الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم:
مما يتصل بما سبق أنه سألني صدر وزراء الدولة التونسية بحضرة سادة أعلام وذوات أعيان سنة 1336 عن حكم التصوير؟ فأجبته:
إن تصوير الأرض والشجر والجبال وغيرها من الجمادات لا بأس به، أفتى به ابن عباس كما في "الصحيح"1 ولنترخص للضرورة في التصوير الشمسي كله ولو حيوانا، وإنسان على ما فيه من الخلاف، وقوة القول القائل بالكراهة أو المنع، وقد قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: كل ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه كما رواه عنه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح2 وفي صحيح البخاري: إن زيد بن خالد الجهني علق في بيته سترا فيه تصاوير، مستدلا بقوله عليه السلام:"إلا رقما في ثوب" 3 ويدل للجواز أيضا حديث عائشة عند أحمد وغيرها أنها اشترت نمطا فيه تصاوير، فأرادت أن تصنعه حجلة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"اقطعيه وسادتين" قالت: ففعلت، فكنت أتوسدهما، ويتوسدهما النبي صلى الله عليه وسلم4. ونحوه في الصحيح على اختلاف في الرواية يعلم من كتاب اللباس في البخاري5، وكتاب المظالم، وبدء الخلق، ولنحمل الحديث على العموم كما هو ظاهر، ويدل له ما رواه أحمد أيضا عنها: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله:
1 أخرجه البخاري "4/ 345" بشرح الفتح في البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك.
2 ذكره الحافظ في "الفتح""10/ 326".
3 أخرجه البخاري "10/ 328"، بشرح الفتح، ومسلم "2106""85".
4 هو في المسند "6/ 112"، ورجاله ثقات، وسنده حسن.
5 "10/ 325"، "328".
"يا عائشة حوليه، فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا" وكانت لنا قطيفة، يلبسها تقول علمها حرير1، فهذا دليل ترخصنا من السنة ومن النظر لما يدعو إليه الحال من ضرورة العصر، فإن التصوير الشمسي، صار ضروريا في الأمور التعليمية بالمدارس، والسياسة والحربية والتاريخية، ومنعه منع للأمة من رقي عظيم، والوقت الحاضر لا يقبله بحال، ولم يكن في الزمن النبوي، فليقلد القول الذي يقول بإباحته بناء على أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة أيضا.
فقال لي: فما تقولون في الصور المجسمة ذات الظل؟ فإن الأمم المتمدنة يعيبون علينا منعها، وهي تذكار عظماء الرجال فقلت له: يا سيدي قد نهى الشرع عنها نهيا صريحا، وحكى ابن العربي المالكي الإجماع على المنع، ولا ضرورة تلجئنا إليها، نعم ما كان منها داخلا في باب التعليم، فقد يرخص فيه قياسا على ما وردت الرخصة فيه من الصور التي تلعب بها البنات2 لتعلم التربية فقفوا رعاكم الله بنا عند حد الضرورة، ولا تحيوا سنن الوثنية بنصب الهياكل في الميادين العمومية، ولا ضرورة تدعو لذلك أما التنويه بعظماء الرجال، فأعظم تنويه بهم أن نبني مدرسة باسمهم مثلا.
1 هو في المسند "6/ 49""35"، وسنده صحيح.
2 أخرج البخاري "4/ 175" بشرح الفتح، ومسلم "1136" من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة "من كان أصبح صائما فليتم صومه، من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم صبياننا الصغار منهم، نضع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام، أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم، وأخرج البخاري "10/ 437" في الأدب: باب الانبساط إلى الناس عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب البنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن "يتغيبن" منه، فيسربهن، "يرسلهن" إلي فيلعبن معي، وأخرجه مسلم "440". وأخرج أبو داود "4932"، بسند حسن، والنسائي في عشرة النساء "75/ 1" بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال:"ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جنحان من رقاع، فقال:"ما هذا الذي وسطهن؟ "، قالت: فرس، قال:"وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان، قال:" فرس له جناحان"، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه.
والتاريخ كفيل بنشر مآثرهم، وليس التمدن في تقليد المتمدين تقليدا أعمى في كل ما فعلوا، فهذا مذموم، وأنتم تعيبون على مقلدة العلماء، بل الواجب أن نأخذ ما لنا فيه فائدة، وندع ما لا فائدة فيه، وهم نفسهم متضايقون من عوائد وقوانين تمدنية كرفع الحجاب وسهريات الرقص، وها نحن نراهم يمنعون الخمر، ويفكرون في إباحة تعدد الزوجات والطلاق، فأي رقي.
