الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده:
قال الإمام النووي في شرح "المهذب": إن الاجتهاد نوعان: مستقل وقد فقد من رأس المائة الرابعة، فلم يمكن وجوده، ومجتهد منتسب وهو باق إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، ولا يجوز انقاطعه شرعا لأنه فرض كفاية ومتى قصر أهل مصر حتى تركوه، أثموا كلهم، وعصوا بأسرهم، كما صرح به الماوردي والروياني والبغوي، وغيرهم. قال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، والذي يظهر لي أنه يتأدى فرض الكفاية في الفتوى، وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. ا. هـ. نقله الألوسي في "جلاء العينين".
وفي "إعلام الموقعين"1 في الوجه الحادي والثمانين من أوجه الرد على المقلدين: إن المقلدين حكموا على الله قدرا وشرعا بالحكم الباطل جهارا، مخالفا لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحجة، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلئي، وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي والثوري، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، وقال طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه، ويكون له وجه يفتي، ويحكم به ممن ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث
1 "2/ 256".
مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن سريج والقفال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات، كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد وغيره.
واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولا يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه، فإن وافقه، حكم به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض، والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما مبلغها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة1:"ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به" 2 وأنه "لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها" 3، ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم، فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاد من القول الموافق لكتاب الله وسنة نبيه، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه؟ فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صحابي ويقال لكم: فإذا كان لا يسوغ الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك من أين ساغ لك وأنت لم توجد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده، ويلزمك أن أشهب وابن الماجشون ومطرفا وأصبغ
1 وهم ابن القيم رحمه الله هنا في نسبته إلى رسول الله، فإنه من قول علي رضي الله عنه، كما ذكره هو نفسه في "إعلام الموقعين""4/ 12".
2 أخرجه مسلم "3/ 1524" في الإمارة من حديث معاوية مرفوعا بلفظ "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من ضلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
3 أخرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح وقد تقدم.
وسحنونا وابن المعذل وطبقتهم لما انسلخ آخر يوم من ذي الحجة سنة 200 واستهل محرم بعده سنة 201 حرم عليهم ما كان مطلقا لهم من الاختيار.
ويقال للآخرين: أليس من المصائب، وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد لمن ذكرتم من أئمتكم دون حفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة نبيه، وأقوال أصحابه كأحمد بن حنبل والشافعي، وإسحاق والبخاري، وداود الظاهري ونظرائهم من سعة علمهم وورعهم، واتفاق الإسلام على احترامهم واعتبارهم، وأطال في ذلك فانظره.
وقال في "جمع الجوامع": ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافا للحنابلة مطلقا، ولابن دقيق العيد، ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها جاز الخلو عنه، والمختار لم يثبت وقوع الخلو عنه، وقيل: يقع دليل عدم الوقوع حديث "الصحيحين" بطرق: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله" 1، كما صرح بها في بعض الطرق، وقال البخاري: هم أهل العلم أي: لابتداء الحديث في بعض الطرق بقوله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
ويدل للوقوع حديث "الصحيحين" أيضا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" هذا لفظ البخاري2، وفي مسلم حديث:"إن بين الساعة أياما يرفع فيها العلم، ويترك فيها الجهل"3.
1 أخرجه البخاري "1/ 150، 151" في العلم، ومسلم "1037"، "3/ 1524"، من حديث معاوية قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" وأخرجه البخاري "13/ 249" ومسلم "1921" من حديث المغيرة، وأخرجه مسلم "1920" من حديث ثوبان.
2 "1/ 174، 175" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاس، وأخرجه مسلم "2673".
3 أخرجه مسلم "2672" من حديث عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري.
ونحوه حديث البخاري: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" 1، والمراد برفعه قبض أهله. ا. هـ. ممزوجا.
وبعدما حكى خليل في "التوضيح" القولين في جواز خلو الزمان عن مجتهد، قال: وهو عزيز الوجود في زماننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف بزماننا، وهو في زماننا أمكن لو أراد الله الهداية بنا؛ لأن الأحاديث والتفاسير قد دونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لا بد من قبض العلم. فإن قيل: يحتاج المجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع والخلاف وهو متعذر في زماننا، لكثرة المذاهب وتشعبها، قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها؛ لأن القصد أن يحترس عن مخالفة الإجماع وهو ممكن. ا. هـ. على نقل الاختصار في باب القضاء.
