المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البحث السابع عشر: - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي - جـ ٢

[الحجوي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌القسم الثالث: في الطور الثالث للفقه وهو طور الكهولة

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي

- ‌حدوث مادة الكاغد وتأثيره على الفقه:

- ‌الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر:

- ‌استطراد بعض المكثرين من التأليف:

- ‌الاختلاف في مظنة الاتفاق:

- ‌حدوث علم التصوف ومجمل تاريخه وأطواره:

- ‌بعض تراجم الصوفية

- ‌مدخل

- ‌الزيدية في اليمن:

- ‌بعض تراجم الزيدية:

- ‌فقه الشافعية

- ‌تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع

- ‌مدخل

- ‌تراجم الحنفية في القرن الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب مالك في المائة الثالثة والرابعة:

- ‌بعض أصحاب الشافعي الذين نشروا مذهبه في القرنين الثالث والرابع:

- ‌أشهر أصحاب الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث والرابع:

- ‌صنعة التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر

- ‌استنتاج من حالة الفقهاء في المدة السالفة:

- ‌علم الخلافيات:

- ‌القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم

- ‌مدخل

- ‌مجمل التاريخ السياسي لهذه القرون:

- ‌إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:

- ‌تراجم الفقهاء في هذه العصور:

- ‌إصلاح القرويين:

- ‌أشهر أصحاب الإمام مالك بعد القرن الرابع إلى الآن:

- ‌أشهر مشاهير الشافعية بعد المائة الرابعة إلى الآن:

- ‌مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع:

- ‌تجديد الفقه:

- ‌ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا:

- ‌مناظرة فقيهين في القرن الخامس:

- ‌غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه:

- ‌عدم تنقيح كتب الفقه:

- ‌فقه العمليات وتاريخ نشأته وانتشاره:

- ‌تحرير لمسألة العمل الفاسي:

- ‌التقليد وأحكامه:

- ‌تقليد الإمام الميت:

- ‌التزام مذهب معين وتتبع الرخص:

- ‌المذاهب الأربعة ليست متباعدة:

- ‌هل يجوز الخروج عن المذاهب:

- ‌حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم:

- ‌خصال المفتي:

- ‌ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى:

- ‌حال الإفتاء في زماننا:

- ‌الكتب التي يفتى منها بالمغرب:

- ‌الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المجتهد، شروطه، أقسامه:

- ‌مواد الاجتهاد، تيسر الاجتهاد، الطباعة، كتبه:

- ‌بحث مهم:

- ‌هل كل مجتهد مصيب:

- ‌اقتداء المذهب بعضهم ببعض

- ‌نقض حكم المجتهد:

- ‌هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده:

- ‌من أدرك رتبة الاجتهاد:

- ‌ذيل وتعقيبات للمؤلف

- ‌مدخل

- ‌البحث الأول:

- ‌البحث الثاني:

- ‌البحث الثالث:

- ‌البحث الرابع:

- ‌البحث الخامس:

- ‌البحث السادس:

- ‌البحث السابع:

- ‌البحث الثامن:

- ‌البحث التاسع:

- ‌البحث العاشر:

- ‌البحث الحادي عشر:

- ‌البحث الثاني عشر:

- ‌البحث الثالث عشر:

- ‌البحث الرابع عشر:

- ‌البحث الخامس عشر:

- ‌البحث السادس عشر:

- ‌البحث السابع عشر:

- ‌البحث الثامن عشر:

- ‌البحث التاسع عشر:

- ‌البحث العشرون لبعض الأصحاب الرباطيين:

- ‌البحث الحادي والعشرون له أيضا ونصه:

- ‌البحث الثاني: والعشرون له أيضا ونصه

- ‌البحث الثالث والعشرو: له أيضا

- ‌البحث الرابع والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين

- ‌البحث الخامس والعشرون:

- ‌البحث السادس والعشرون:

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس أبواب القسم الثالث من الفكر السامي:

- ‌فهرس أبواب القسم الرابع من كتاب الفكر السامي:

الفصل: ‌البحث السابع عشر:

السلام، فما تركوا الحديث إلا لمعارض له ناسخ في ظن مالك ومن قال بقوله، ولكن لم يقم ذلك دليلا على أبي حنيفة وغيره، فلم يسلموا كونه خبر جمع عن جمع، لاحتمال الاجتهاد، ولم يسلموا النسخ أيضا لذلك، ولهذا ما أخذوا بالعمل المدني، ولا رأوا رأي مالك، كما هو مقرر في كتب الأصول. ويمكن الاحتجاج لهم على مالك بخطبة معاوية بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة حضور حيث أمسك بيده قصة من شعر، وقال:"يا أهل المدينة أين علماؤكم كيف تفعل نساؤكم هذا: إنما هلكت بنو إسرائيل حين فعلت نساؤهم هذا". الحديث وهو في البخاري1 بمعناه مكررا وفي غيره، ويجاب بأن الاحتجاج بعمل العلماء وما أنكره معاوية هو عمل نساء عامتهم داخل بيوتهم يمكن عدم اطلاع علمائهم عليه، وهبهم اطلعوا، فهذا نادر وقع ممن لم تنسب له عصمة.

