الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما جنون الكبير وسيدي محمد بن قاسم القادري، فالحق في وفاتهما هو ما ذكرتم، وما وقع في "الفكر السامي" غلط مني، أو من مخرج المبيضة أو غيره، وقد وقع التنبيه عليه في جدول الإصلاح، ولكم مني مزيد الشكر على التنبيه.
وأما قولكم عمن تولى بعد أبي العباس بن سودة قضاء فاس، فهو بحيث تافه؛ إذ البعدية من الظروف المتسعة، فهو على حد قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} 1 وكان بعد ذلك صمويل آخر قضاتهم الذي كان بعد موسى بزمن طويل زادكم الله حرصا على ترقي العلم. وتوقي الوهم.
1 سورة البقرة: 246.
البحث الخامس والعشرون:
من بعض أعلام مصر، ونصه بعد الديباجة: سيدي، شرفتم مكتبتي بإهداء نسخة من كتابكم العديم المثل، الجزيل البذل "الفكر السامي في تاريخ الإسلام" فازدانت بجماله الباهر، وتحلت لبتها العاطلة بجوهره الزاهر، تقبل الله عملكم المبرور، وسعيكم المشكور، ولقد سبرت مبانيه، وخبرت معانيه، فأكبرت مقاصده، واستعذبت موارده، وحمدت الله أن أبرزه في هذا الزمن الذي نضبت فيه المنابع، وغزرت الدعاوي، واشتدت الزعازع، وإني لأعده من معجزات الدين، ومؤيدات اليقين، فقلما رأيت من كتب في العصر ما طابق اسمه مسماه مطابقته، أو أفاد مع غزارة العلم إفادته، أو أجاد في الصناعة العلمية إجادته، على حسن الإبداع، وسلامة الاختراع، ونفاسة الذوق مع الاتساع.
فما من سواد في بياض رأيته
…
بأحسن من هذي العيون ولا أحلى
ولقد أكملتم جماله، وأبدعتم كماله، بابتكاركم فتح باب النقد، وقبولكم كل ملاحظة رغبة في التنقيح، وغبطة بالتصحيح، مما دل على صدق النصح
للمسلمين، في إبانة الحق، وتحرير العلم والدين، فلكم من الله الجزاء الأوفى، والثناء الأكفى.
إن هذه الفكرة عالية، ومكانة في اتساع الأخلاق سامية، أراكم قد سبقتم علماء الإسلام لفتح بابها تصير سنة متبعة، تتحرر بها المؤلفات في حياة مؤلفيها، وتتضح بها أوهام من يتصدى للنقد وهو في تطوره العلمي لم يزل في المهد.
مولاي أوجبتم على إبداء ملاحظاتي قياما بنصح الإسلام، فإني ممتثل أمركم طالب عفوكم، ولكن بعد أن أوفي مؤلفكم حقه بذكر بعض مزاياه المنفرد بها، وإن شارك غيره في غيرها، لئلا أكون ممن بخس الناس أشياءهم، أو أنسأ حقهم فأساءهم.
سيدي أول ما وقع طرفي على الديباجة التي خالفتم فها عادة كل ما يرد علينا من مؤلفات السادة المغاربة وبعض المشارقة من تطويل الخطبة، وتنميقها بالسجع، وما يلقونه على وجه تواليفهم كبراقع تحول دون المقاصد إلا وأخذ أسلوبه العجيب السهل الممتنع بشراشر القلب، ومنافذ الفؤاد، فنفذت عذوبة بيانه، ومتانة علومه بأسرع من البرق إلى الفكر والمشاعر، فملكتها، فما مضى زمن وعد موسى حتى استوعبته مطالعا أكثر مسائله، مقابلا لما لم أستحضره منها على أصوله في مظانها بنظر مستقل غير متحيز ممتثلا أمركم المطاع، فإذا هو لب لباب وسحر الألباب، وقد فتح الباب لعلم جديد كان فيه الكتاب، وفصل الخطاب، بل لخص علوما، وما من علم التقمه إلا وأجاد هضمه.
