواها فتأمله، وما كان خطر لي هذا في اليقظة قط.

تصانيف الإمام داود الظاهري:

صنف كتبا كثيرة في أبواب الفقه على عادة السلف في تخصيصهم كل باب بكتاب مستقل، فله كتاب "إبطال القياس" وكتاب "خبر الواحد" وكتاب "الخبر الموجب للعلم" وكتاب "الحجة" وكتاب "الخصوص والعموم" وكتاب "المفسر والمجمل" وكتاب "إبطال التقليد" وله كتب غيرها.

بعض الفوائد عنه:

حكى داود الظاهري قال: حضر مجلسي أبو يعقوب الشريطي من أهل البصرة وعليه خرقتان، فتصدر وجلس إلى جانبي من غير أن يرفعه أحد، وقال لي: سل يا فتى عما بدا لك، فكأني غضبت منه، فقلت له مستهزئا: أسألك عن الحجامة، فبرك أبو يعقوب، ثم روى طريق "أفطر الحاجم والمحجوم" 2 ومن أرسله ومن أسنده، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء، ثم روى طريق احتجام رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم بقرن وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة ثم ذكر الأحاديث المتوسطة مثل "ما مرت بملإ من الملائكة" 3 ومثل "شفاء أمتي في

1 سورة النساء: 6.

2 أخرجه الشافعي 1/ 257، وأبو داود "2369" والدارمي 2/ 4، وابن ماجه "168" وعبد الرازق "7520" والطحاوي من 249 والحاكم 1/ 428، والبيهقي 4/ 262 وإسناده صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نسخه بخبر أبي سعيد وغيره انظر "نصب الراية""2/ 472، 473" وفتح الباري "4/ 153، 156"، وتلخيص الحبير "2/ 191، 194".

3 حديث صحيح أخرجه الترمذي "2053" من حديث ابن مسعود مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم لم يمر على ملإ من الملائكة إلا أمروه أن مر أمتك بالحجامة، وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه "3479"، وآخر من حديث ابن عباس عند الحاكم، وثالث من حديث ابن عمر عند البزار.

ص: 42

ثلاث" 1 وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة مثل قوله عليه السلام: "لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا"2 ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطلب في الحجامة في كل زمان وما ذكروه فيه، ثم ختم كلامه بأن قال: وأول ما خرجت الحجامة من أصفهان3 فقلت: والله لا أحقرن بعد أحدا. نقله ابن خلكان4.

فهذا مثال يريك محاورة أهل تلك القرون وما كان لهم من ملكة الاستحضار في الفقه والحدي.

266-

أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني5:

قاضي أصفهان وحافظها، وصاحب التصانيف الشهيرة، منها كتاب السنة الكبير، وله في ثلاثيات شيخ الظاهرية بأصفهان، كما أن داود شيخهم بالعراق روى عن أصحاب شعبة وحماد بن سلمة مات سنة 287 سبع وثمانين ومائتين أدرك جده لأمه موسى بن إسماعيل التبوذكي، ولم يلحق جده أبا عاصم النبيل قاله الذهبي في كتاب "العلو" قال: وبنته عاتكة فقيهة عالمة تروي عنه.

1 أخرجه البخاري "10/ 116" من حديث ابن عباس بلفظ "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي".

2 في سنن أبي داود "3862" بسند ضعيف عن أبي بكر، أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ وراجع "فتح الباري""10/ 126".

3 فيه تنكيت لطيف لأن داود الظاهري أصبهاني "المؤلف".

4 "2/ 256، 257".

5 ترجمته في "تذكرة الحفاظ" ص"640، 641" وسير أعلام النبلاء "9/ 101، 103" وشذرات الذهب "2/ 195، 196"، والبداية والنهاية "11/ 84".

ص: 43

بعض أصحاب داود الظاهري:

261-

فمنهم ولده أبو بكر محمد 1:

ممن نشر مذهبه وألف فيه جلس في حلقة أبيه بعده، واستصغروه، فدسوا له من سأله عن السكر ما هو؟ فقال:"إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم" فاستحسن ذلك منه وعلم موضعه من العلم، وله شعر رائق وهو القائل:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال محرما

ومن تآليفه "الوصول إلى معرفة الأصول" توفي سنة 297 سبع وتسعين ومائتين.

