الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه:
لما ألفت المتقدمون دواوين كبارا كـ"المدونة" و"الموازية" و"الواضحة" وأمثالها، عسر على المتأخرين حفظها لبرودة وقعت في الهمم، فقام أهل القرن الرابع باختصارها، فأول من وقف عليه اختصر "المدونة" فضل بن سلمة الجهني الأندلسي المتوفى سنة 319 وكما اختصرها غيرها كما تقدم لنا في ترجمته، ثم في قريب من زمنه الإمام محمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي له مختصر مشهور، واختصر "المدونة" إلا الكتب المختلطة منها توفي سنة 341 إحدى وأربعين وثلاثمائة كما في "المدارك" ثم محمد بن عبد الملك الخولاني المعروف بالنحوي البلنسي الأصل، وسكن بجانة الأندلس الفقيه النظار له مختصر مشهور على "المدونة" توفي سنة 364 أربع وستين وثلاثمائة ذكره في "المدارك"1 ثم ابن أبي زمنين الذي اختصره "المدونة" في الأندلس كما اختصرها ابن أبي زيد في القيروان، وكانا في عصر متقارب.
فقيل: إن مختصر ابن زمنين أفضل المختصرات، واختصرها أيضا أبو القاسم اللبيدي بعده وغيرهم كما تقدم في تراجم هؤلاء الفقهاء كما اختصروا غيرها وتقدم في ترجمة ابن عبد الحكم أنه ألف مختصرا قبل ذلك، لكن الذي وقع تداوله بين الأعلام من مختصرات "المدونة" هو مختصر ابن أبي زيد السابق، ثم جاء البراذعي وألف "التهذيب" اختصر مختصر ابن أبي زيد، وأتقن تربيته، واشتهر كثيرا حتى صار من اصطلاحهم إطلاق لفظ "المدونة" عليه، ثم جاء أبو عمرو بن الحاجب واختصر تهذيب البراذعي في أواسط السابع، ثم جاء خليل في أواسط الثامن واختصره. وهناك بلغ الاختصار غايته؛ لأن مختصر خليل
1 "4/ 572".
مختصر مختصر المختصر بتكرر الإضافة ثلاث مرات، وإن أخل بالفصاحة، وكاد جل عبارته أن يكون لغزا، وفكرتهم هذه مبنية على مقصدين وهما تقليل الألفاظ تيسيرا على الحفظ، وجمع ما هو في كتب المذهب من الفروع، ليكون أجمع للمسائل، وكل منهما مقصد حسن لولا حصول المبالغة في الاختصار التي نشأت عنها أضرار.
فمنها أن اللغة لنا فيها مترادفات متفاوتة المعنى، وفيها المشترك والتراكيب ذات الوجهين، والوجوه مع حدوث لغة ثانية وهي مصطلحات شرعية، وعربية، فأصبحت الجملة الواحدة تحتمل احتمالات، فلما اختصروا أحالوا أشياء عما قصد بها، وتغيرت مسائل عن موضعها، وتقدم لنا ما انتقده عبد الحق الإشبيلي على مختصر البراذعي ثم ما انتقده شراح ابن الحاجب، وشراح خليل، بل حتى الشراح اختصر بعضهم بعضا، فوقع لهم ذلك الغلط. وكم في شروح التتائي والأجهوري والزرقاني والخرشي من ذلك حتى التجأ المغاربة لإصلاح أغلاطهم، ولذلك ألف مصطفى الرماصي وبناني والتاودي، وابن سودة، والرهوني حواشيهم لهذا الغرض.
وقد التزم ابن عاشر الفاسي نقل عبارة المتقدمين بلفظها في شرحه، وكذا المواق يشرح بنقل عبارتهم فقط، فحصل الطول وضاع الفقه الحقيقي، كما ضاع جل وقت الدرس والمطالعة في حل المقفل وبيان المجمل.
قال الإمام أبو عبد الله المقري: لقد استباح الناس النقل عن المختصرات الغربية، ونسبوا ظواهر ما فيها لأمهاتها وقد نبه عبد الحق في التعقيب على منع ذلك، وقد ذيلت تعقيبه بمثل مسائله، وانقطعت سلسلة الاتصال، فكثر التصحيف، وصارت الفتاوى تنقل عن كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها، وكان أهل المائة السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة اللخمي لعدم تصحيحها على مؤلفها.
والآن كثر ما يعتمد هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم اعتبار الناقلين،
فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كالأخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ كبار الأصول فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر خطه، وفأفنوا أعمارهم في حل رموزه، وفهم لغوزه، ولم يصلوا لرد ما فيه لأصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف والصحيح، بل حل مقفل وفهم مجمل.
فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه، ونقل عن شيخه الأبلي: لولا انقطاع الوحي، لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، إذ ذاك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في مشهورات كتب العلماء المستعملة فضلا عن كلام الله، وإنما هو بالتأويل، كما قال ابن عباس وغيره. ا. هـ. بخ نقله أو عبد الله الأندلسي في "الحلل السندسية".
ومنها: أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، فإذا ابن عرفة ألف مختصره مسابقا ابن الحاجب وخليلا في مضمار الاختصار، ففاتهما في الإغلاق في الاستغلاق، ولما كان يدرس هو منه تعريف الإجارة وهو قوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها.
وأورد عليه بعض تلاميذه أن زيادة لفظ "بعض" تنافي الاختصار، فما وجهه؟ فتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني بأنه لو أسقطها، لخرج النكاح المجعول صداقه منفعة ما يمكن نقله، وناقشه تلميذه الوانوغي وغيره بما يطول جلبه.
فتأمل وانظر أفكار الشيخ والتلاميذ التي اشتغلت هذا الزمن الكثير في حل عويصة وهي إقحام لفظ واحد لا أهمية له تفريعا ولا تأصيلا يومين، بل وبعده
اشتغل غيره أياما، ولا زلنا نشتغل كذلك، فذلك دليل أن الوقت ليس له عندهم ثمن، فالحمد لله الذي لم يتعبوا غيرهم فقط، والحمد لله الذي أخذوا حقهم مما أوقعونا فيه.
وأما من حيث المواد، وتقليل الأسفار، فقد وقع لهم غلط فيما أملوه وصرنا من جمع القلة إلى الكثرة، وذلك أن "المدونة" مثلا فيها نحو ثلاثة أسفار ضخام، وهي مفهومة بنفسها لا تحتاج لشرحها في غالب مواضعها لكن خليل لا يمكننا أن نفهمه ونثق بما فهمنا منه إلا بستة أسفار للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني الجميع اثنان وعشرون سفرا مع طول الزمن المتضاعف في الدروس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة فلم يحصل المقصود من الاختصار، بل انعكس الأمر، وأصبحنا في التطويل، فأصبح علم الفقه يستغرق عمر الطالب، والمدرس لا يبقى مع فراغ لعلم غيره لمن يريد إتقانه، وتوقي الغلط فيه والطامة الكبرى هي عدم الوثوق بما فهمناه؛ لأن الاختصار تذهب عنه متانة الصراحة، وتأتي مرونة الإجمال والإبهام والإيهام حى صار يضرب المثل لكل عبارة إجمالية تحتمل احتمالات، فيقال: عبارة فقهية أو عدلية.
وقد ختم المختصر بعض أشياخنا تدريسا في نحو أربعين سنة، ومع هذا فإنما يحرر الفروع، ويسردها مسلمة، وأما الاطلاع من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وعلة الحكم التي لأجلها شرع، وفهم أسرار الفقه، وما هناك من أفكار السلف، وكيفية استنباطهم ومداركهم، فكل ذلك فاتنا بفوات كتب الأقدمين الحلوية لذلك. ولقد فاتنا خير كثير، وقد كان تعليمه يعين على الملكة الصحيحة في الفقه، والفقيه الذي يستحق لقب فقيه هو العارف بذلك، أما الذي يسرد آلافا من مسائله غير عارف بأصلها فإنما حاك نقال.
