الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: التكييف الشرعي للتحويل لحساب آخر بنفس العملة
من الخدمات التي تقدمها بطاقة الصراف الآلي، خدمة التحويل بين الحسابات، وحتى يتسنى الكلام عن هذه الخدمة يتعين الوقوف عند تعريف الحوالة في اللغة ومن ثَمَّ في الفقه الإسلامي، وبعد ذلك نتكلم عن الحوالة المصرفية المتعارف عليها في المصارف والبنوك، وإنما قصدنا كل ذلك لتتضح المسألة لدى القارئ تمام الوضوح من الناحية الشرعية والمصرفية، وليتسنى لنا التكييف الشرعي الدقيق ومن ثم الحكم عليها؛ فإن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره كما هو معلوم.
- تعريف الحوالة:
أولاً: الحوالة في اللغة
الحوالة في اللغة من التحول والانتقال، قال في معجم مقاييس اللغة: الحاء والواو واللام أصل واحد وهو تحرك في دور (1).
وقال صاحب تاج العروس: أحالَ الشيء: تَحوَّلَ مِن حالٍ إلى حالٍ. أو أحالَ الرجُلُ: تَحوَّلَ من شيء إلى شيءٍ كحالَ حَوْلاً وحُؤُولاً بالضمِّ مع الهمزِ وأحالَ الغَرِيمَ: زَجَّاه عنه إلى غَريمٍ آخَرَ، والاسمُ: الحَوالةُ، كسَحابةٍ (2).
(1) معجم مقاييس اللغه (2/ 121)، مادة حول.
(2)
تاج العروس من جواهر القاموس (28/ 366)، مادة حول.
ثانياً: الحوالة في الاصطلاح الفقهي
المذهب الحنفي: نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (1).
المذهب المالكي: طَرْحُ الدَّيْنِ عن ذِمَّةٍ بمثله في أُخْرَى. (2)
المذهب الشافعي: عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة. (3)
المذهب الحنبلي: نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. (4)
وخلاصة أقوال الفقهاء في تعريفهم الاصطلاحي: أن الحوالة تحريك وانتقال للدين من ذمة لأخرى.
الحوالة في الاصطلاح المصرفي
عرفت الحوالات المصرفية بعدة تعاريف، وجلها متقاربة نختار منها ما يلي:
(1) خلافا لزفر فإنه يقول إن الحوالة ليست نقلا للدين تبرأ به ذمة المحيل، بل ضم ذمة ا
لمحال عليه لذمة المحيل، انظر الاختيار لتعليل المختار (3/ 3). وانظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، (4/ 171).
(2)
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 240). وانظر حاشية
الدسوقي (3/ 325).
(3)
مغني المحتاج (2/ 193)، وانظر حاشية البيجرومي على منهج الطلاب (2/ 605)، وغيرهما.
(4)
الكافي (2/ 218)، وانظر الشرح الكبير (5/ 54).
"عملية يقيد المصرف بمقتضاها مبلغاً معيناً في الجانب المدين من حساب الآمر بالنقل، بناء على أمر كتابي منه، وفي الجانب الدائن من حساب آخر"(1).
وهذا التعريفُ تعريفٌ بالرسم التام، حيث عرفها بالمثال، والتعريف بالمثال من أنواع التعريف بالرسم التام، وهذا غير مرضي عند أهل الفن.
وعرفت الحوالة المصرفية أيضاً بأنها: "عملية نقل النقود، أو أرصدة الحسابات من حساب إلى حساب، أو من بنك إلى بنك، أو من بلد إلى بلد، وما يستتبع ذلك من تحويل العملة المحلية إلى عملة أجنبية، أو تحويل عملة أجنبية إلى عملة أجنبية أخرى"(2).
وهذا تعريف بالحد التام، حيث إنه أبان الجنس والفصل القريبين، وهو التعريف الدقيق، إلا أنه أطال بذكر العرضيات والخواص للمعرَّف.
كما عرفها آخرون فقالوا: عملية منح الصلاحية لبنك ما للقيام بحركات التحويلات المالية الدائنة والمدينة إلكترونياً، من حساب بنكي إلى حساب بنكي آخر (3).