1 "10/ 315" في اللباس باب وصل الشعر، وأخرجه مسلم "2127" في اللباس والزينة: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام الحج وهو على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: $"إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".

ص: 561

‌البحث السابع عشر:

قال: وفي الصفحة 153 من الأول عند الكلام على أبواب المعاملات ولو أن الجمهور حملوا تداخل الشرع فيها على معنى حفظ مصالح الخلق وجعلوا الأحكام فيها كلها دائرة على هذا الأصل، لاتسعت أبواب المعاملة على المسلمين، لكنهم أدخلوا فيها التعبد لما قام عندهم من الأدلة على قصده إلى: وما جاء التضييق إلا من الأقيسة والاستحسان إلخ. ربما يقال: إذا قامت الأدلة على قصد التعبد فكيف يمكن للمجتهدين أن يعدلوا عن ذلك في مواطن القياس والاستحسان وقد بسط الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" القول في بيان الوجوه التي تقضي أنه لا بد من اعتبار التعبد في أبواب المعاملة. هذا ما تتشوف النفس إلى

ص: 561

إيضاحه والسلاح الأعم عليكم ورحمة الله. ا. هـ. بحروفه.

وجوابه:

إني لما قلت: لما قام عندهم من الأدلة على قصده، فذلك عذرهم فيما فيه نص، أما ما لم يجدوا فيه نصا، وتمحلوا له الأقيسة التي لا يخفاك ما فيها من الشروط التي لكل خصم أن ينازع في توفرها وما عليها من النقوض، مع خلاف الظاهرية في أصل القياس، وتشعب الأقوال فيه، فما عذر المتأخرين في التضييق على الأمة في معاملتها التي هي سبيل تقديمها، وإظهار الشرعية في مظهر غير مظهر السماحة والصلاحية للرقي، ولكل زمان ومكان، ولكل الأمم، وحتى تسببوا في نبذ العامة للشريعة، والطعن في أحكامها بأنها ضد مصالحهم.

إن مصلحة الأمة والشريعة معا تقتضي التوسع في أبواب المعاملات بما لا يخالف المنصوص والمجمع عليه، ونحن الأمة الإسلامية التي تنكر كل الإنكار على من يرى القلب والإبدال في الشرائع، وإني من الذين يعتدلون في الأحكام، وفي الفلسفة الفقهية، ولا يغرقون فيها، ولا يرون الاسترسال في الأقيسة والتحمل في استنباط أحكام بمنع معاملات كثيرة لم يصرح نص بمنعها، ولا نضيق على الأمة سبل رقيها؛ لأنه موجب لفقرها واحتكار تلك المعاملات لغيرها، ولم يجعل الله شريعة من الشرائع منافية لناموس الاجتماع، ولا قيدا ثقيلا في أرجل من يريد النهوض من الأمم، بل جميع الشرائع محافظة على ناموس الاجتماع، ورقي المجتمع الإنساني ولا سيما الشريعة العامة الأبدية. ولا يشك أحد أن تضييق المعاملات، ومنع الأمة من كثير منها يوجب فقرها، وما افتقرت الأمة إلا وضاع مجدها، وذهب سؤددها؛ إذ المال عصب لكل مجتمع إنساني، وحفظ البيضة إنما يكون في الزمان الحاضر بثروة الأمة، واتساع معاملتها ومتاجرها ومصانعها وفلاحتها.

وقد كان العلماء لا يفتون في منع مسألة حتى ينظروا إلى حاجة الناس إليها، فإن رأوا مساس الحاجة إليها، أو عموم المعاملة بها، رخصوا وأباحوا، وما ضيقوا

ص: 562

ومن قواعد الفقه: المشقة تجلب التيسير، والضرورة تبيح المحظور، والله يقول:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وانظر في "المعيار" وغيره فتاوى من أفتى بجواز كراء الأرض بما تنبت لعموم البلوى بها، وفتاوى من أفتى بإباحة شركة الخماس؛ لأن المعاملات إذا عم الفساد وكانت فاسدة على سبيل العموم يترخص فيها، وهؤلاء الخلفاء الراشدون لما رأوا احتياج الناس إلى تضمين الصناع، أوجبوه مع منافاته للقياس، وهؤلاء المتأخرون من المالكية قد ابتكروا بيع الصفقة مع عدم انطباقه على أصول الشرع تسهيلا على الناس، وتخلصا من كثرة الخصومات في شركة الجزء المشاع في الأملاك، وترخصوا في شهادة اللفيف مع مخالفتها لظاهر القرآن وهو قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقوله:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3 إلى غير ذلك.