262-

أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم 2:

الأندلسي الإمام العلم الأشهر وحيد دهره، صاحب الكتب العظيمة التي منها "المحلى" ذكر فيه مسائل الظاهرية قال ابن بشكوال: ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، ألف في علم الحديث والمسندات كثيرا، وألف في فقه الحديث "الإيصال إلى فهم الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع" وكتاب "إبطال القياس والرأي" وكتاب "الإجماع ومسائله على أبواب الفقه" وله غيرها من النفائس قال ولده: إنها نحو أربعمائة مجلد في ثمانين ألف ورقة بخطه، وكان ورعا شديد التمسك

1 أبو بكر محمد: ترجمته في تاريخ بغداد "5/ 256"، وشذرات الذهب "2/ 226"، ووفيات الأعيان "4/ 259، 261".

2 أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: الشهرة علي بن حزم اليزيدي الأندلسي الظاهري، توفي سنة 450:

صيانة صحيح مسلم ص"47، 82"، التمييز والفصل "2/ 810"، التبصرة والتذكرة "1/ 20، 278"، الصمت وآداب اللسان ص"276".

ص: 44

بالدين كان أولا شافعيا، ثم صار ظاهريا إلا أنه أكثر الوقيعة والتشنيع على علماء عصره انتصارا لمذهب الظاهرية الذي لم يكن مقبولا لديهم، وكانت فيه حدة، ولسان ماض مع وفرة المادة وطغيان العلم، فكان سببا لنبذ الناس له، ونبذه للناس في بادية لبلة بالأندلس إلى أن توفي سنة 456 ست وخمسين وأربعمائة وهو القائل مفتخرا بمذهبه:

ألم ترأني ظاهري وأنني

على ما بدا حتى يقوم دليل

وقد عده في "مطمح الأنفس" من فحول شعراء الأندلس، ولم تكن له رحلة، ومع ذلك حصل هذه الدرجة، فلذلك عدوه نادرة وقته. وأصحاب داود أكثر من أن نحيط بعدهم على قلة عددهم وقد شذ هو وأصحابه في مسائل مذكورة في كتب الفقه والخلاف، وقد انقرضوا وانقرض الآن مذهبهم.

269-

ثالث عشرهم الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري 1:

ثم الآملي بضم الميم أحد أئمة الدنيا علما ودينا حتى إن الإمام ابن خزيمة على جلالته كان يحكم بقوله ويرجع لرأيه لمعرفته وفضله، وقال فيه: ما أعلم أحدا على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير. قال الخطيب البغدادي: وجمع من العلوم ما لم يشاركه فيه غيره، كان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بمعانيه، فقيها بأحكامه، عالما بالسنة وأحكامها وصحيحها وسقيمها، وبالناسخ والمنسوخ وأقوال الصحابة ومن بعدهم، يدل لذلك تفسيره الكبير الذي لم يؤلف مثله، وقد طبع.

1 أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري: أبو جعفر الطبري القمي الأملي، الشهرة ابن جرير الطبري، ولد سنة "220" أو "224"، أو "225" ومات سنة "310":

جامع الرواة "2/ 82"، المعين رقم "1216"، الوافي بالوفيات "3/ 284"، الميزان "3/ 498، 499"، الأنساب "9/ 39"، نسيم الرياض "4/ 138"، لسان الميزان "5/ 100، 103"، البداية والنهاية "11/ 145"، تاريخ بغداد "2/ 162"، سير النبلاء "14/ 267".

ص: 45

عارفا بأيام الناس وبسيرهم وأحوالهم يدل لذلك تاريخه العديم النظير، وقد طبع أيضا. طاف البلاد في طلب العلم حتى فاق الأقران، بل الشيوخ، وصار من أعلام أهل المعرفة والرسوخ مع الزهد التام، سمع من أناس كثيرون كابن وهب وأشهب، فلذلك ذكره في "المدارك" من أصحاب مالك وكيونس بن عبد الأعلى الذي سمع من ابن عيينة، وعن الشافعي، ولذا عده في "الطبقات السبكية" من الشافعية كما أنه أخذ فقه العراقيين عن أبي مقاتل بالري والتحقيق أنه مجتهد مطلق، وكان له أتباع انقطعوا بعد الأربعمائة كما في "الديباج" ومن أصحابه المتفقهين على مذهبه:

270-

علي بن عبد العزيز الدولابي: مؤلف كتاب الرد على ابن المغلس الظاهري.

271-

وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الثلج 1.

272-

وأبو الحسن أحمد بن يحيى المنجم المتكلم: مؤلف كتاب "المدخل في إلى مذهب الطبري".

273-

وأبو الحسن الدقيقي الحلواني.

274-

وأبو الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني: مصنف الكتب العديد على مذهبه وغيرهم.

وفي إتقان السيوطي بعدما تكلم على طبقات المفسرين، وذم تفاسير منها: فإن قلت: أي تفسير ترشد إليه؟ قلت: تفسير الإمام الطبري أجمع العلماء المعتبرون أنه لم يؤلف في التفسير مثله.