وأي ضرورة تلجئنا لنصب تمثال تذكار لوطني نحصل على تذكار بما هو أنفع، بل نصب التماثيل عندهم من الأمور التحسينية لا من الحاجية، ولا من الضرورية. وفي "الصحيح" أن أم حبيبة وأم سلمة رأتا كنيسة ببلاد الحبشة تسمى مارية فيها تماثيل، فقال صلى الله عليه وسلم:"أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح، صوروا له تلك الصور، هم شرار الخلق عند الله" 1 وليس كل ما يعب يكون عيبا، وليس كل ما عابونا به مما هو عيب تجنبناه، وليس كل ما نفعهم ينفعنا، بل ما لم يهدم أصلا شرعيا، فاستحسن الحاضرون الجواب، بل وكذلك السائل حفظه الله؛ لأنهم ناس منصفون ما رأيتهم بأن الحق إلا وطأطئوا له سراعا، وإني لأرجو نجاحهم لمحاسن أخلاقهم، والله يبقيهم، ويأخذ بيدهم في ترقيتهم.
المفتى هل يلزم أن يكون مجتهدا:
قد قسم ابن رشد في أجوبته المفتين إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المجتهد المطلق القادر على أخذ الأحكام من أدلتها الشرعية:
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، وهذا يجوز له الإفتاء عموما، ويولى القضاء وغيره من الولايات.
الثاني: طائفة اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا تحفظ مجرد أقواله، وأقوال أصحابه دون معرفة الأدلة، ولا تمييز الصحيح من تلك الأقوال من غيره،
1 أخرجه البخاري "1/ 444" في الصلاة: باب الصلاة في البيعة، ومسلم "528" في المساجد: باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها.
وهذه لا يجوز لها الإفتاء بمجرد التقليد من غير معرفة الدليل؛ لأنه إفتاء بغير علم، نعم يجوز لها أن تعمل في خاصة نفسها إن لم تجد مفتيا مجتهدا، فإن اختلف قول مالك أو أصحابه في مسألة، فيجري حكمه على حكم العامي إذا استفتى العلماء، واختلفوا عليه هل هو مخير أن يأخذ بقول أحدهم، أو يجتهد بقول أعلمهم، أو يأخذ بأغلظ الأقوال تحريا؟
وهذا الذي قاله ابن رشد من حرمة الإفتاء على أهل هذه الطائفة يوجب حرمة الإفتاء على أهل العصر، بل هذه العصور منذ انقطع الاجتهاد فيما زعموا إلى الآن، ولا يخفى ما في ذلك من زيادة إتلاف الدين، والقضاء عليه، وتتعذر الحقوق، وللضرورة يقبل غير العدول، وربما قبل الكافر في الشهادة، فيقاس على ذلك قبول غير المجتهدين في الفتوى من باب أحرى، ولذلك خالفه غيره، فقال بجواز الإفتاء للمقلد عند عدم المجتهد كجواز ولايته القضاء.
وعلى هذا درج صاحب "المختصر" في القضاء حيث قال: وإلا فأمثل مقلد، فحكم بقول مقلده. وعلى هذا عياض والمازري، وابن العربي وغيرهم، ولا أظن ابن رشد نفسه يخالفهم حيث اشترطوا في الجواز فقد المجتهد، وعليه فإذا وجد المجتهد، فلا سبيل لإفتاء المقلد ولا لتوليته القضاء؛ لأن المجتهد يحكم عن علم، والمقلد عن جهل.
وهذا إذا كان المجتهد مؤتمنا عدلا، وإلا فلا عبرة باجتهاده إلا لنفسه على الصحيح، ونقل ابن عرفة عن ابن زرقون وابن رشيد صحة تولية المقلد قاضيا مع وجود المجتهد، ونقل عن ابن العربي وعياض والمازري عدم الصحة. قال: وهو محكي أئمتنا عن المذهب، قال: ومع فقده جائز، ومع وجوده، فالمجتهد أولى اتفاقا نقله في "الاختصار".
الثالث: من يكون مقلدا لمالك وهو يعلم من أقواله وأقوال أصحابه ما هو جار على أصوله، وما هو سقيم غير جار على ذلك، ولكن لم يبلغ معرفة القياس ونحوه من الأدلة بحيث لا يقدر أن يقيس الفروع على الأصول وهذا ما يعرف