ولا يخفى أن هذا التعريف أيضاً لم يعرف بالجنس القريب ولا الفصل القريب، بل خص المعرَّف ببعض أنواعه، وهي التحويلات الإلكترونية فقط.
(1) العمولات المصرفية حقيقتها وأحكامها الفقهية، (ص: 241).
(2)
المعاملات المالية المعاصرة (ص: 277)، وما بعدها.
(3)
النقود الإلكترونية (ص: 15) مرجع سابق.
التعريف المختار
يمكن تعريف الحوالات المصرفية بأنها: "تحريك وانتقال النقود بين أرصدة المشتركين أو غيرهم عبر المصارف والبنوك".
فقولنا: "تحريك وانتقال"، بيان لحقيقة الحوالة بمعناها اللغوي، وهو الجنس القريب للحوالة.
وقولنا: "النقود"، بيان للفصل القريب وهي المخصوصة بالتحريك، دون غيرها من الأموال.
وقولنا: "بين أرصدة المشتركين أو غيرهم عبر المصارف والبنوك"، عرضيات فيها بيان للمكان الذي تتحرك فيه، وهي أرصدة المشتركين في تلك المصارف سواء كانت داخلية أو خارجية.
أما ما يستتبع التحويل من صرف للعملات، فعرض ليس بلازم للحوالات المصرفية، إذ أنها تكون مع الصرف وبدونه.
التكييف الشرعي للتحويلات المصرفية بنفس العملة
التحويل المصرفي بجنس واحد أو بعملة واحدة، غالباً ما يكون داخل البلد، وقبل التكييف نتكلم عن التصوير والتمثيل اللذين نستطيع من خلالهما تكييف المسألة تكييفاً دقيقاً.
- تصوير المسألة:
طلب انتقال نقود من حساب لآخر، في نفس المصرف، أو إلى مصرف آخر بنفس العملة.
- التمثيل للمسألة:
طلب عميل في مصرف بيت التمويل الكويتي، بتحويل مائة دينار من رصيده إلى حساب شخص آخر له حساب في ذات المصرف، أو مصرف آخر، بنفس العملة.
- محور البحث:
ينحصر محور البحث حول شرعية هذا التحويل والعمولة التي يأخذها المصرف الذي يقوم بعملية التحويل.
بيان التكييف
اختلف الباحثون في تكييف الحوالة المصرفية على أقوال عدة أبرزها أربعة على النحو التالي:
التكييف الأول: سفتجة (1)
يرى بعض الباحثين (2) أن الحوالة المصرفية تمثل السفتجة قديماً، وبه أخذت الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي (3).
(1) تقدم تعريفها وحكمها الشرعي.
(2)
منهم د. عبد الكريم بن محمد بن أحمد السماعيل في كتابة العمولات المصرفية (ص: 246)، والشيخ عبد الله بن منيع في بحث له بعنوان: تحديد صيغة القبض، منشور في مجلة البحوث الإسلامية وهي مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة العربية السعودية. (26/ 141). وبحث السفتجة؛ للدكتور رفيق المصري؛ منشور في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي - العدد الأول- لعام (1404 هـ/1984 م) ص (113 و 123) وغيرهم
(3)
قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي، ينظر المذكرة التفسيرية لأغراض مصرف الراجحي (1/ 30)، وقرار رقم (68)(3/ 317).
- جهات عقد القرض
المقرِض: العميل طالب التحويل
المقترض: المصرف القائم بالتحويل
ورقة السفتجة: الإيصال الصادر من المصرف للعميل المقرِض عند طلبه التحويل.
- التنزيل الفقهي
أولاً: طلب العميل التحويل عبر الصراف الآلي من مصرفه يُعد إقراضاً منه للمصرف، ذلك المبلغ المراد تحويله، بعد خروجه من حسابه، أو يمكن اعتبار أن حسابه في المصرف قرض قديم منه للمصرف، وهو يريد تحويله أو جزء منه.