وفي "المنح البادية" قال أبو حامد الإسفراييني: لو رحل إلى الصين في

1 أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الثلج: الشهرة الكاتب الثلجي ابن أبي الثلج، يقال محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل، ولد سنة

"238"، مات سنة "322 أو 325": تاريخ بغداد "1/ 338"، الأنساب "3/ 145"، معجم الثقات "101"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 159"، جامع الرواة "1/ 63"، معجم المؤلفين "9/ 9"، والحاشية تنقيح المقال "10346".

ص: 46

تحصيله لم يكن كثيرا، وله في فن الحديث كتاب "تهذيب الآثار" لم يؤلف مثله في بابه، وهو موجود في مكتبة الآستانة، وله كتاب "اختلاف الفقهاء وجد منه شيء يسير في المكتبة الخديوية طبع في برلين سنة 1320 موافقة سنة 1902.

وأول كتاب صنف في الخلاف المجرد كتاب "المحرر في النظر".

275-

لأبي علي الحسين بن القاسم الطبري الشافعي:

المتوفى سنة 305 خمس وثلاثمائة ببغداد قاله ابن خلكان: فهو قابل كتاب الطبري هذا الذي هو سبب محنته، وذلك أنه ذكر فيه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم، ولم يذكر أحمد بن حنبل قيل: إنه سئل عن ذلك، فقال: لم يكن أحمد فقيها إنما كان محدثا، وما رأيت له أصحابا يعول عليهم.

فأساء ذلك الحنابلة، ورموه بالرفض بسبب قوله بالمسح على القدمين وهو قول رافضي، وقيل إنه يقول بالمسح والغسل معا، وأهاجوا عليه العامة يوم دفنه، فمنعوا دفنه نهارا، ومنعوا الناس من الدخول إليه في حياته وقيل: إنهم سألوه عن حديث الجلوس على العرش؛ فقال: إنه محال وأنشد:

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فمرموه بمحابرهم وكانوا ألوفا، فدخل داره، فرموه بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات الألوف من الجند يمنع العامة، ووقف على بابه إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان كتب على بابه البيت السابق، فمحاه نازوك، وكتب أبياتا في مدح ابن حنبل، فخلا بداره، وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، ولم يخرج كتابه اختلاف الفقهاء حتى مات، فوجوده مدفونا في التراب، فأخرجوه ونسخوه. وأما الإلحاد الذي نسبوه إليه فهو أنه قال في قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1

1 سورة المائدة: 64.

ص: 47

يداه نعمتاه، فنسبوه لمذهب جهم قال في "منتخب تاريخ البرزالي" ولذا دفن بداره، وحاشاه من كل ما نسب إليه، فقد كان أحد أئمة الإسلام، وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" عنه عقيدة سلفية كعقيدة الحنابلة.

وقال السبكي في "الطبقات": إن ابن جرير أجل من أن يمنعه الحنابلة الخروج للناس على قلتهم وإنما هو اعتزل بنفسه.

قال جامعه: وهذا يرده ما في تاريخ "مختصر الدول" لابن العبري1 وغيره أنه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة عظم أمر الحنابلة ببغداد، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوه مغنية ضربوها، وكسروا آلة الغناء، فأرهجوا بغداد

إلخ ما في عدد 283 منه، فانظره توفي في آخر شوال سنة 310 عشرة وثلاثمائة رحمه الله.

الطبري أحرز قصب السبق في التصنيف كثرة في إتقان مع عموم النفع:

ذكر أبو محمد الفرغاني في كتاب "الصلة" الذي وصل به تاريخ ابن جرير الكبير: أو قوما من تلاميذه لخصوا أيام حياته من لدن بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكرم وعناية الباري سبحانه وتأييده. قاله في تاريخ "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" وفي "المنح البادية" أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة، ونحوه في كتاب "العلو" للذهبي.

وقد خلف في مصنفاته ما يقرب من ثلاثمائة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة، وهذه أغنى التركات العلمية فيما بلغنا، فتبارك الله أحسن الخالقين، فبذلك حاز المعلى والرقيب2 فلم يكن أحد من المتقدمين يبلغ مداه في الكثرة مع الإتقان وعموم النفع لوقتنا هذا، فلم يتفق هذا لغيره فيما أظن فيصح أن يقال: إنه أعظم مؤلف في الإسلام.

1 وفاته "685هـ" واسمه غريغوريوس بن هارون الملطي من نصارى اليعاقبة مؤرخ حكيم لاهوتي. انظر الأعلام "5/ 308، 309.

2 المعلى: سابع سهام الميسر، والرقيب: الثالث.

ص: 48