وفي رسالة "الإنصاف" ما نصه: وقد انقرض الاجتهاد المطلق المنتسب في مذهب أبي حنيفة بعد المائة الثالثة، وذلك لأنه لا يكون إلا محدثا جهيرا واشتغالهم بعلم الحديث قليل قديما وحديثا، وإنما كان فيهم المجتهدون في المذهب، وهذا الاجتهاد هو الذي أراده من قال: أدنى شروط المجتهد أن يحفظ "المبسوط" قال: وقل المجتهد المنتسب في المذهب المالكي وكل من كان منهم بهذه المنزلة، فلا يعد تفرده وجها في المذهب كأبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي بكر بن العربي. ا. هـ. قال مقيده: وليس كما قال فأمثال ابن العربي، وابن عبد البر عندنا كثير، بل أعظم منهم، كابن القاسم، وأشهب، وسحنون، وابن حبيب، ثم ابن أبي زيد، وابن اللباد، والقابسي، ثم ابن رشد، وابن يونس، واللخمي، والمازري، وعياض، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، وأقوالهم معدودة من وجوه المذهب المالكي، معمول بها معتمدة، ولو انفردوا، غير أن الإمام مالكا حصلت له شهرة طبقت العالم الإسلامي في وقته، ورفعت إليه الأسئلة من أطراف المعمور، وعمر عمرا طويلا، ففرع كثيرا، وتكلم في سبعين ألف مسألة أو أكثر. وقد تقدم في ترجمة أبي بكر بن
1 أخرجه البخاري "1/ 162"، ومسلم "2671" كلاهما في العلم من حديث أنس ابن مالك.
عبد الله المعيطي أنه جمع هو وأبو عمر الإشبيلي أقوال مالك وحده التي صدرت الفتوى عنه بها فكانت مائة جزء، ولذلك ملئت الدفاتر بما نقل عنه من الفقه بما كفى عن أقوال أتباعه في كثير من المسائل مما لم يرو عن الشافعي ولا ابن حنبل اللذين لم يعمرا كعمره، ولا حصل لهما من الشهرة ما حصل.
وقدمنا في ترجمة البيهقي من الشافعية أنه جمع أقوال الشافعي في إحدى عشرة مجلدة، فإذا نسبنا الفقه المروي عن الشافعي الذي هو أشهر فيه من ابن حنبل، كان نحو العشر من فقه مالك رحمهم الله، فكان يكفي من انتسب إليه أن يحفظ فتاويه مع أنه لهم اختيارات وإضرابا عن أقواله، فكم خالفه أشهب وابن القاسم، بل واللخمي والمازري كما في تراجمهم، وأقوالهم معدودة من المذهب، وكثيرا مما تتبع، ويترك نص الإمام لتبين حجتها، ورجحان دليلها، فلولا أن من بعدهم بلغ رتبة الاجتهاد ما رجحها وترك قول الإمام، والمتحصل مما تقدم أنهم لم يقطعوا بوجود المجتهد المطلق المستقل من رأس المائة الرابعة مع إمكان وجوده خلافا للنووي، وقال الحنابلة بعدم خلو الزمن منه إلى وقوع علامات قيام الساعة، أما المنتسب، ومجتهد المذهب، فقد علمت وجوده إلى المائة الثامنة، ويمكن وجوده، بل ووجود المجتهد المنتسب والمستقل الآن، لتوفر مواد الاجتهاد، والناس هم الناس، ولا مانع منه عقلا ولا شرعا بل يجب على علماء الأمة القيام بالاجتهاد المطلق المستقل؛ لأنه فرض كفاية كما قال ابن الصلاح وغيره، فأحرى مجتهد الفتوى.
قال الإمام السنوسي في شرح مسلم، عن أبي عبد الله بن الحاج: عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد أن يأخذ منها فوائد خصه الله بها لتكون بركة هذه الأمة إلى قيام الساعة، قال عليه السلام:"مثل أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خيرا أو آخره"1.
1 حديث صحيح: أخرجه أحمد "3/ 130، 143" والترمذي "2873" عن أنس، وأخرجه أحمد "4/ 319" عن عمار بن ياسر، وصححه ابن حبان، وأخرجه أبو يعلى عن علي، والطبراني عن ابن عمر، وابن عمرو.
وقال سيدنا علي كرم الله وجهه كما في الصحيح: "لم يترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، أو فهما أوتيه رجل مسلم"1 وقال الشيخ أبو مدين: للقرآن نزول وتنزيل، فأما النزول، فقد مضى، وأما التنزيل فباق إلى قيام الساعة وأما قوله:
لم يدع من مضى للذي غبر
…
فضل علم سوى أخذه بالأثر
فإنها خيال شاعر ليست حجة عقلية ولا شرعية، أوجبها تأخر الأفكار الإسلامية وركونها للجمود، وقد قال فيه اليوسي في القانون: إنه لا أضر بالعلماء والمتعلمين منه، وتحجير لفضل الله الذي لم يوقت بزمان ولا مكان، ويقابلها قول الشاعر الذي صدقه الأوائل والأواخر:
كم ترك الأول للآخر
قال زروق في "قواعده" قاعدة: أن النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} 2 وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فرد الله عليهم بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} 3 فلزم النظر لعموم فضل الله من غير مبالاة بزمن ولا شخص إلا من حيث ما خصه الله به إلى آخر كلامه.
وقال أيضا: إذ حقق أصل العلم، وعرفت مواده، وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم مبذولا بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كان له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخرين أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل أحد.
1 أخرجه البخاري "1/ 182" في العلم: باب كتابة العلم، وانظر مسلم "1978"، "45" و"1370".
2 سورة الفرقان: 33.
3 سورة الزخرف "23، 24.
وفي "التسهيل": وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر فهمه على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن حميد الأوصاف، وأشار إلى هذا المعنى في خطبة "القاموس" مستدلا بقول المبرة: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا بحدثانه يهتضم المصيب ولكن يعطي كل ما يستحق.
وفي "المعيار" عن الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق أنه كتب على قول عصريه الخطيب الغبريني التونسي: لم يكن بمغربنا هذا كله من القرن الخامس فضلا عن الثامن مجتهد في الأحكام الشرعية مستقل: ما نصه: أما الاجتهاد في الفروع المذهبية، فما خلت منه البلاد، ولا عدمته هذه الأمة، وهذا سبيلك يا سيدنا الخطيب ومن أجله تصدرت، وبه اشتهرت، ولولا النظر في ترجيح الأقوال، والتنبيه على مسالك التعليل، ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول، وإيضاح المشكل، وتقييد المهمل، ومقابلة بعض الأقوال ببعض، والنظر في تقوية قويها، وتضعيف ضعيفها لتعطلت الدروس، وخلت المدارس، وأي فائدة للمدارس غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطالب ولو لم يكن وظيف إلا سرد الأحكام، ونقل الأقوال، لما افتقر إلى المدارس مفتقر، وهل يجري على تدريسك ولسانك صباحا مساء غير هذا بحثا وإلقاء.
إلى أن قال: وقد وقع البحث في هذه المسألة بين علماء الديار المصرية أيام مقامي بها كقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وشمس الدين الأصبهاني الدمشقي، وتاج الدين التبريزي ونظرائهم من فحول العلماء، وكبار الأئمة وحفاظ المحدثين، فاتفق رأيهم على أن هذا القرن لم يخل من مجتهد، ولا نقطع بنفيه لاتساع أقطار الأرض، واختلاف أنظار العلماء، وما يصدر عنهم من التصانيف والاختيارات الدالة على ذلك. ولا يتوصل إلى القطع إلا بالاستقراء، واتفقوا على أن الإمام عز الدين بن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا هذه
الدرجة، وذكر بعضهم أن ابن الزملكاني1 الدمشقي بلغ هذه الدرجة من أهل المائة الثامنة، وأثبتها والد الغبريني لأبي القاسم بن زيتون من أهل القرن السابع، وأثبتها بعض أشياخنا لأبي عبد الله بن شعيب، وابن أبي الدنيا، وأثبتها جماعة لناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد المشذالي وغيرهم ومن رأى تآليفه وما يصدر عنه من الفتاوى والأجوبة في فنون متباينة، لم يبعد عنه إدراك هذه المرتبة. ويرحم الله بعض أئمتنا إذ يقول: نحن في زمان ثبت بالدليل الواضح فساده، ومن فساده جحد أهله الفضائل، لغلبة الحسد وعدم الإنصاف، فلا يعترف لصاحب هذه المرتبة بها ولو كانت حليته، ويرحم الله ناصر الدين بن المنير إذ يقول: فضل الله واسع، فمن زعم أنه محصور في بعض العصور، فقد حجر واسعا ورمي بالتكذيب، والليالي حبالى تلدن كل غريب.