فهذا أصول الفقه الذي لا يجيد الكتابة فيه إلا نحارير الأمة وفلاسفتها العظام الماهرون في علوم اللسان والتشريع الإسلامي، لكونه فلسفة العلوم الإسلامية، وميزان اختبار اختيار أعلامها، وسلاح المجتهد في الهيجاء عند احتدامها، قد أتيتم بملخص مهمه، وسواد عيونه في القسم الأول من كتابكم، وكملتم بقية منه في القسم الرابع لمناسبة أوجبها الانسجام، وما فاتكم منه إلا ما هو من فن آخر غالبا كمبحث الحروف الذي هو لغوي، ومباحث المنطق والتوحيد
والتصوف التي ضخم بها "جمع الجوامع" وأصله.
ومع مقابلتي لمسائله على أصوله "كالمنتهى" و"المستصفى" و"إحكام الأحكام" و"المحصول" و"التنقيح" و"مسلم الثبوت" وغيرها، وجدتكم عمدتم إلى ضخام الأسفار، فقربتم ثمارها اليانعة في أوراق عظيمة القيمة، قليلة العدد، إبريز البيان كعقود زمرد وجمان.
فالمحصل لها محصل لفز يعد بها من أعظم رجاله، وأساطين كماله وجماله غير أنكم أطنبتم في مبحثي التقليد والاجتهاد بما لا يناسب ما في الجزء الأول من محاسن الإيجاز، الذي هو لأهل الفن إعجاز، ولكنكم أتيتم في المبحثين بمسائل وتحريرات لا توجد في كتاب بيد أنها تبرد غلة الطلاب.
ولقد رقص أهل الفن وغواة التاريخ طربا بما أدمجتموه في الجزء الأول من تلك القطعة العنبرية، التي فاح شذاها في المشارق والمغارب، واستطردتموها استطراد علي للمسألة المنبرية، وهي تاريخ نزول الأحكام الفقهية، وترتيبها على سني الهجرة النبوية مما لم يتقدمكم إليه غيركم حيث إنه من موضوع فنكم الذي ابتكرتموه، ولعمر الله إنها لمن أمهات المسائل التي كان يجب على أعلام الأمة إفرادها بالتصنيف، وتمحيصها كل التمحيص؛ إذ بها تنحل عويصات، وتظهر أسرار أحكام خفيات، وقد ادخرتها لكم الأقدار لتظهر ما لكم في الشريعة والتاريخ من الاقتدار، وحسن الابتكار، وإن ما كتبتم في ذلك على إيجازه لجامع لأشتات ما تفرق في دفاتر فقهية وتاريخية وحديثية يعد تأليفا لطيفا مستقلا، وفنا جديدا، ولقد حررتم ما جمعتم تحريرا، وحبرتموه تحبيرا، والله يحسن مثوبتكم على تعبكم في استقصائكم.
وهذا علم تراجم الرجال عمدتم إلى جمهرة أعيانه، وواسطة تاج إيوانه، من رجال الفقه والأصول والحديث، ولخصتم زبدة اللبن كأنكم أشرفتم على
جيش عرمرم، فانتقيتم منه كل حامل راية، ومن لا تدرك لكفايته غاية، فلا يتمالك الناظر المنصف أن يظهر إعجابه وبهته واستغرابه، من استقصائكم لأولئك الأساطين العظام، الذين بأسفار تواليفهم بنيت قبة الإسلام في العصور الذهبية، وبأفكارهم وأقلامهم اتسعت دائرة معارفنا، وازدهت مكتباتنا، وافتخرت أجيالنا، غير أنكم اعتنيتم بحفاظ الحديث، وبالخصوص الشافعية منهم، وبفقهاء المالكية وعلى الأخص المغاربة منهم والفاسيين، ولكن الفقه مرتبط بالحديث ارتباط الفرع بأصله، والمرء لا يلام على اهتباله بوطنه ومذهبه، وكل فتاة بأبيها معجبة ولا بأس أن ينبه جنابكم آخر الكتاب على وفاة القفال الكبير الذي لكم في الصفحة 129 ج2، فإن السخاوي في كتاب "إعلان التوبيخ" ذكر أنه توفي سنة 365 خمس وستين وثلاثمائة.
