الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقتداء المذهب بعضهم ببعض
…
اقتداء المذاهب بعضهم ببعض:
كالحنفي يصلي وراء المالكي وبالعكس:
قال خليل: وجاز اقتداء بأعمى، ومخالف في الفروع، وحكى حذاق الأصوليين إجماع الأمة على هذا كما قال المازري، ونقله في التوضيح ونحوه في "إيضاح المسالك" للونشريسي، ونظر ابن عبد السلام فيه بوجود الخلاف عند الشافعية، وقد فصل السبكي منهم، فقال: يجوز الاقتداء بالمخالف ما لم يعلم أنه ترك واجبا في اعتقاد الإمام أو المأموم فتبطل.
انظر ترجمة الشيخ علي السبكي في الجزء السادس من "الطبقات" والقول بالبطلان مما تمجه الأسماع، فإن الصحابة كان بينهم اختلاف معلوم، وكان بعضهم يقتدي ببعض وهكذا من تبعهم على أن الجواز عند المالكية هو مع مرجوحية، وما كان أحسن أن لا يقال بهذه المرجوحية؛ إذ المطلوب إزالة النفرة بين الأمة، وأبي الله إلا ما أراد.
سئل الشافعي: لم جاز أن يصلي المالكي وراء الشافعي وبالعكس وإن اختلفا في كثير من الفروع. ولم يجز أن يقلد مجتهد غيره في القبلة وفي الأواني، فلم يجب، وأجاب عز الدين بأن الجماعة مطلوبة للشارع، والمنع عن الاقتداء بالمخالف في الفروع يؤدي لتعطيل جماعات بخلاف الاختلافات في القبلة والأواني فهو نادر نقله شارح "اليواقيت الثمينة" على أن الشافعي يوجب البسملة والمالكي يقول بالكراهية، ولكن يقرؤها تحريا والحنفي يقول بعدم الوضوء من مس الذكر، ولا يفعله تحريا وخروجا من الخلاف، ولا يوجب نية في الوضوء، والمالكي يجزم ببطلان صلاة من مس ذكره أو توضأ بغير نية، والحنفي يقول
ببطلان صلاة من احتجم ولم يتوضأ، والمالكي والشافعي يريان صحتها، والحنفي يشرب النبيذ، والمالكي والحنبلي يحدونه بشربه، بل الأول لا يقبل شهادة شاربه ولو حنفيا، وكان أبو حنيفة يقول بحليتها تسننا، ولا يشربها تزهدا.
على أن مثل هذه الفروع هي التي أوجبت النفرة حتى قال ربيعة: كأن النبي الذي بعث في الحجاز غير الذي يتبعه أهل العراق كما سبق. قال سند: إنما صحب صلاة المذاهب المختلفة، لكونهم يتحرون فيخرجون من الخلاف، فالشافعي يمسح جميع رأسه، وإن لم يوجب إلا مسح شعرة واحدة، والحنفي يقرأ الفاتحة في كل ركعة وأن لم يوجبها إلا في واحدة1 وعندي أن هذا جواب بعيد، فإن الخروج من الخلاف نفسه إنما هو مستحب، ولهم أن يفعلوا.
والقول بمراعاة الخلاف عابه جماعة من الفقهاء اللخمي وعياض وغيرهما كما في "إيضاح المسالك" على أن يفعل واجبا ولم ينو الوجوب قد اختلف في أجزائه وعدمه، وتعصب أصحاب المذاهب معلوم ما وصل إليه، فهم يتعمدون خلاف المخالف، ولا يتحرى الخروج من الخلاف الورعون، وقليل ما هم، فالصواب صحة الصلاة مطلقا.
وأما قول ابن القاسم: لو علمت أن واحدا يترك القراءة في الأخيرتين، ما صليت وراءه، فهو مقابل، ثم المسألة مبسوطة في الفوق "76" عند القرافي، وزادها بسطا العياشي في العدد 270 من ج2 في رحلته، وحصلت فيها أربعة أقوال، وليتها كانت قولا واحدا، وهو ما حكى المازري عليه الإجماع.
وقال العياشي: إنه الأقرب، كان الأمير محمود بن سبكتكين حنفي المذهب، وانتقل إلى مذهب الشافعية لما صلى القفال بين يديه صلاة لا يجوز الشافعي دونها، وصلاة لا يجوز أبو حنيفة دونها، وقد ساق الحكاية القفال في فتاويه، وحكاها بعده إمام الحرمين وغيره كما في "الطبقات السبكي" في ترجمة
1 الذي في كتب الحنفية أن قراءة الفاتحة واجبة في الركعتين الأولين من الفرض وفي جميع ركعات النفل والوتر، انظر "الدر المختار" وحاشيته "1/ 321، 323".
محمود بن سبكتكين1.
ومن يطالع طبقات السبكي يعلم مقدار ما حصل في القرون الوسطى من التعصب للمذاهب حتى إن أبا المظفر السمعاني قال: إن سبب رجوعه عن مذهب الحنفية على طول مناظراته فيه ثلاثين سنة أنه رأى ربه في المنام، فقال له: عد إلينا أبا المظفر فاستيقظ، ورجع إلى مذهب الشافعية.