ومما وقع في وقتنا على خلاف التوسعة فتوى بعضهم بمنع الضمان المسمى سكرتاه على الأموال4 ثم اختلفوا، فمنهم من علل بالغرر، ومنهم من علل بالقمار، ومنهم من قال: إنه ضمان بجعل، وهأنذا أبين لكم فساد الفتاوى الثلاث فأقول:

أما من علل بالغرر، فقد قاله قياسا على منع الغرر في البيع، وهي فتوى عندي باطلة، وبيان ذلك أن صورة ضمان الأموال أن من له خزين تجارة أو معمل أو مركب، أو وسق بضاعة في مركب مثلا يدفع باختياره لإحدى الشركات الضمانية واحدا في الألف أو نحوه من قيمة الشيء المضمون تأخذه الشركة ولا يرجع له منه شيء، وإنما تعطيه توصيلا به، فإن وقع له غرق أو حرق أو نهب مثلا كانت ملزمة أن تدفع له تعويضا وهو القيمة التي قوم بها الشيء المضمون، والمدة التي تكون الشركة مطلوبة بالضمان فيها مبينة محدودة في التوصيل هذه هي العامة التي وقع

1 سورة المائدة: 5.

2 سورة الطلاق: 2.

3 سورة البقرة: 282.

4 احترزنا بلفظ الأموال عن ضمان الأنفس لعدم مسيس الحاجة إليه فضلا عن الضرورة، فلا محوج الكلام فيه. ا. هـ. "مؤلف".

ص: 563

الإفتاء من بعض علماء العصر بتحريمها قياسا على حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر1 مع أنه لا بيع فيها ولا معاوضة، وإنما هو شيء تافه يدفعه الإنسان كتبرع لشركة تضعه في صندوقها الذي هو كصندوق احتياطي، ثم تكون لمزمة بالتعويض على الدافع إذا أصابته كارثة مقابل ما أخذته منه، فشبهها بالتبرع أقرب وأقوى من شبهها بالبيع. والغرر المنهي عنه في الحديث هو في البيع خاصة لا في التبرع، بل اختلف الأصوليون في نحو نهي عن بيع الغرر هل يعم كل بيع غرر أو هي قضية عين لا عموم لها؟ وعلى العموم استثنوا من البيع الغرر اليسير، فإذا كان يسيرا كما في السكرتاه، فهو جائز، فإن الذي يعطي فيها يسير بالنسبة لرأس المال، غير مجحف، فكأنها عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام تأخذ من ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا، واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير. ولذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك، وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها، وعلى كل حال هي معاملة عمت بها البلوى لاتساع نطاق الأعمال التجارية والصناعية والزراعية برا وبحرا، ولا تخلو مملكة في العالم من هذه المعاملة ولا يستغني عنها فيما أظن، فكيف بنا إذا شيد مسلم معملا كهربائيا أو نسيجيا مثلا، ومنعناه من عمل الضمان عليه، فيأتي من يغار من مزاحمته فيغري من يرميه بقنبلة، فيصبح مفلسا، وينفرد مزاحمه بالأرباح، ولو كان مضمونا ما ضاع له شيء، بل ربما ربح، فلا شك أننا بهذا التضييق نكون أهلكنا ثروة الإسلام، ووضعنا المسلمين تحت أسر غيرهم؛ إذ لولا عملية الضمان ما بقيت شركة تجارية مهمة، ولا معمل ولا مراكب بحرية أو نحوها إلا وأصيبت بكثير من النكبات فاضمحت شركاتها ومنافعها العامة وكيف تكون أمة ماجدة في هذا العصر خالية اليد من هذه الأمور إذن تكون مستبعدة لغيرها، واستقلال الأمم الحقيقي في هذه الأزمان لا يكون إلا باستقلالها اقتصاديا

1 الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة بلفظ: نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، أما بيع الحصاة، ففيه صور كما قال النووي وغيره، منها أن يقول: بعت لك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهيت إليه هذه الحصاة وبيع الغرر: كل بيع فيه خطر. كبيع الآبق والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، فيكون من عطف العام على الخاص. ا. هـ. "مؤلف".

ص: 564

وصناعيا، والكل أصبح الضمان ضروريا له في الوقت الحاضر اتقاء للطوارئ الجوية والحربية وغيرها فعمل الضمان هو من قبيل الضروري لا الحاجي ولا التحسيني، ومنعه موقع الأعمال الكبرى التي بها رقي الأمة في الإفلاس والخراب، فكم من مركب تجاري غرق في الحرب العظمى، ولم يفلس صاحب المركب في الملايين التي بناه بها ولا التجار الذين ملئوه ببضائعهم لوجود الضمان، فبالضمان أصبحت ثروة البلاد في أمن من الكوارث بسبب التعاون الذي تأسست لأجله شركات الضمان، ولولا ذلك لنكست شركات وأفلست المتاجر، وحل الخراب والإفلاس بكثيرين لا سيما منذ اخترعت المواد المفرقعة المتولدة من البارود، والغاز البخاري وروح زيت النفط "الأسانص" وغيرها وكل ذلك لم يكن في الأزمان الغابرة، ورب شركة من الشركات تقوم بعمل مالي تعجز عنه دولة من الدول العظمى الغابرة لاتساع نطاق الأعمال وفسحة فناء الأموال وكل يعلم أن مبتكرات الوقت الحاضر لا نظير لها في الغابر لذلك حدثت لها معاملات جديدة، فعلى الفقهاء أن لا يجمدوا في أحكامهم على التضييق والتشديد المضيع للمصالح، والوقوف مع الألفاظ والمألوفات التي ألفها من قبلهم، بل عليهم أن يلاحظوا أوجه انطباق النصوص على حاجيات العصر الحاضر، وما تقتضيه مصلحة المجتمع الذي يعيشون فيه مهما وجدوا سبيلا لمساعدة المنصوص والمجمع عليه.