وهذا علم التاريخ السياسي قد أبان ما لخصتموه منه أول أطوار الفقه استحضاركم لتاريخ سلفكم الطاهر استحضار الإمام الراتب لفاتحة الكتاب، مكتفين بإعجاز الإيجاز عن الإطناب.
نعم ربما وقع الخروج عن موضوع الكتاب في بعض المناسبات كإدماجكم تاريخ اللغة العربية في أربع ورقات من الجزء الثاني، وتاريخ علم التصوف في ثمان ورقات من الثالث، وكان يكفي الإحالة على كتبهما إذ الكل علم مستقل، فلئن تجنبتم أول الكتاب ذلك النقاب، فقد وقعتم في الإسهاب.
على أنكم قد أبدعتم إبداعا فيهما، ولا سيما في تاريخ التصوف، فلقد أتيتم بما لم نره لغيركم، ولا سقطت عليه قريحة سواكم وهما تأليفان مهمان أدرجتموهما إدراجا، ودبجتموهما أحسن تدبيج، وما أحسنهما لو استقلا بإطلاق، لا كاستقلال مصر والعراق، وتكفيكم الإجادة عذرا، ولكن إياكم وما يعتذر منه.
وهذا علم الحديث، فلقد تتبعت ما دللتم به من السنة النبوية، فما رأيتكم أتيتم بحديث إلا وبينتم مخرجه وحالته صحة وإعلالا مستقصين ما لعظماء الفن
فيه، وما لم يناسب سوقه في الأصل، وشحتم به الهوامش الدرر، فبدت بها أنوار الغرر، ولربما اتكلتم على شهرة بعض الآثار في "الصحيحين" أو السنن يعلم ذلك من له إلمام بالفن، نعم ذكرتم في ترجمة عائشة الصديقة من الجزء الثاني أنها روت شطر الدين، فربما يفهم الناقدون إنه إشارة لحديث باطل "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء"1 لكن المنصفون يعلمون أن لا درك عليكم من ذلك حيث لم ترفعوه صراحة ولا ضمنا بله أنه يلزمكم القول بمعناه. ولعمري لا تستبعد تلك المنقبة في حق الصديقة رضي الله عنها، مع ما أوتيته من سعة العلم، وغزارة المادة، بيد أنه فاتهم التنبيه على بطلان الحديث، ومقامكم العلمي الأثري يوجبه رفعا للوهم.
كذلك سقتم في ترجمة عمار بن ياسر حديث "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" والذي في صحيح البخاري "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وليس
1 قال الحافظ ابن حجر في تخريج ابن الحاجب من إملائه: لا أعرف له إسنادا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في "النهاية" لابن الأثير ذكره في مادة: حمر، ولم يذكر من خرجه، ورأيته أيضا في كتاب "الفردوس" لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا، ولفظه "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء" وبيض له صاحب "مسند الفردوس" فلم يخرج له إسنادا، وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي، فلم يعرفاه، "المقاصد الحسنة""198"، وقال الزركشي في "المعتبر" ورقه "19/ 1"، وذكر لي شيخنا ابن كثير عن شيخه أبي الحجاج المزي أنه كان يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثا في الصوم في سنن النسائي قلت: وحديث آخر أخرجه النسائي في عشرة النساء ورقة "75/ 1" من حديث يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر بن نصر، عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي:"يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: نعم: فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قال: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حسبك"، فقلت: يا رسول الله لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه، وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في "الفتح""2/ 370".
فيه "تقتله الفئة الباغية" 1 نعم لأدرك عليكم حيث لم تنسبوه للصحيح غير أن حيادكم الاعتقادي نحو الصحابة يوجب حذفه، وإنه ليطربني تفسيركم لآيات الكتاب الحكيم حيث هو تفسير استقلالي أثري غير متأثر بالوسط، ولا بالمذهب المالكي، ناهج مناهج الاعتدال، مؤيد بالسنة وقواعد العربية والأصول بما يوجب لمؤلفكم إقبال نبغاء أهل العصر الحاضر.
وهذا علم الفقه قد أتيتم في كتابكم على صغر حجمه من المسائل تمثيلا واستشهادا بما لو حصله طالب، لعد من عليه الفقهاء النظار لردكم الفرع إلى أصله، وإفراغ الاستنباط في أفخر شكله، وتحري صحيح النقل، وتوهين ما زاغ عن جادة العدل، مع استقلال الفكر، وعدم التحيز لأي مذهب إلا إن كان له حجة مما يضمن لكم أن لا ينفر من كتابكم هذا حنفي ولا شافعي ولا حنبلي.
نعم انحيتم بلائمة كبرى على مذهب الظاهرية الذي خانه سعده معكم، ولكن ندرة أهله في الوقت الحاضر تأمنون بها ضجته وليتكم تمسكتم بالحياد، ومنحتموه حريته، على أن نقدكم إياه قد أصاب غالبه الكلي والذري، ولكن الحي قد يغلب ألف ميت. وأعظم بفائدة ما أتيتم به من أصول المذاهب الأربعة، ومذاهب الظاهرية مما فيه غنية عن المطولات الهامة، وذلك مما يهم كل فقيه، ويوجب شكر كل منصف نبيه.
1 أخرجه البخاري في صحيحه "1/ 451" في المساجد: باب التعاون في بناء المساجد من حديث أبي سعيد بلفظ "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وأخرجه مسلم "2915" في الفتن من حديث أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعمار وهو يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، وأخرجه مسلم أيضا "2916" من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية" ورواه جماعة من الصحابة غير من تقدم أبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان، وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليسر وعمار نفسه عند الطبراني وغيره، وقال الحافظ: وغالب طرقها صحيحه أو حسنة.
بيد أنكم أجملتم إجمالا في المذهب الزيدي والشيعي مع أن هذا مذهب أمة من أرقة الأمم الإسلامية ولكن بعد الدار أبديتم به أقرب الأعذار، كما أنكم أغضيتم عن مذهب الإباضية إغضاء الحليم عن المجرم وهو مذهب منتشر بجواركم في جنوب الجزائر، ويقول البعض: إنه موجود بالمغرب أيضا، كما أنه مذهب أمارتي مسقط وزنجبار، ولهم فقهاؤهم وكتبهم وفروعهم وأصولهم، ولا بدع أن أجبتم بقول الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا
إلخ.
هذا وأما الفن الذي أسستم قواعده، وشيدتم في عواصم العلوم هياكله ومشاهده، وابتكرتم أصوله، ومهدتم فروعه بمهارة نادرة في استنباط مسائله، وإفحام سائله، واستخراجكم لأطواره من حياة أبطاله، فذلك اتفق على إحسانكم فيه كل الإحسان، كل إنسان بكل لسان، والبرهان العيان، وما بعد العيان بيان.
وإما إرشادكم إلى تجديد الفقه، وإحياء طرق الاجتهاد بإصلاح الدراسة، وتأليف كتبها الفقهية والعربية، وإحياء معاهد الفتوى والقضاء إلى أن تعود لما كانت عليه في الصدر الأول، فذلك شأن المصلحين البارعين المفكرين بمفكرة واسعة، والناظرين إلى مستقبل الملة بالمنظار الصافي من كل كدر عن ذوق صحيح وغيرة حقيقية، وإن ذلك كله لحقيق بكل إعجاب وإكبار.