ثانياً: يُعد قبول المصرف القرض من عميله وتحويله للعميل أو نائبه في بلد ما، أو مصرف آخر، اقتراضاً، يمثل جميع أحكام القرض.
ثالثاً: يصدر المصرف سنداً أو إيصالاً لعميله طالب التحويل، ويعد ذلك الإيصال ورقة السفتجة.
رابعاً: تمثل الحوالات المصرفية ذات الفائدة التي تمثلها السفتجة، من ضمان للأموال.
أدلة هذ التكييف:
استدل أصحاب هذا التكييف بوجود الشبه بين عقدي السفتجة والحوالات المصرفية، من حيث المقصد والباعث، ومن حيث الشكل؛ وذلك يجعل الجزم بإلحاق الحوالات المصرفية بها أمراً متعيناً، وبيان ذلك من خلال النقاط التالية:
الأولى: في التحويلات المصرفية، تُخصم من حساب العميل إن كان له حساب لديه، بقصد تحويلها دون النقل المادي لها، تجنباً لأخطار حملها، وتوفيراً للوقت والجهد، فهو إذن لا يدفع قيمة المبلغ المراد تحويله، أو يطلب خصمه من حسابه على سبيل الأمانة، بل على سبيل الضمان، وذلك بإحالة خطر الطريق على المصرف.
والمعروف أن الأساس الذي بُنيت عليه السفتجة هو تجنب خطر الطريق المتوقع. وعلى ذلك فإن الغرض الذي تؤديه كل من عملية التحويل والسفتجة، هو تحويل الأموال دون النقل المادي لها، تجنباً لأخطار الطريق، وذلك عن طريق تضمين المأمور بالتحويل.
الثانية: إن المصرف أو البريد لا يسلم إلى المستفيد عين المبلغ الذي دفعه طالب التحويل، أو الذي خُصم من حسابه، بل إنه يدفع إلى المستفيد بدله؛ لأن العرف في المصارف جارٍ على أن المصرف يخلط أموال العملاء بأمواله، وكذلك الأمر في الدوائر البريدية، والمتتبع لأقوال الفقهاء يجد أنهم ينسبون الأحكام إلى القاعدة المقررة عندهم من أن (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، وليست للألفاظ والمباني)، فالمال إذا تُصرف فيه أو اختلط بغيره لا
يكون مجال للقول بأنه وديعة، بل ينقلب إلى قرض، على اعتبار أن الانتفاع بالمعقود عليه في القرض لا يكون إلا باستهلاكه، وبالتالي فهو مضمون على المقترض أو المدين.
وعلى ذلك فإن عملية التحويل إما أن تكون بقرض حادث، كما في حالة أن يأتي طالب التحويل ومعه المال المراد تحويله، فيدفعه إلى البنك، وإما أن يكون بدين قديم، كما لو كان لطالب التحويل حساب جارٍ لدى المصرف، وطلب منه الخصم من هذا الحساب وتحويله، وقد سبق في السفتجة أنها قد تكون بقرض حادث، وقد تكون بدين قديم.
الثالثة: في عملية التحويل قد يكون المستفيد هو الآمر نفسه، وذلك كما لو دفع شخص مبلغاً من المال إلى بنك في بلده، أو في مكان معين بغرض الحصول على قيمته في مكان آخر، وقد يكون المستفيد غير الآمر، كما لو كان الآمر عميلاً أو مديناً، وهو الغالب في عملية التحويل.
كذلك الأمر في السفتجة، فقد يكون المقرض أو الدائن هو الذي يقبض في البلد الآخر، وهو الغالب بعكس التحويل، وقد يكون الوفاء لصديق أو دائن هناك (1).
* وقد اعتُرض على هذا التكييف ونوقش بأمور أهمها:
الاعتراض الأول: إن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم، أو عملائهم، أو حساباتهم في مصارف أخرى، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض، بخلاف السفتجة (2).
(1) انظر الحوالة والسفتجة بينَ الدِّراسةِ والتَطبِيق (ص: 149) وما بعدها.
(2)
انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 17495).
وأُجيب عن هذا الاعتراض: بأن الذي يتبادر إلى ذهن الناس شيء، وقد يكون التكييف الفقهي له شيء آخر، فعلى سبيل المثال: إن الودائع المصرفية هي في تصور الناس ودائع، ولكنها في الحقيقة ليست ودائع، لما سبق ذكره من أن المصرف يخلط أموال عملائه مع أمواله، أو يتصرف فيها، وبالتالي تكون مضمونة عليه، فكذلك الأمر في عملية التحويل المصرفي (1).
الاعتراض الثاني: المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجراً، أما المصارف اليوم فإنها تأخذ أجراً على هذه العملية (2).
وأُجيب عن هذا الاعتراض: بأن اشتراط جرِّ النفع للمقترض لا ظلم فيه، بل فيه مصلحة وزيادة إرفاق وليس هناك نصٌ أو إجماع على منع مثل ذلك (3). كما قد أجاز بعض الفقهاء اشتراط رد المقترض دون ما أخذ (4).
الحكم الشرعي على هذا التكييف:
ألحق القائلون بهذا التكييف مسألتنا بالسفتجة، وعليه فإن الحكم للفرع سيكون هو حكم الأصل.
(1) انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة (1/ 348)، من كلام للدكتور عبد السلام العبادي
(2)
انظر انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 17495).
(3)
انظر الموسوعة الفقهية الكويتية في الطبعة التمهيدية، منهم الدكتور مصطفى الزرقا والدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامة، والدكتور جمال عطية. انظر كتاب الحوالة بحث أعده بالاشتراك خبراء الموسوعة الفقهية الكويتية عام (1319 هـ، 1971 م)، (ص: 240)، طبع مجلة الوعي الاسلامي بدولة الكويت، الطبعة الأولى، (2011 م).
(4)
انظر المهذب (1/ 304)، وانظر الكافي (2/ 125).
وقد قال بجواز السفتجة لا سيما مع عدم الاشتراط، الحنفية ولكن مع الكراهة، ورواية في مذهب أحمد مطلقاً لأن النفع حاصل لهما، ولم يجزها الشافعية مع الشرط، وأجازوها بدونه، وهي كذلك عن مالك (1).
التكييف الثاني: وكالة بأجر
قرر أصحاب هذا التكييف أن المسألة لا تخلو عن كونها وكالة بأجر، وقد تكلمنا عن عقد الوكالة في الفقه الإسلامي فيما سبق فليرجع إليه (2)، وبهذا التكييف قال بعض الباحثين (3).
بيان التكييف:
- جهات عقد الوكالة
الموكِّل: هو العميل طالب التحويل
الوكيل: هو المصرف القائم بالتحويل
(1) انظر بدائع الصنائع (7/ 395)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (7/ 443)، حاشية ابن
عابدين (5/ 350)، والكافي في فقه الإمام أحمد (2/ 125)، المغني (4/ 213)، المهذب (1/ 304)، والحاوي الكبير (6/ 467)، التاج والإكليل لمختصر خليل (4/ 547)، وانظر الفواكه الدواني (2/ 89).
(2)
انظر (ص: 176)
(3)
منهم باحثو الموسوعة الفقهية الكويتية في الطبعة التمهيدية، منهم الدكتور مصطفى الزرقا والدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامة، والدكتور جمال عطية، انظر كتاب الحوالة من بحوث خبراء الموسوعة الفقهية الكويتية، (ص: 240).
ومنهم أيضاً الدكتور وهبة الزحيلي في كتابة المعاملات المالية المعاصرة، (ص: 479)، مرجع سابق. والشيخ محمد علي التسخيري والسيد جعفر الحسيني في بحث لهما منشور في مجلة
مجمع الفقه الإسلامي بعنوان: الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة، انظر
المجلة (2/ 17510)
الموكَّل فيه: المبلغ المراد تحويله
- التنزيل الفقهي
أولاً: طلب العميل من مصرفه تحويل مبلغ ما يمثل انعقاد الوكالة، بعد قبول المصرف الطلب.
ثانياً: استجابة المصرف للطلب وتحويله المبلغ للمصرف الآخر أو للمستفيد، عمل يستحق عليه أجر، ولكن لابد أن يكون معلوماً.
أدلة أصحاب هذا التكييف:
استند أصحاب هذا التكييف بقوة الشبه بين الحوالة المصرفية، وبين الوكالة والتي تعني الإنابة، إذ أن العميل طالب التحويل إنما يطلب من المصرف النيابة عنه في تسليم النقود، فيقبل المصرف هذه الإنابة، وهذه هي عين الوكالة.
* استشكال
واعترض على هذا التكييف بوجود الفروق بين الحوالة المصرفية والوكالة من عدة أوجه أهمها ما يلي:
أولاً: إن الوكالة ليست عقداً لازماً، فالوكيل له أن يرجع عن هذه الوكالة، بينما في التحويل المصرفي لا يسوغ للمصرف الرجوع عن العمل بعد الدخول فيه (1).
ثانياً: يدُ الوكيل يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، بينما المصرف في الحوالة المصرفية يده يد ضمان على كل حال.
(1) العمولات المصرفية (ص: 251).
ثالثاً: لو كانت الحوالة المصرفية وكالة بأجر؛ لوجب تسليم عين النقود التي سلمها، والواقع خلاف ذلك (1).
ولقد أُجيب عن هذه الاعتراضات بما يلي:
الاعتراض الأول: أُجيب عنه بأن المصرف وكيل بأجر، وإذا استوفى الوكيل أجره على عمله فلا يجوز له الرجوع فيها؛ لأنه قد تعلق بها حق الغير (2).
الاعتراض الثاني: أُجيب عن هذا الاعتراض بأن المصرف يُعد أجيراً مشتركاً (3)، يضمن ما تلف بصُنعه عند الحنفية (4)، وقول عند الشافعية (5)، وهو مذهب الحنابلة (6).
الاعتراض الثالث: أُجيب عن هذا الاعتراض بأن المسلَّم للمحال مماثلٌ لما استلمه المصرف، وذات النقد ليست مقصودة، ورد المثل يقوم مقام رد العين كما في القرض (7).
(1) أحكام التعامل مع أجهزة الصراف الآلي (ص: 161).
(2)
العمولات المصرفية (ص: 251).
(3)
الأجير المشترك هو الذي يكون عمله في يد نفسه لمستأجره مع عمله لمستأجر آخر كالقصابين والخياطين في حوانيتهم. انظر الحاوي الكبير (7/ 425).
(4)
انظر المبسوط للسرخسي (15/ 82). ولكن قال خلافاً لهما (أي الصاحبان) كما قال صاحب الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير، (1/ 484): أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني الوفاة: (189)، ط: عالم الكتب - بيروت الطبعة: الأولى- (1406 هـ)
(5)
انظر الحاوي الكبير (6/ 501).
(6)
انظر المغني (5/ 305).
(7)
أحكام التعامل مع أجهزة الصراف الآلي (ص: 162).
الحكم الشرعي على هذا التكييف:
من المعلوم سلفاً أن الوكالة من العقود المباحة سواء كانت بأجر، أو من دون أجر، ولا حاجة للاستدلال على ذلك، وإذا اعتبرنا الحوالة المصرفية وكالة بأجر فإنها تأخذ حكمها.
التكييف الثالث: حوالة بالمعنى الفقهي للحوالة
كيف بعض الباحثين (1) مسألتنا بأنها حوالة بالمعنى الفقهي للحوالة، كونها تتفق معها في الاسم والمعنى.
بيان التكييف:
- جهات عقد الحوالة
المحيل: المصرف القائم بالحوالة
المحتال: العميل طالب التحويل
المحال عليه: فرع المصرف أو نائبه
الحوالة: المبلغ المالي المحوَّل
- التنزيل الفقهي
أولاً: يُعدُّ مصرف العميل مديناً للعميل من جهة كون العميل له فيه حساب جاري، أو أنه يسلمه المبلغ المراد تحويله وذلك بمثابة إقراضٌ للمصرف.
(1) قال بهذا القول شيخنا الدكتور علي بن أحمد السالوس، انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/ 1/344). وهو ما قررته هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين، تاريخ صدور المعيار (16 مايو 2002 م). انظر كتاب المعايير الشرعية (ص: 81)، هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، (1431 هـ، 2010 م)، المنامة البحرين. ط، (1430 هـ، 2009 م).
ثانياً: يصبح المصرف مدين للعميل طالب التحويل، فيحيل المصرف عميله على فرعه أو نائبه من المصارف الأخرى، والتي بدورها تكون مدينة للمصرف الأول، فالدين بهذا الاعتبار يكون قد انتقل من ذمة إلى ذمة أخرى، وهذا هو معنى الحوالة (1).
أدلة هذا التكييف:
استند أصحاب هذا التكييف أيضاً بقوة أوجه الشبه بين الحوالة في الفقه الإسلامي، والحوالة المصرفية، من حيث اللفظ والمعنى:
أما اللفظ فظاهر؛ وأما من جهة المعنى فلكل منهما طرف مدين، وطرف دائن فيحيل المدين دائنه على مليئ وهو المصرف أو نائبه، وعليه يكون الدين قد انتقل من ذمة إلى ذمة.
* استشكال
وقد اعترض على ذلك بوجود فروق جوهرية بين الحوالة بالمعنى الفقهي، والحوالة المصرفية أهمها ما يلي:
الاعتراض الأول: انتقاض معنى الحوالة إن كان العميل ليس له حساب جار في المصرف، أو أن العميل أدخل في رصيده مبلغاً ليحوله، إذ أن العميل بهذا الاعتبار ليس مقرِضاً للمصرف، والمصرف ليس مقترضاً؛ لكون الدين لم
(1) من مناقشات مجلة مجمع الفقه بتصرف (9/ 1/343).
يثبت إلا مقترناً مع الحوالة، والدين لابد أن يكون ثابتاً في الذمة قبل الحوالة، مع أن السلف بشرط الحوالة تشوبه شائبة الربا (1).
الاعتراض الثاني: قد يكون المصرف المحال عليه مدين للمصرف المحيل، وقد لا يكون، والحوالة تنقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المُحال عليه، وإذا لم يكن المصرف المُحال عليه مديناً للمصرف الأول فما الذي تنقله الحوالة؟
ولهذا صرح جمهور العلماء المالكية ((2)، والحنابلة (3)، وهو أحد الوجهين عند الشافعية (4)، كلهم صرحوا باشتراط وجود دين للمحيل على المحال عليه في الحوالة.
(1) ذكر الرهوني في حاشيته على الزرقاني على مختصر خليل قوله: وسئل سيدي عبد الله العبدوسي عمن أسلف بشرط الحوالة فأجاب بأنه لا يجوز، مثل أن يسلفه دراهم أو طعاماً أو دنانير على أن يحيله بها على غريمه فلان؛ لأن الحوالة بيع من البيوع، فصار قد باع له تلك الدراهم بالدراهم التي على الغريم، فصار دراهم بدراهم إلى أجل. انظر حاشية الإمام الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (5/ 402)، ط، المطبعة الأميرية، الطبعة الأولى، مصر، (1306 هـ).
(2)
انظر الشرح الكبير (3/ 325)، سيدي أحمد الدردير أبو البركات. وانظر بلغة السالك (3/ 269)، وانظرالتاج والإكليل لمختصر خليل (5/ 92).
(3)
انظر الكافي (2/ 218) وما بعدها.
(4)
قال الماوردي: فأما وجوب الحق على المحال عليه فقد اختلف أصحابنا هل هو شرط في صحة الحوالة على وجهين: أحدهما: أنه شرط في صحة الحوالة .. والوجه الثاني: يصح وتجري مجرى
الضمان لأنها وثيقة فعلى هذا لا تتم إلا بقبول المحال عليه ولا رجوع له بالحوالة قبل أدائها. الحاوي الكبير (6/ 419) وما بعدها. ونظر مغني المحتاج (2/ 194). لكنه ذكر الوجه بعدم اشتراط وجود
دين= =للمحيل على المحال عليه بصيغة التضعيف (وقيل). لكن جزم في المهذب باشتراط وجود الدين للمحيل على المحال عليه حيث قال: ولا تجوز إلا على دين يجوز بيعه كعوض القرض وبدل المتلف. المهذب (1/ 337).