وإذا تأملت ما نفاه الغبريني من الاجتهاد باستقلال مع ما أثبته ابن مرزوق من الاجتهاد المذهبي لم تجد بينهما خلافا وقد جنح الشيخ أحمد بن عبد السلام بناني في "الروض المعطار" إلى إثبات هذه المرتبة لسيدي عمر الفاسي، وسيدي العربي الفاسي، والشيخ الطيب بن كيران من أهل أوائل القرن الثالث عشر الفاسيين، وقد ادعاه بل الاجتهاد المستقل في القرن الماضي أيضا الإمام محمد الشوكاني اليمني الصنعاني، فتألب الزيدية ضده في اليمن، وعدوا إدعاءه خرقا لمذهبهم، ووقعت فتنة بينهم، ثم رجعوا وسلموا أذعنوا لما رأوا من علمه كما ذكر ذلك من ترجموه فيما طبع أول الجزء الأول من "نيل الأوطار".
وممن كان يحوم حوله العالم الهندي في القرن الماضي الأمير النواب سلطان بوهبال محمد صديق خان بهادر، وتقدمت لنا ترجمتهما، ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر
1 لعله محمد بن علي بن عبد الواحد بن الزملكاني الذي قال فيه الذهبي، أنه بقية المجتهدين، وتقدمت ترجمته في الشافعية "المؤلف".
حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبيعيات ورياضيات وفلسفة، وظهر المخترعون والمكتشفون والمبتكرون كالأمم الأوروبية والأمريكية الحية، عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون.
وقد قدمنا أن الاستبداد ماح أو مضاد للاجتهاد وحرية الفكر إذ هي من دواعي الاجتهاد، ولا شك أن الأمم الإسلامية لا تشغل مقاما ساميا بين الأمم ما دامت ناقصة في هذه الميادين، وهي محتاجة لمجتهدين بإطلاق، عارفين بعلوم الاجتماع والحقوق يكون منهم أساطين لسن قوانين دنيوية طبق الشريعة المطهرة تناسب روح العصر، وتنطبق على الأحوال المتجددة والترقي العصري كما يوجد عند سائر الأمم لجان من الفطاحل المشرعين في مجالس النواب والشيوخ لهذا الغرض، كان مجلس شورى أبي بكر وعمر قدوة لهؤلاء، فلنسر رويدا في إحياء مآثر سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولا عبرة بأمة لم تعرف حقوقها فتحفظها ولم تأمن عامتها شر خاصتها فذهبت حقوقها، وضاعت ثروتها بين المرتشين والمداهنين، والله يقول لنا:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} 1 وما جعلنا خير أمة إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه مسألة حياة أو موت، وهي واسعة الأكناف، وفي هذه الفذلكة مقنع، وقد أطلت في هذه المقام؛ لأن جل أهل العصر تمكن اليأس من قلوبهم، والجمود من أفكارهم، فيحيلون أن يأتي في الزمان مجتهد، ويظنون أن هناك شروطا لا تمكن، ولا يتصور مع فقدها وجوده. وقد وضعنا أمامكم شروطه، والمواد التي يمكن بها الاجتهاد، ومن وصف به من العلماء لتعلم أن هذه رتبة ممكنة متيسرة سهلة الآن أكثر مما قبل الآن، وإنما المفقود أمران:
الأول: عزيمة الطالب على إدراكها، فإذا عزم، ومرن نفسه على استقلال فكره، وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين، وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة، وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه كما كان أهل القرون الأولى يفعلون إذ كانوا
1 سورة النساء: 135.
يتمرنون على فهم البخاري وتراجمه وأحاديثه، وأحاديث مسلم و"الموطأ" والأم" للشافعي، وفقه أبي حنيفة، ومسند أحمد، وأمثالهم، فإذا رجعنا لما كان عليه المجتهدون في كيفية تربية ملكاتهم صرنا مجتهدين مثلهم.
الأمر الثاني: رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة وترك السفاسف لتوجد الخصلة العزيزة وهي النزاهة التي تحصل بها الثقة العامة كما كانت حاصلة بالمجتهدين، فالذي فقد أو كاد هو الثقة وعليه فإنما يعز وجود شرط في الاقتداء لا في الاجتهاد وهو الأمانة التي تنشأ عنها الثقة.
أما شروط الاجتهاد، فليست بصعبة، ورأى بعضنا من علماء الوقت لا مانع من توفر تلك الشروط فيهم، وفضل الله غير محجر، بل يجب عليهم رفع همتهم والنهوض لإدراك هذه المرتبة، ونفض غبار الذل عن رءوس أهل العلم، وعليك أيها الناظر المتعطش أن تنظر ما كتبه في "إعلام الموقعين" مناظرة ثمينة على لساني مقلد ومجتهد وأدلتهما، فانظرها واستوعبها، ولا بد لترشد إلى الحق.
هذا وإن ما قدمته إنما هو الاجتهاد ليعمل الإنسان في خاصة نفسه، فإنه إذا تبين له الدليل، وجب عليه نبذ التقليد، أما الأحكام القضائية في الحقوق من بيع وطلاق وملك واستحقاق أو أي عقد كان، والإفتاء للغير فالصواب أن لا نشغل أنفسنا بالأماني والخيال، بل علينا النظر للحقائق الراهنة، واعتبار أحوال أهل زماننا الحاضرة وأن نربي رجال الاجتهاد للمستقبل، أما المعول عليه الآن فهو ما عليه الناس من التزام مذهب معين كمالك والشافعي أو غيرهما ممن ظهرت أمانته ومتانة أقواله، وحسن نظره، فلا معدل عن الراجح أو المشهور، أو ما به العمل لقلة الأمانة في الوقت الحاضر؛ إذ لو فتح باب الاجتهاد، لأطلقنا طغمة القضاة على كل تقييد ولاستباحوا أكثر مما ما استباحوا مما وهو واقع مشاهد.
لا سيما وباب الحيل قد فتح من قبل مع رقة الديانة، وذهاب الأمانة، ففي القرون الوسطى تحيلوا في إسقاط حد الزنى بالأم والخالة والعمة بأن يعقد عليهن زواجا، وفي إسقاط حد السرقة أن يدعي أن المسروق منه عبده، وأمثال هذا كثير
فكيف بزمانا هذا الذي لم يبق من الدين إلا اسمه. ولقد رأينا الذين يريدون فتح باب الاجتهاد بالفعل من المتفقهين الآكالين للسحت أول ما يبحثون فيه من المسائل أنهم لم يجدوا نصا على نجاسة الخمر، ولا على حرمة شحم الخنزير، وربما زادوا بعره وشعره، ولم يجدوا نصا على حرمة مس المصحف للجنب، وأمثال هذه الفتاوى التي تظهر منها مقاصدهم الصبيانية، فلا معدل لنا عن قول ترجح بتحقيق أمانة قائله إلى قول من هو مشكوك فيه، ومن أين لنا حصول درجة الاجتهاد الآن مع كثرة الدعوى من أهل الجهل المركب، فالصواب والحق هو بقاء الناس على التقليد في الفتاوى وأحكام الدعاوي، بل زيادة التضييق فيه والضبط لتنضبط الحقوق إلا ما سبق في ترجمة جواز الخروج عن المذهب لضرورة أو مصلحة الأمة، أو في عمل الإنسان في نفسه والله المستعان.