ولقد كان أهل القرون الثامن والتاسع والعاشر يتبعون أكثر منا في تحصيل الفقه كانوا لا بد لهم من قراءة عدة كتب: تهذيب البراذعي الذي يقال له "المدونة" في تلك العصور، ومختصر ابن الحاجب وشروحه، ومختصر خليل وشروحه، وهكذا نجدهم في فهارسهم يذكرون كفهرسة الشيخ خروف التونسي الذي تقدمت
لنا ترجمته في المالكية، فإنه ذكر أنه قرأ الفقه بهذه المتون كلها وغيرها، وكذلك غيره من أهل ذلك العصر لقرب عهدهم بتأليف تلك الكتب وتداولها. وذلك محض تكرار ممل مضيع للعمر. أما نحن فقد صرنا خليليين بالمرة والحمد لله.
ومن الغريب في أحوال القرون الأخيرة أن النحو الذي لا تدعو ضرورة لإقامة أدلة على قواعده، افتعلوا له أدلة، فضخموه وصعبوه، والفقه الذي يتأكد بمعرفة أدلته، تركوها وضخموه بكثرة الاختصار، وكثرة المسائل النادرة، وإن إفناء العمر في المسائل النادرة التي تمضي الأعمار ولا تقع واحدة منها قليل الجدوى، وهي غالب ما زاده المختصر على "المدونة" على أن في "المدونة" من المسائل بل الأبواب النادرة الوقوع كثير وغير خفي أن الاشتغال في دراستها لمن ليس بحافظ، ولا يبقى على باله منها إلا القليل ضياع للعمر، فطلاب الفقه محتاجون إلى كتاب بين الصراحة واضح لا يحتاج إلى شرح جامع للمسائل الكثيرة الوقوع من كل باب دون الندارة أو المستحيلة، فبهذا تكون الدراسة والتعلم، وهذا الذي يفيد المبتدئين، بل والمتوسطين، وإن كثيرا من الناس تراهم يحفظون المختصر عن ظاهر قلب، وليسوا فقهاء، بل إذا احتاجوا في العبادة لمسألة راجعوا الشراح أو الفقهاء لعدم فهم ألفاظه إلا بشرح في كثير من أبوابه وتجد كثيرا من الناس فقهاء، ولا يحفظونه كما أن حفاظ القرآن نجدهم يحفظونه، وليسوا علماء لجهلهم بالنحو واللغة، وكم من فقيه لا يحفظ من القرآن إلا الضروري، لكن يدرك في عدم فهم القرآن علينا لتقصيرنا في تعليم اللغة التي نزل بها، ولكثرة التأويلات لتشعب الطوائف، والنحل أمن عدم فهم المختصر، فسببه هو المبالغة في الاختصار حتى صار لغزا لا يفهم ولو لعارف باللغة إلا بالشرح، فهو أصعب من القرآن ألف مرة وإني لا أنقص من قيمته، ولا أقول بتركه للمالكية العظام للفتاوي المقلدين لأنه ديوان وأي ديوان من دواوين المالكية العظام للفتاوي والأحكام، وقد أشار مؤلفه في أوله إلى أنه ألفه للفتوى لا للدرس حيث قال مختصرا مبينا لما به الفتوى، فلا يستغنى عنه ولا يترك، بل يدرس ويمرن عليه المنتهون ليستعينوا به في الفتوى والقضاء للحاجة
الداعية، إليه لجمعه من المسائل ما يندر أن يوجد في غيره، فربما تقع المسألة ولا توجد إلا فيه مع تحريره المسائل واتقانه، وتبيينه للمشهور المعتمد من القولين أو الأقوال.
أما المبتدءون والمتوسطون، فما أحوجهم للرسالة القيرواتية، وأمثالها وتقدم لنا ما هو أولى من ذلك كله من التمرن على الكتاب والسنة وكتب الإجماع والفقه القديم وبعد إملاء هذه الفكرة وقفت على مضمنها لملا كاتب جلبي في كتابه كشف الظنون طيب الله ثراه فانظر.
ولقد أرتأى السلطان سيدي محمد بن عبد الله إسماعيل هذا الرأي فأمر بترك تدريس المختصر، وألزمهم بالرسالة وأمثالها من كتب المتقدمين السهلة. لكن جاء ولده مولانا سليمان، فألزمهم الناس بالمختصر ثانيا، وأرى غير ما رآه الأول، فكان عمله هذا نظير ما عملت الدولة المرينية في ترك الاجتهاد وإلزام الناس بمذهب مالك والتاريخ يعيد نفسه، ولكن شتان بين العلمين والفكرين، وذلك كله تابع لتطور الأمم، وتطور الأزمان، ولله عاقبة الأمور.
وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" عند ذكر العلوم: أما فرض الكفاية فكل علم لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب وإذا هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة المواريث وغيرها، وهذه هي المعلوم التي لا خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد، ولا تعجب من قولنا: إنها فرض كفاية، بل الفلاحة والخياطة والحجامة، والحياطة أيضا، ولو سألت الفقيه عن اللعان والظهار والسبق والرمي، لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور، ولا يحتاج لشيء منها وإن احتيج إليه، لم يخل البلد عمن يقوم به، ويغفل ما هو مهم في الدين، وإذا روجع فيه، لبس على نفسه وعلى غيره بأنه مشتغل بفرض كفاية، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء الأمر بفرض الكفاية، لقدم عليه فرض العين، وكثيرا من فروض الكفاية، لم يقم بها أحد، فأصبحت عينا، فكم من بلد ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم إلا فيما يتعلق بالأطباء، من أحكام الفقه،
ثم لا ترى أحدا يشتغل به، ويتهافتون على الفقه، والبلد مشحون بالفقهاء، فليت شعري كيف يرخصون في الاشتغال بفرض كفاية قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به من سبب إلا أن الطب لا يتوصل به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال اليتيم، وتقلد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط على الأعداء، فهيهات هيهات قد اندرس الدين بتلبيس علماء السوء إلى أن قال: لا ينبغي لطلب العلم أن يدع فنا من فنون العلم المحمودة إلا وينظر فيها نظرا يطلع به على مقصوده وغايته، ثم إن ساعده العمر، طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالاهم منه، واستوفاه، فإن العلوم كثيرة والأعمار قصيرة، وبعض العلوم ترتبط ببعض، وأقل ما يستفيده الانفكاك عن عداوة ذلك العلم، فإن الناس أعداء ما جهلوا. ا
. هـ. وصدر كلامه في فرض الكفاية قد ألم به خليل في الجهاد وشروحه فانظره.
وقد ذكر السعد في "المواقف" والبيضاوي وغيرها أن من فوائد بعثة الرسل تعليم الصنائع للناس قال تعالى في حق داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} 1 وفي حق نوح عليهما سلام الله جميعا {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 2 يقول مقيده عفا الله عنه: إن الفتور أصاب الأمم الإسلامية عموما حتى في العلوم اللغوية والدينية، وسببه الوحيد فيها هو الاختصار والتواليف التي لم تبق صالحة للتعليم، ولا مناسبة لروح العصر، والواقع في الفقه هو الواقع في النحو والصرف والبيان والأصول حتى إن صاحب "جمع الجوامع" لتمكن فكرة الاختصار منه ادعى في آخره استحالة اختصاره، وكل العلوم وقع فيها ذلك وما أصابها في علومها أصابها في صنائعها وتجارتها وفلاحتها، وكل باب من أبواب الحياة، وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، فإن شاءت الأمة النهوض فلتبدأ باصلاح التعليم خصوصا اللسان وأقول: ليس بإنسان من لا قلم له ولا لسان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
1 سورة الأنبياء: 80.
2 سورة هود: 37.