وسيدي ولا يهولنكم ما قد يورده الجاحدون من كون الدواء الذي أرشدتم إليه هو نوع تغيير للشريعة، والرسوم المتلقاة عن الآباء القدماء رحمهم الله، فنحن نجيبهم بأن أصول الشريعة هي المنصوص والمجمع عليه، وقد أوجبتم حفظهما، والعض عليهما بالنواجذ، وإنما التغيير للأحكام الاجتهادية إن اضطر إليه، والتغيير الحقيقي المبيد للشريعة هو عملهم السائرون عليه، فقد تركوا الحدود الشرعية من الأحكام، فلا حد يقام في الأرض على وجهه الشرعي، ولا قصاص، ولا لعان، ولا ولا ولا، نبذوا أحكام الربا، وأحكام البيوعات،
الإجارات، وصاروا إلى أحكام عرفية، والمجالس التجارية، ومجالس الجنح والجنايات منابذين للشريعة جهارا وربما تولى تلك الأحكام من يزعم أنه من علماء الشرع الإسلامي، ولم يبق راجعا إلى القضاء الشرعي إلا القليل قد يندثر مع الزمن لا قدر الله على أن هذا القليل ما علمت من قال وقيل.
فلأن نجعل تعديلا لأحكام اجتهادية تغيرت الأحوال، فلزم تغيرها، ويبقى الدستور شرعيا اسما ومسمى خير من أن يصير وضعيا، ونصبح منابذين لشريعة الإسلام كليا، ولا شك أن جمود الجامدين هو موت الشريعة اللزام؛ إذ طبيعة الجمود هو الموت الزؤام.
فلله أبوكم ما أدق نظركم، وأوسع في مجال المصالح الشرعية فكركم.
إن ما أرشدتم إليه من دواء لهو الإصلاح النافع، وكيف لا وقد صدر من قلم طبيب منور نطاسي ماهر، عالج المسألة التعليمية طيلة السنين، وعرف داءها الدفين، وكشف بالكاشف الحديث مكامن الداء كشف حكيم غيور صادق، وأرشد إلى الدواء إرشاد يقظ وامق، غير مكترث بقال ولا غال ولا منافق، وهكذا كان أصحاب العقول الكبيرة من علماء وفلاسفة يهتمون بأمور الأمة، ويعالجون داء أهل الملة، وكثير منهم لم يبلغوا ما بلغت، ولا نقبوا على ما نقبت، فحملوا على الرءوس. وفدتهم أممهم بالنفوس، والله المسئول أن ينبه الأفكار الإسلامية لاتباع إرشادكم، ويثيبكم بما أثاب به المصلحين إنه ولي ذلك.
سيدي الشيخ إن فكركم السامي هو عنوان النهضة العربية بالديار المغريبة كما قال عنه المجمع العلمي العربي بالشام، وحسنة من حسنات هذه الأيام، تكفر عن سائر الأعوام، وبرهان قاطع على أن المغرب الأقصى احتفظ بنخبة الأعلام، الذين يخدمون الملة بالقلوب والأحلام والألسن والأقلام، ويستجلى بفكرهم السامي حالك الظلام، فلو وقف عليه أبو الوليد الشقندي ما فضل أندلسه على العدوة، ولا صدرت منه تلك الهفوة.
وإن مثل كتابكم هذا يجب أن يدرج في برنامج الدروس العالية والثانوية بالمعاهد الإسلامية الكبرى يسد ثلمة فراغا لا يسدها غيره ولقد كتب الشيخ الخضري رجل مصر في التاريخ وعلوم الشريعة في الموضوع الذي كتبتم فيه قريبا من الزمن الذي كنتم تكتبون فيه، لكنه جاء بوشل ما عل ولا أنهل، ولا عطر بعد عروس، لا زالت تنير ما أظلمه التأخر، وتبني ما هدمه التقهقر، ويا ليت النوابغ من الفقهاء والمؤرخين والمتفلسفين يكتبون على نسق ما كتبت، ويستصبحون بالمصباح الذي أنرتم، ومن الله نسأل المعونة والتسديد لسائر أهل العلم آمين. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن الحسنات يذهبن السيئات، وقد استهدف من ألف، وإني ليسرني أن أسمع كلمة نقد أصلح بها عيوبي الجمة، وأفضلها على ألف كلمة في التقريظ والإطراء الذي لا موجب له إلا حسن الظن، وسلامة الضمير، وتنشيط العلم والله يجازيهم خيرا كثيرا، ولله در الإمام الزمخشري.
العلم للرحمن جل جلاله
…
وسواه في غفلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما
…
يسعى ليعلم أنه لا يعلم