وفي أبواب المعاملات الدنيوية لا تجد النصوص إلا وفق المصالح، وضد المفاسد لمن وفق لمعرفة المصلحة الحقيقية؛ لأن الشريعة هدى ورحمة وأبدية وعامة ولا يتصور في الشريعة أن تصك في وجه الأمة باب الصناعة والتجارة والفلاحة، ولقد صار التاجر الذي لا يعمل الضمان ينبذ التجار معاملته وإدانته لعدم الثقة والأمن على ما بيده فيصبح في إفلاس لا مناص له منه، وعلى كل حال هذه معاملة لم تكن ولا كانت أسبابها في الصدر الأول ولا نعلم أنه تكلم عليها أحد من المتقدمين لكونها حدثت منذ قريب، لذلك لم نقف على نص عليها في القرآن بمنعها بعينها، ولا في السنة، وإذا لم يكن فيها نص صريح ولا ظاهر، فقد علم من

ص: 565

الأصول الخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، فذلك الخلاف يجري هنا، فقول بالجواز، وقول بالمنع، وقول بالوقف. وهناك قول للظاهرية يقولون هذا من القسم المسكوت عنه رحمة غير نسيان، لكنهم يشددون، فيحلمون جميع المعاملات على الفساد حتى تثبت الصحة، ومذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة أن جميع المعاملات على الصحة حتى يقوم دليل على الفساد.

ولنرجع إلى الاجتهاد، وطريق الاجتهاد الصحيح في هذه النازلة هو أن نرجع إلى الأصول التي بني الفقه عليها، فنجد الفقه يستمد من أمرين مسموع معقول، كما تقدم لنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، فالمسموع القرآن المتواتر، والسنة الصحيحة أو الحسن، وفي معناها الإجماع، فإذا لم نجدها، رجعنا للمعقول، الذي هو القياس والاستدلال، وقد وجدنا حديث نهى عن بيع الغرر1 وهذا الحديث له مفهوم مخالفة في لفظ بيع، فما كان بيعا، فهو منفي عنه منطوقا، وما كان غير بيع، فهو مباح مفهوما، وهذه المعاملة لا بيع فيها وفيها غرر، فهي مباحة، ومفهوم المخالفة ما عدا اللقب عند المالكية والشافعية والحنابلة مقدم على القياس والاستدلال؛ لأنه من باب المسموع الذي هو مقدم على المعقول، ولا نذهب للمعقول إلا لضرورة عدم المسموع كما سبق لنا في القسم الأول والثاني من الكتاب.

وهذا المفهوم يؤيده المعنى المقصود من تشريع الحكم، وذلك أن الشرع يمنع الغرر في البيع؛ لأنه إضاعة لأحد العوضين على أحد المتعاوضين دون الآخر، وفي باب التبرع لا معاوضة، فلا منع، هذا يجري على أصل مالك والشافعي وابن حنبل من تقديم الكتاب أو السنة منطوقا ومفهوما على القياس والاستدلال. ويدل لقصة دلالة المفهوم أيضا ما رواه الترمذي أن رجلا من كلاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسيب الفحل فنهاه، فقال: إنا نطرق الفحل، فنكرم، فرخص له في الكرامة2

1 أخرجه مالك "2/ 664" مرسلا، ورواه موصولا مسلم في صحيحه "1513".

2 أخرجه الترمذي "1274" من حديث أنس، وأخرجه البخاري "4/ 379" في الإجازة، ومسلم "1565""35" من حديث ابن عمر بلفظ، نهى عن عسيب الفحل، وعسيب الفحل: ضرابه.

ص: 566

يعني رخص له في الهدية لا البيع، ولولا أن مفهوم لفظ بيع معتبر لما زاد الهبة في الحديث الصحيح: نهى عن بيع الولاء وهبته1 وذلك أن الولاء لحمة كلحمة النسب فكما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته بخلاف الغرر، فإن المعنى الذي منع لأجله في البيع لا يوجد في أبواب التبرع، وذلك ظاهر، أما إذا ذهبنا على مذهب القياسيين الذين لا يرون مفهوم المخالفة دليلا، فإننا ننظر أقرب الأشياء المنصوصة شبها بالسكرتاه، فنقيس عليها ولا سبيل لقياسها على البيع؛ إذ لا معاوضة هنا فالأظهر والأقرب أن تلحق بباب التبرع، وإن لم تكن منه من كل وجه مراعاة للمصالح المرسلة التي هي من الأصول التي بنيت عليها الشريعة. وقد تقدم في الجزء الأول الكلام عليها.

