الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: نشأة النقود
إن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا في تكوينه، محتاجاً إلى غيره، ولذا
سخر له ما في السماوات والأرض ليسد بها حاجاته، ويقيم بها حياته
قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} سورة النساء الآية (5)
فانطلق في ربوع الأرض يبحث عما يسد بها خلته، ويقوى بها على البقاء، ولأن الإنسان ضعيف لا يستطيع سد حاجاته بنفسه، كان اللجوء إلى بني جنسه من الأمور الضرورية الملجئة، والتي لا غنى عنها.
فكان التبادل في الحاجات والتكامل في التخصصات عاملاً لبقاء الإنسان، وديمومته في الأرض، فنشأ عن ذلك ما يسمى بالمقايضة حيث لا نقود ولا أوراق ولا أثمان حينئذ.
فكان الرجل يقايض أخاه في حاجاته، فمن يخيط مثلاً لا يستطيع الزراعة، والزارع لا يقدر على الخياطة، ومن عنده قمح يحتاج إلى الزيت، وصاحب الزيت يحتاج للقمح وهكذا كانت البشرية؛ فتتم المقايضة بينهم في الحاجات والسلع دون تحديد للقيمة أو للثمنية.
وقد نشأت عيوبٌ ومآخذ لهذه العملية (1)(المقايضة)، وهي كالتالي:
أولاً: صعوبة توافق رغبات المتبادلين، أو صعوبة وجود اتفاق مزدوج، فمثلاً من يعرف مهنة النجارة واحتاج إلى حدَّاد ليقدم له خدمة فإنه يرغب أن يبادل الحداد خدمته؛ ليعطيه النجار خدمته مقابل الخدمة التي يقدمها، وقد يتفق له أن يجد حدَّادا، ولكنّ هذا الحداد قد لا يحتاج إلى خدمة النجَّار، فيضطر النجَّار أن يبحث عن حدَّاد محتاج إلى خدمة النجارة، وهكذا يضيع الوقت والجهد.
ثانياً: اختلاف مقادير السلع والخدمات وعدم قابلية بعض السلع للتجزئة، ومثال ذلك أن يوجد صاحب زيتون محتاج إلى الصوف، وصاحب الصوف محتاج إلى الزيتون غير أنه لا تناسب بين سلعتيهما، فصاحب الزيتون مثلاً عنده عشرة أرطال من الزيتون، أما صاحب الصوف فصوفه قليل لا يناسب كمية الزيتون، ولا يريد صاحب الزيتون أن يفرق صفقته، كما قد لا تتجزأ السلعة أصلاً، كمن عنده شاة وهو محتاج إلى ثوب والشاة تعادل أكثر من ثوب ولا يمكن تجزئتها لأخذ الثوب عوضاً عن جزئها فتصعب المبادلة.
ثالثاً: صعوبة وجود مقياس مشترك لسائر السلع الخدمات، ففي ظل المقايضة يصعب معرفة قيمة كل سلعة، بالنسبة إلى بقية السلع، وقيمة كل خدمة في
(1) انطر الأوراق النقدية في الإقتصاد الإسلامي (ص: 56) وما بعدها بتصرف مرجع سابق. ومن أرد الإستزادة في ذلك فليراجع مقدمة في النقود والبنوك لمحمد زكي شافعي، 14 وما بعدها، وأيضاً النقود والمصارف 30 وما بعدها. وغيرها كثير.
مقابل خدمة أو سلعة أخرى؛ فإن كانت في السوق مثلاً شياه وجمال، وقمح وزيت، وحرير
…
فإنه وفي غياب المقياس الذي يعرف به ثمن كل سلعة على حدة تصعب عملية التبادل، فالجمل كم يساوي من القمح؟ والزيت كم نسبة مبادلته من الحرير؟ ونظراً لصعوبة هذا الأمر فقد هدى الله الإنسان إلى اتخاذ النقود لتكون ثمنا وقيما لسائر السلع والخدمات، فتسهل عملية التبادل.
وبعد ظهور النقود، وتحديدها كوسيلةٍ قيميةٍ وثمينة للأشياء والسلع، انتقلت البشرية نقلة نستطيع القول بأنها تاريخية وهائلة.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغنى عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشترى داراً بثياب أو عبداً بخف، أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يُدرى كم من الجمل يساوي من الزعفران فتتعذر المعاملات جداً؛ فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى
متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب عُلم بعد ذلك المساوي من غير المساوي.
فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة فهما من حيث إنهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدى ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهى التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوى نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكى كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض (1).
(1) إحياء علوم الدين (4/ 91)، الأمام محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، ط، دار المعرفة، بيروت لبنان.
ومن هنا تبرز أهمية النقود فلا يبالغ بعضهم حين يشير إلى أن اختراع النقود كان من أعظم ما توصل إليه الجنس البشري، وهو لا يقل عن اختراع الكتابة، والعناية بالأرض، وتسخير الطاقة، ذلك أنه ما إن يمعن المرء النظر في جسامة العيوب اللاحقة بنظام المقايضة حتى تتضح آفاق التقدم الفسيحة التي هيأها الله للبشرية في استخدام النقود (1).
وعند الوقوف على تاريخ النشأة للنقود فإن الباحثين والعلماء يظلون عاجزين عن تحديد تاريخ محدد، إذ أن القطع بتاريخ معين في غيب يبعد عنا آلاف وربما عشرات الآلاف من السنين ضرب من المحال، فليس إلا التخرص والتخمين، كما أن تحديد الأمة والحضارة التي بدأ فيها التعامل بالنقود كوسيلة بديلة عن المقايضات، يعد أيضاً من الصعوبة بمكان.
وقد ذكر بعضهم أن أول من عرف النقود المسكوكة هم الليديين
في آسيا الصغرى ويقال أن أول من عرفها هم الهنود في عهد موهنجو (2900 ق. م)(2) ويقال غير ذلك في تخرصات لا دليل عليها ولا طائل من ورائها.
(1) انظر الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي 58 وما بعدها. وانظر مقدمة في النقود والبنوك 18 وما بعدها، وانظر النقود والمصارف 47.
(2)
انظر الأوراق النقدية صـ 60، نقلا عن ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيل محمود (2/ 305) وما بعدها، دار الجيل، بيروت.
ويكفينا القول بأن استخدام النقود كوسيلة قيمية، وثمنية عرف من فجر التاريخ البشري؛ وإن كان البعض قد تخرص تواريخ وحدد أزماناً، وذكر بلداناً وحضارات، لكن كل ذلك يبقى كما قلنا تخميناً خالياً عن الدليل القاطع.