وانظر ترجمته تعلم مقدار التعصب المذهبي في تلك العصور، وتعلم أن قولهم خلاف العلماء رحمة لما كانت الأخلاق مهذبة في الصدر الأول زمن الصحابة ومن بعدهم كمالك وابن حنبل وأضرابهما لا في هذا الزمن الذي ظهر فيه التعصب فقد صار الخلاف فيه نقمة وسبب الفرقة، كما أشار العياشي في الرحلة قائلا: من طاف الحجاز والعراق والشام وديار المشرق، ونزلت به نازلة أو نوازل في دينه يأنف أن يسأل من هو شافعي، فيعمل عن جهل، أو يسأل عاميا مثله، فيقول: قد رأيت سيدي فلانا أفتى مثل ما وقع لك بكذا وكذا، فيعمل بقول ذلك العامي الذي لا علم له يميز به بين المماثلة والمخالفية، وهذا ضلال كبير. ا. هـ.
وكم من عالم في الشام وغيرها أريد توظيفه في بلد أهلها حنابلة في الفتوى مثلا، فيلزم أن ينتقل من مذهبه الأصلي كالشافعي، ويصير حنبليا كي يكون مفتيا مع أن هذا سهل لا بأس به، ولكنه من أدلة ما كان لهم من التعصب الذميم. وهناك بالمشرق أوقاف خاصة بالشافعية، وأخرى بالحنفية مثلا ومدارس لا ينال التدريس بها إلا من كان مقلدا لأحد المذاهب الأربعة ووظائف كذلك من قضاء وفتوى، فكان هذا العمل مما أوجب بقاء العلماء مقلدين ولو بلغوا درجة الاجتهاد، وقد أشار أبو زرعة العراقي في شرح "جمع الجوامع" إلى أن الإمام السبكي الكبير بلغ رتبة الاجتهاد وما منعه إلا شيء من ذلك، ولله در الشعراني إذ يقول: إن أعدى عدو للإمام المهدي عند خروجه هم الفقهاء؛ لأنهم مقلدون
1 هذه الحكاية غير صحيحة من أصلها، ومحمود بن سبكتكين من فقهاء الحنفية وله تأليف في الفقه الحنفي منها التفريد وهو غاية الجودة وكثرة المسائل كذا في "الجواهر المضية""2/ 157".
يعتقدون الحق في أئمتهم قد انحصر، معتصبون لهم، وهو مجتهد، ووزراؤه مجتهدون وهو فرع ظريف ناشئ عن فكر لطيف، وإغاظة لقول بعض الحنفية إن الإمام المهدي يتمذهب بمذهبهم.
فانظر إلى هذه الهذيانات التي شغلت أفكار الأمة، وقد اقترح أبو سالم العياشي في رحلته أن لو اجتمعت لجنة من المذاهب الأربعة، وحررت كتابا لكل مذهب ببيان المشهور من أقواله تقليلا للخلاف، وأطال في ذلك الاقتراح، فانظره، ولكن ذلك زمان مضى بما فيه، وظهرت الأدلة واتضحت، تبين أن لكل وجهة، وفي كل متمسك، وما أبعد اتفاق المتفقهة أو اجتماع فكرهم حتى على ما هو المشهور عندهم، فالواجب علينا أن لا نسعى وراء توحيد المذاهب؛ لأنه أصعب شيء يعانيه المصلحون بل يجب أن نطرح التعصب، ونعتبر أن كل مذهب فيه صواب وخطأ لم يتعمده قائله، ولكن أداة إليه اجتهاده، ولم تتعين لنا ما هي مسائل الخطأ من الصواب في كل مذهب، وأن المخطئ معذور بالاجتهاد، مأجور على ما بذله من الجهود في إصابة روح التشريع واعتقاده صواب رأيه، ففي الصحيح عن عمرو بن العاص مرفوعا؛ "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد" 1 فلتطرح الأمة عنه التعصب، ولتكن مذهبا واحدا وهو اعتبار جميع المذاهب، والأخذ من كل مذهب بما يوافق الأدلة، ويناسب روح العصر، والوقت والحال والمكان والضرورة؛ لأن تقليد الضعيف عند الضرورة سائغ للجميع، ويروى "إن اختلاف الأمة رحمة" وإن كان الحديث ضعيفا2 فاختلاف مذاهب الفقهاء مفيد لنا إذا كنا نريد أن ننهض متمسكن بالشريعة غير متعصبين للمذاهب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والنهضة الحقيقية للأمة والفقه هي أن يوجد في الأمة فقهاء مستقلون في الفكر مجتهدون ويأخذون الأحكام من الكتاب والسنة رأسا، عارفين بهما معرفة كافية لكل خلاف وتقليد.
1 أخرجه البخاري "13/ 368" في الاعتصام، ومسلم "1716" في الأقضية بلفظ "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر".
2 أورده نصر المقدسي في كتاب "الحجة" ولم يذكر سنده ولا صحابيه والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند قال السبكي: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع.