الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجمل التاريخ السياسي
للمائة الثالثة والرابعة:
إن في أول المائة الثالثة كانت دولة بني العباس في عنفوانها وعلى رأسها الخليفة المأمون بن الرشيد فتى العلم، والمؤسس لنهضته العامة في الإسلام ولم يلحقه خليفة في الولوع بالعلم ونشره، وهو الذي نشط العلماء للإكثار من ترجمة كتب فلاسفة اليونان والروم والهند، وابنتى المدارس، والمستشفيات للطب والحكمة، وشيد المراصد للنجوم، وظهرت في زمنه الفلسفة العقلية في الإلهيات والنبوءات التي أدت إلى حدوث انشقاق في علماء الأمة زيادة عما كان من انشقاق الخوارج والشيعة، فقد انحلت طائفة الخوارج إلى مذهب الاعتزال، وأيدهم المأمون لكونهم ضد الشيعة في كثير من مبادئهم وخرافاتهم، ليقلل من قيمة الشيعة التي كانت للعلويين ضد بني العباس، فأدخلوا في العقائد التي يجب اعتقادها في حق الله وحق الرسل الفلسفة العقلية التي اقتبسوها من الكتب المترجمة عن الأفكار اليونانية والرومانية، وتجرءوا على الكلام في ذلك بما أتوا من المهارة في الفلسفة المذكورة، وكشفوا القناع للكلام فيما كان السلف لا يتجرءون عليه، ويقفون عند حد التسليم والتفويض.
وأهم المسائل التي خالف بعض المعتزلة فيها هي القول بنفي القدر، وأن الله لا يعلم الأشياء قبل إيجادها، ولا يقدرها وأن الأمر أنف1.
والثانية2: القول بخلق القرآن أما الأولى، فحدثت قبل هذا التاريخ
1 أي: مستأنف لم يتقدم فيه قدر ولا مشيئة، يقال: روضة أنف: إذا لم ترع.
2 قال عبد الرحيم بن محمد الخياط المعتزلي في كتاب الانتصار له: ليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول الأصول الخمسة التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ا. هـ. منه مؤلف.
بالبصرة قالها معبد الجهني وهي مكفرة لمن قالها بلا نزاع، ولم يقل بها المأمون بل انقرض القائلون بها، وإنما الذي حدث أيام المأمون القول بخلق العبد أفعال نفسه، وهي بنت المقالة السابقة، ولم يقلها المأمون أيضا.
نعم قال بخلق القرآن، وبسبب ذلك تشعبت مذاهبهم، وكثر الجدال وظهر التعصب المذهبي حتى أدى لسب السلف الصالح، وصار لكل فرقة فقه وأحكام لا تقول بما يخالفها، فجاء المتوكل بعده، وانتصر للسنة، وأوقع المحن بالمعتزلة، وقضى على مذهبهم، ولو أن الخليفتين تركا الحرية التامة لأهل العلم، فأطلقوا عنان أفكارهم في البحث عن الحق لظهر، ورجعت الطائفتان إلى وفاق، فتداخل أهل السياسة في أمثال هذا هو سدل لجلباب الليل على الحقائق، وسد حاجز عن تقدم العلم، كذلك بداخل العوام مع العلماء في هذه الميادين، كما أن العلماء لا يستعينون بالخلفاء أو العامة إلا إذا قصرت خطاهم، وخافوا ظهور خطئهم.
وفي أيام المأمون بدأ انحلال العصبية العربية، وكمل ذلك في عهد الواثق الذي لم يبق في ديوان جنده جندي عربي، وصارت العصبية فارسية؛ إذ كان المأمون معاشرا لنشأة فارسية مع أن هذا بدا في أول دولتهم؛ إذ كانت العصبية التي اعتمدت عليها في قلب الدولة الأموية هي الفرس بخراسان وغيرها تحت إمرة أبي مسلم الخراساني كما هو معلوم.
ثم في أيام أخيه المعتصم بعده تحولت إلى عصبية الموالي من الترك، واستولى الترك على المملكة العربية، فزاد اختلاط اللغة وهو أعظم سبب في انحطاط الفقه وإن بقي للعرب انتشار اللغة المختلطة والرئاسة الدينية للخلفاء، ولم يبق بيد الخليفة إلا الأمور الرسمية، وأبهة الخلافة والقصر في القصر، وتم ذلك في دولة المنتصر الخليفة الحادي عشر منهم، وكان حصر افتراق آخر أيام الرشيد قبل ذلك حيث اعترف بدولة بني أمية في الأندلس، وأعطى الاستقلال الداخلي لبني الأغلب اختيارا منه بل زرع جذور دولتهم بيده، وجعل الإمارة فيهم وراثية حيث عجز عن اخضاع خوارج أفريقية.
ففي العشرة الثامنة من القرن الثاني بدأ انفصال المماليك الأفريقية والأندلس عن المملكة الشرقية بظهور دولة الأدارسة في المغرب، وبنى مدرار في سجلماسة، وبنى رستم في القطر الجزائري، وبنى أمية في الأندلس ثم بنى الأغلب بالقيروان.
ثم ظهرت في أيام المأمون الدولة الطاهرية بخراسان، ثم العلوية بطبرستان، والدولة السامانية فيما وراء النهر، ثم بعد الدولة الزيارية بجرجان، والدولة الصفارية بفارس. وفي أيام المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين ضعفت الخلافة الإسلامية بل الوحدة الملية، وظهرت سياسة التغلب في ولاة الأقاليم، وصار الإسلام إلى ملوك طوائف أشبه منه بخلافة، فتغلبت الدولة الطولونية بمصر والشام، ثم دولة بني بويه الديلم بالعراق التي امتدت إلى أن استولت على نفس بغداد، كما أنه في آخر المائة الثالثة ظهرت دولة الشيعة بأفريقية، واستولت على المغرب الأقصى والجزائر، ثم امتدت إلى مصر والحرمين والشام وزاحمت بني العباس حتى في العراق وبني أمية دولة الأندلس التي كانت قد عظمت جدا في آخر الثالث وفي الرابع، وتسمي أميرها بأمير المؤمنين.
فصارت الخلافة الإسلامية في القرن الرابع يدعيها ثلاث دول عظمى: بنو العباس الذين هم تحت سيطرة الديلم في بغداد، والشيعة في مصر وأفريقيا والحجاز والشام، وبنو أمية في الأندلس وكل هذا مؤثر على الفقه كما لا يخفى على كل لبيب لانقطاع الصلات بين هذه الأقطار بالحروب وأنت تعلم أن العلم كان ناميا بالراحلة وحصول السباق بين علماء أقطار الإسلام، فتحول ذلك إلى النزاع السياسي، وانتحل كل خليفة من الخلفاء الثلاثة مذهبا يخالف غيره، فأصبح الفاطميون1 يوجهون دعاتهم من الشيعة لنشر مبادئهم ضد بني العباس وبني أمية وكانوا يجعلون قاضي القضاة بمصر على مذهبهم الذي هو مذهب
1 ويعرفون بالعبيدين نسبة إلى جدهم عبيد الله المهدي المتوفى سنة 322هـ وراجع في تحقيق نسبهم ما كتبه الكوثري في رسالته "من عبر التاريخ".