وفي "جمع الجوامع": والصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، قال تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 2. ا. هـ. ممزوجا. وباب التبرع قد أباحوا فيه الغرر ولو كثيرا فقالوا: يجوز التبرع بالعبد الآبق مثلا، وعليه، فلا منع من الغرر في باب السكرتاه "التأمين" يعني ضمان الأموال هذا ولا أدعي اجتهادا، ولست أهلا له، ولكن أقول: الصحيح أنه يتجزأ كما تقدم، وإذا أردنا الجري على طريق المتأخرين وهو تخريج فتاويهم على الفروع المنصوصة في المذهب فلنا أن نخرجها على مسألة وقعت بسلا أواسط القرن الثامن على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى بقضية تجار البز مع الحاكة، وذلك أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة عليهم، فتواطئوا على أن كل من اشترى منهم سلعة ثقف درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على المغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم، وينقص من ربحهم، قال العقباني: فحكم بإباحة ذلك بشرط أن لا يجبر واحد من التجار على دفع الدرهم، وقد بسط القضية في نوازل البيع من المعيار الإمام الونشريسي، ولم يتعرض العقباني، ولا الإمام القباب الفاسي الذي أفتى بالمنع مخالفا له لمنع التجار من ذلك لعلة الغرر أو

1 أخرجه البخاري "5/ 121"، ومسلم "1506" كلاهما في العتق.

2 سورة البقرة: 29.

ص: 567

كون بعضهم ينزل أكثر من الآخر لتفاوتهم في متاجرهم طبعا ولا ضيقا هذه المعابر لما في ذلك من المصلحة المرسلة، وما قال أحد منهما بفساد هذه المعاملة، أو ادعى فيها قمارا أو غرر لعدم قصدهما، ومن أصول الفقه أن الأعمال بمقاصدها، بل أفتى المانع بالمنع نظرا إلى تضرر الحاكة بالدرهم بدعوى أنه ينقص من الثمن في مآل الأمر، وما يؤدي إليه الحال ولم تقبل فتواه، بل فتوى المجيز هي المقبولة.

وبتأمل هذه الفتوى يظهر لك أنها سواء مع قضية الضمان وهما كصناديق التوفير للموظفين والتعاون والتقاعد الجاري عمل الأمم عليها في أقطار الدنيا.

ولما كنت أؤلف نظام القرويين سنة 1332 عرضت على أعيان فاس الذين كانوا بالمجلس جعل صندوق للتقاعد بها فاستحسنوه، وقيدوه من جملة مواد الضابط، بل قضية الضمان أحق بالجواز من قضية تجار البز والتقاعد؛ لأن هذا الضمان جعل لصيانة المال الذي هو أحد الكليات الخمس التي أجمعت الملل والنحل على وجوب حفظها، وأن الذي أفتى بكونها غررا، أو إضاعة للمال لم يحرر المناط، ولا هدي لطريق الاستنباط بل الغرر كل الغرر في منعها وتركها، وإنما صيانة أموال الناس في إباحتها.

2-

وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال "السكرتاه" من الميسر والقمار والمحرم بنص القرآن، فهو خروج عن مهيج الاستنباط المعقول، فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في الأحكام في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله، فما حرم الله فعله وجهلناه، حمدنا الله عليه وشكرناه. ا. هـ. عدد 63 ج1 وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو، كان مجملا، والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول.

كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر وقد حكى الجصاص وغيره أقوالا في تفسيره، فسقط الاستدلال بآية الميسر، ولم تقم له بها حجة لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع، ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة، ويلعبان لعبة، فمن غلب أخذ جميع المائتين كما

ص: 568

عنده الزرقاني في شرح الموطأ عدد 336 ج2 للحافظ في فتح الباري فانظره ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف لما نزل قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} وكان ذلك قبل تحريمه انظر الكشاف وحديثه في الترمذي1 حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة وما أبعده هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى.

3-

وأما من أفتى بأن صورة الضمان هي كفالة بجعل مستدلا بقول: خليل: أو فسدت بكجعل إلخ وبقول ابن القطان عن الأشراف الذي نقله الرهوني: أجمعوا أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا يحل ولا يجوز. ا. هـ. فهي فتوى لا تصح، أما أولا، فما نسبه للأشراف إن كان هو كتاب الأشراف على مذهب الأشراف ليحيى بن هبيرة الحنبلي، فهو بيدي، ولم أجد فيه الإجماع المذكور، ولعله كتاب الأشراف لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أو غيره، وأما ثانيا: فلا حجة في ذلك كله للفرق العظيم بين الصورتين، فصورتنا إنما فيها مال مكفول، وليس فيه كفالة ذمة لذمة، ولا جعل فيها أصلا لاتفاق المالكية أن الجعل لا يستحق إلا بتمام العمل، وهذا شيء تافه جدا يدفع مسبقا، ولا عمل هنا، فلا جعل، وإنما ذلك كالتبرع الاكتتابي يوضع في صندوق احتياط وتوفير كما سبق. وأما ثالثا: فإن المازري علل منع الضمان بجعل بعلل لا توجد هنا أصلا منها: أنه دائر بين أمرين ممنوعين إن أدى الغريم، كان له الجعل باطلا، وإن

1 أخرج الإمام أحمد "1/ 276، 303"، والترمذي "3191" من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} قال: غلبت وغلبت، قال كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنهم سيغلبون" قال: فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: أجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا، كان لنا كذا كذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألا جعلتها إلى دون"، قال: أراه، قال:"العشر" قال: فذلك قوله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قال: يفرحون بنصر الله.

ص: 569

أدى الحميل ورجع على المضمون، صار سلفا بمنفعة في صورتنا ومنها: أنه من بياعات الغرر، ونحن لا بيع في صورتنا، وكذا من علله بأن الضمان معروف لا يكون إلا لله، فذاك ضمان الذمم.

والذي أراه أن المنع ليس سوى تمحل في الدين، وإرهاق المسلمين حتى ينبذوا دينهم الذي هو صلاح لآخرتهم ودنياهم، وقد جرت العادة عند كثير من أهل الإفتاء إذا لم تكن خصومة أن يتظاهروا بالورع فيتسرعوا إلى فتوى التحريم بأدنى خيال شبهة جبنا وخوفا من التشنع، وظانين أن الورع إنما هو التحريم وهو ظن لم يوافق الواقع، بل الورع وراء ذلك وهو تحري روح التشريع الإسلامي، وما يوافق مبادئ الشريعة السمحة جوازا أو منعا ولا يصادم النصوص القرآنية والسنة الصالحة للاحتجاج ولا الإجماع ولا أشك أن بعض من أفتى بالحرمة قد يفعلونه، فالواجب عليهم أن يسلكوا بالأمة سبيل الرخصة التي سلكوها لخاصة أنفسهم؛ لأن الظن بهم أنهم ما تجرءوا على ارتكاب محرم تيقنوه، فلينظر العالم المفتي فعل غيره بالعين التي نظر بها فعل نفسه لا أزيد ولا أنقص ولا يغتروا بما وقع في فتاوى كثير من المتأخرين الفروعيين من تمحلهم لمعاملات جعلوها من باب الربا المحرم، ولا يكاد يفهم فيها قصد الربا لأحد المتعاقدين، بل لا يستبين وجه العلة التي استندوا إليها إلا بعد التدبر العميق، والحفر عنها بمعاول عظيمة، ولا شك أن التعمق في الدين منهي عنه في شريعتنا السمحة، فلنترك صعاب الشعاب جانبا ولنسلك جادة الدين اليسر وقد أوصى عليه الصلاة والسلام معاذا وأبا موسى الأشعري بقوله:"يسرا، ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا" 1 وليس سبيل التحري فيه هو في الدين والورع محصورا في تضييق الدين، بل سبيل التحري فيه هو أن يصيب روح التشريع الإسلامي المبني على حفظ ناموس الأمة وشرفها، واغتباطها بشرعها، وكونه موافقا مصلحتها، ولا يكون حجرة عثرة في سبيل رقيها مع المحافظة على المنصوص، والمجمع عليه، والأقدام على التحريم بغير دليل ليس

1 أخرجه البخاري "10/ 435" في الأدب، ومسلم "1732" في الجهاد باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.

ص: 570

بأهون من الإقدام على التحليل، وقد نهى الله عن الجميع سواء بقوله:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 1 الآية كما أن التساهل إلى حد انحلال الشريعة، والتلاعب بنصوصها ليس من سمة المسلمين بل هو مما نعى الله على بني إسرائيل.

ومن ذلك الذي يفتي بحلية معاملة البنوك التي هي الربا الصراح زاعما تقليده للحنفي الذي يجيز معاملة الربا مع الحربي وهو يعلم أنه لا يوجد في الوقت الحاضر حربي، وأن أوروبا لم تبق دار حرب ولا حنفي ولا مالكي يقول ذلك، ولربما جمع في فتواه بين هذين المتناقضين يبيح الربا ويمنع الضمان متساهلا في الأول، ومشددا في الثاني، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ولا أعجب من هذه الفتاوي في زمننا المظلم لأني رأيت فتوى للإمام السنوسي بحرمة القهوة التي هو البن المعلوم، وفتوى الإمام ابن غازي بطهارة ماء الماحيا الذي يصنعه اليهود شرابا لهم، ولكل من الإمامين وقع في الغلط بسبب معرفته ما أفتى فيه، فالذي حرم القهوة، علل الحرمة بعلل، منها الإسكار وهو لا وجود له فيها، ولا التفتير، ولا النشاط، ومنها ضررها بالبدن وكونها لم تكن في الصدر الأول، وهذا شيء لا يوجب الخرمة، كذلك ابن غازي زعم أن الماحيا لا تسكر، وهو غلط، والصواب إباحة القهوة، وحرمة الماحيا الخبيثة. وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور.

هذا وقد نص القرافي في الفرق 36 وغيره على أنه عليه السلام كانت له تصرفات من حيث إمامته العظمى وخلافته الكبرى، وتصرفات من حيث الفتوى وبالتبليغ. ا. هـ. فلأي شيء حمل المتأخرون من أصحاب هذه الفتاوى جميع أوامره عليه السلام فيما يرجع للمعاملات الدنيوية على الباب الثاني دون الأول الناظر إلى المصالح الدنيوية، ولأي شيء لم يحملوا أوامره ونواهيه المتعلقة بالأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والمساقاة والديون والشركة والسلف والقراض والمزارعة ونحوها على أوامر إرشادية سياسية من حيث إمامته العظمى الناظرة للمصالح الدنيوية مرتبة على مصالح حربية أو مدنية أو سياسية بحسب ما يقتضيه مقام كل

1 سورة النحل: 116.

ص: 571

أمر أو نهي وبحسب مقتضيات الأحوال فيما لم تظهر فيه نص ولا إجماع على التعبد، فتكون أحكاما مصلحيه سياسية صادرة من حيث ما له من الإمامة والخلافة مربوطة بمصالح تتغير بتغيرها، أو مربوطة بأعراف كذلك، ولا تكون ضربة لازب لا تتغير واجبة العمل ولو تغيرت الأحوال، ولو جلبت ضررا أو دفعت مصلحه.

والدين يسر "والله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه" كما أن أحكام المعاملات الدنيوية ليست كلها تتغير، بل بعضها فقط، وبهذا تتسع الشريعة على المسلمين في باب المعاملات لا العبادات ولا المعتقدات، فتلك أبواب لا مجال للمصالح فيها، ولكن بشرط أن لا نصادم نصا ولا إجماعا، ومثاله ما تقدم لنا في الجزء الثاني من نصب التماثيل للعظماء في الشوارع، ومنه مسائل الإرث، وأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وكون شهادة المرأة نصف الرجل ومسألة الحجاب، كل أولئك بنصوص صريحة أو إجماع، فلا مجال للاجتهاد في ذلك وأمثاله، ولا سبيل لتغييره وأن تغييره مروق من الدين، وثورة على رسل رب العالمين، وإنما كلامنا في المسائل الاجتهادية التي قال فيها المتقدمون بما يوافق زمنهم.

فمن أدرك منا رتبة الاجتهاد، فله أن ينظر فيها بما يوافق أحوال وقته أو في المسائل التي لا نص فيها كمسألتنا، فبهذا يتسع صدر نصوص الفقه وباتساعها تصير ذات مرونة صالحة لهذا العصر الذي تغيرت فيه قوانين العالم كله بما لا يلائم المخترعات والأحوال الوقتية التي لا سبيل لدفعها ولا مناهضتها، وما تجددت حال أو ظهر اختراع، أو تغيرت سياسة إلا وتراهم يغيرون قوانينهم لئلا تمنعهم من التقدم، ولئلا تكون حجر عثرة في طريق نهوضهم، فتوجب السقوط، وضياع المجد، والحياة والشرف.

ولربما كان هذا الجمود على الألفاظ والمألوفات والأحكام التي جعلت كلها تعبدية في باب المعاملات التي بنيت على جلب المصالح، ودفع المضار من أسباب سقوط الأمم الإسلامية، وفي الخير لربما كانت سببا نبذ بعض الدول للشرعية كليا

ص: 572

كما وقع أخيرا في تركيا1، ولو أن علماءها سددوا وقاربوا، لم يشددوا ولم يتساهلوا بل اعتدلوا، لكان خيرا وأصلح ولا يكفينا أن نقول للأمة والأجانب الطاعنين، أن شريعتنا صالحة للرقي صالحة لكل زمان ومكان لا تعوقنا عن التقدم، ثم إذا نزلت نازلة كهذه أحجمنا وجمدنا، وأقمنا دليلا واضحا على منقاضة أقوالنا، بل يجب أن نسلك سبيل الجد وطريق العمل بما هو صلاح أمتنا وشرف ملتنا، وقد أسلفنا شيئا من هذا التمهيد الثالث صدر الكتاب، وراجع ما تقدم في هذا الجزء حول هذا الموضوع.

ولقد كان علماؤنا العظام ينظرون إلى هذه الملاحظة، ويحملون كثيرا من أوامره ونواهيه عليه السلام في المعاملات على أنها من باب الأوامر من حيث الإمامة العظمى، فمن ذلك الحديث:"من أحيا أرضا ميتة فهي له" 2 مذهب مالك أنه تصرف منه عليه الصلاة والسلام بوصف الإمامة كما يصدر الإمام منشورا لعموم رعيته، فيكون أذنا عاما منه عليه السلام، بإقطاع كل موات لمن يحييه، فلا يحتاج لأذن إمام آخر بعده، وحمله أبو حنيفة وغيره على أنه تبليغ شرعي إلا هي، فقالوا: لا بد من إذن الإمام بعده أيضا في كل أرض أريد إحياؤها، ولكن حكم الحنفية بأن مجرد التصرف عشر سنين من غير منازع بشروطه المعلومة يثبت به الملك ولو يشترطوا أن يوجد أذن الإمام يقرب ما بين المذهبين، ومثل ذلك حديث "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" 3 مذهب مالك أن تصرف بوصف الإمامة وهو إذن خاص بغزاة حنين لمصلحة حربية اقتضاها الحال، فلا بد من إذن الإمام في كل غزاة وإلا رجع السلب للغنيمة التي هي

1 الذي وقع في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين من نبذ الشريعة كلا أو بعضا، كان لنبذ الإسلام اتباعا لأعداء الإسلام وموالاة لهم، من دون الله ورسوله والمسلمين.

2 حديث صحيح: أخرجه أبو داود "3037" من حديث سعيد بن زيد وإسناده قوي، وفي الباب عن عائشة أخرجه الطيالسي "1/ 3037" وعن سمرة عند أبي داود "3077"، وعن أبي أسيد عند يحيى بن آدم في "الخراج""729" وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني وفي إسنادها مقال.

3 أخرجه مالك "2/ 454"، والبخاري "6/ 177"، ومسلم "1751"، وأبو داود "2717" من حديث أبي قتادة.

ص: 573

الأصل، فيخمس، نعم كل إمام ظهرت له مصلحة إعطاء السلب للقاتل له ذلك قياسا على فعله عليه السلام، فيخرج من الخمس وحمله الشافعي فاعتبره تبليغ حكم شرعي، فهو عام للأمة فلا يحتاج لإذن الإمام بعد حيث تقرر حكما شرعيا إلهيا عاما أبديا، ولا يرجع سلب الغنيمة ولا يخمس أصلا.

ومن ذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأنسية1 فقد حمله بعض الأئمة على أنه ليس تعبديا، بل منع خاص من الإمام لمصلحة قلة الظهر في غزاة خيبر يعني فإذا كثر وأمنت مفسدة قلة الظهر، رجعت الإباحة، فالنهي إنما كان لأمر دنيوي، ودفع مفسدة وقتية يتغير بتغيرها.

وحمله الجمهور على أنه حكم تعبدي إلهي لا يتغير؛ لأنه متعلق بالأكل الذي هو أدخل في باب العبادة من غيره بدليل أنه أكفأ القدور ولم يؤكل ما كان بها من اللحم، وأمر بكسرها، ثم خفف، فأمر بغسلها فاعتبره نجسا وأمثال هذه كثير لمن يتبع أقوال العلماء المتبصرين من المتقدمين، وينظر فيها نظرا ناقدا نافدا.

قال عز الدين بن عبد السلام: السياسة الراجعة لأمور الناس، والمصالح العامة من أفضل الأشياء؛ لأن فيها جلب مصالح ودرء مفاسد. ا. هـ. نقله المسيلي في تفسيره لدى قوله تعالى:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} في سورة ص الآية: 35.

وهكذا يمكن أن يقال في كل حكم تبين لنا بالدليل الصحيح أن حكمته دفع مفسدة دنيوية أو جلب مصلحة لا دخل للتعبد فيها، وهذا خلاف ما نقلتم عن صاحب الموافقات الشاطبية من تضييقه بإدخال التعبد في كل الأبواب، لكنه لم يأت ببرهان يساعده على دعواه كما يعلم بالمراجعة وفي المجلد الثالث من إعلام الموقعين عدد 27 ما نصه: فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.

1 أخرجه البخاري "12/ 74" في الذبائح: باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم "1407" من حديث علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عمر والبراء وابن أبي أوفى وهي في الصحيحين.

ص: 574

هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلا رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل للجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، ثم ساق شواهده على ذلك وأطال النفس بما يشفي الأنفس فانظره.

ولقد نعى على الفقهاء الجامدين أكبر نعي كالقائلين بلزوم أن يقول البائع بعت والمشتري اشتريت، والمتعاقدان في النكاح: نكحت وأنكحت بالعربية ولو كانا من الفرس، أو البربر لا يعرفان العربية ولا يفقهان معنى ما نطقا به من تجويزهم قراءة القرآن بالفارسية، وتكبيرة الإحرام بها إلى غير ذلك، وكل هذا إما من الجمود على الألفاظ وعدم الالتفات إلى المعاني المقصودة من الأحكام، وإما من الإغراق في القياس والغفلة عن نصوص الشريعة ومقاصدها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

وانظر عدد 355 من الجزء الأول من "إعلام الموقعين".

ص: 575

تنبيه لكل نبيه:

مما يجب أن نصرح به في هذا المقام رفعا لكل إبهام أن أبواب المعاملات والأحكام الدنيوية هي جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية وركن من أركانها، ولا تجد بابا من أبواب المعاملات إلا وأصله مأخوذ من نصوص القرآن صراحة، وضمنا، وكملت السنة النبوية كثيرا منها، وباشر النبي صلى الله عليه وسلم القضاء والحكم بنفسه امتثالا لقوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 الآية وكمل الصحابة زمن الخلفاء فمن بعدهم أحكام ما نزل في زمنهم من النوازل بالاستناط حسبما أشرت إليه في القسم الأول والثاني من هذا الكتاب.

وهذا القسم الذي نشأ عن اجتهاد، ولم يقع فيه إجماع هو معترك العقول، ومحل الخلاف، وهو الذي يقبل التغير، ويتبع الأحوال المتجددة، ومن الجهل العظيم بالشريعة أن يزعم زاعم أنها مقصورة على أبواب العبادة.

ولعل الحامل لهذا القائل المبتدع ما لم يقله أحد هو ما رأى من تضييق بعض المتفقهة صدر الحنيفية السمحة بما يصيرها غير صالحة لهذا العصر ولا لكل الأمم وكلا الأخوين قد ضرا وقصرا في فهم الشريعة العامة الأبدية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هذا ما عن لي كتبه جوابا عن سؤالكم، والله ولي التوفيق.

1 سورة النساء: 65.

2 سورة المائدة: 49.

ص: 576