ويمكن الإجابة عن هذه الاعتراضات بما يلي:
أما الاعتراض الأول: يمكن القول بأن العميل عند إقراضه المصرف لم يشترط مع القرض الحوالة، وإنما يُقرض أولاً، ثم يطلب قرضه ليحيله المصرف على نائبه؛ ثم وإن كان الأمر سلف بشرط الحوالة فإن المسألة ليست كما صورها المعترض، لكون الحوالة من عقود الإرفاق وليست من عقود البيع، عند الحنفية (1)، والصحيح من مذهب الحنابلة (2)، ويتسامح في عقود الإرفاق ما لا يتسامح في غيرها.
وأما الاعتراض الثاني: قد لا يكون المصرف الثاني مديناً للمصرف الأول، لكن يمكن أن يكون وكيلاً له وهذا جائز عند من لم يشترط ثبوت الدين قبل الحوالة كالحنفية (3).
الحكم الشرعي:
ينبني على ما سلف من التكييف لهذه المسألة، أن الحوالة المصرفية لها حكم الحوالة بالمعنى الفقهي، من حيث الجواز، بل عدوها من عقود الإرفاق المشروعة كما سبق.
(1) انظر بدائع الصنائع 6/ 18).
(2)
انظر الإنصاف للمرداوي (5/ 222).
(3)
انظر بدائع الصنائع (6/ 16).
التكييف الرابع: حوالة، أو سفتجة إن كانت من دون أجر ووكالة إن كانت بأجر
وهذا التكييف هو قرار مجمع الفقه الإسلامي حيث نص على ذلك بقوله: قرار بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة ما يلي:
الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعا، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر.
وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ؛ جرياً على تضمين الأجير المشترك (1).
بيان هذا التكييف وأدلته وحكمه:
أما بيان هذا التكييف وأدلته فهي عين بيان وأدلة التكييفين القاضيين بأن الحوالة المصرفية حوالة، أو سفتجة ووكالة بأجر ولكن ليس بإطلاق، فقد فرقوا من حيث الأجر على الحوالة بين أن تكون حوالة مطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم السادة الحنفية، أو سفتجة عند من اشترط
(1) قرار رقم (84)(1/ 9) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص: 192)، مرجع سابق.
مديونية المحال إليه وهم الجمهور، هذا في حال إن كانت من دون مقابل، وأما إن كانت بمقابل فهي وكالة بأجر.
وبهذا نخلص إلى ما مفاده:
إن كانت من دون مقابل فهي: حوالة مطلقة عند الأحناف، وعند الجمهور سفتجة.
وإن كانت بمقابل فهي: وكالة بأجر.
وفي هذا التكييف جمع بين القولين الأقربين إلى حقيقة الحوالات المصرفية، بل حتى إلى الواقع المصرفي القائم.
الترجيح
لا شك أن التكييف للحوالة المصرفية بأنها سفتجة قريب من حيث المعنى، إن كانت من دون أجر يأخذه المصرف، وأما إن كانت بأجر فتنزيلها على الوكالة ألصق وهذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي كما سبق بيانه؛ وهو ما ترجح لديَّ للاعتبارات التالية:
أولاً: قوة ما استند عليه أصحاب التكييف القائل بأنها سفتجة إن كانت من دون أجر، ووكالة إن كانت بأجر.
ثانياً: القول بأن الحوالات المصرفية سفتجة بإطلاق حتى مع تقاضي المصرف أجراً عليها، يجعلها بعيدة عن حقيقة السفتجة، بل ويدخلنا في مسألة جواز اشتراط الرد من المقترض أقل مما اقترض وهي محل خلاف بين العلماء.
فقد جوزها الشافعية في أحد الأوجه عندهم والحنابلة في الوجه المقابل للصحيح، ففي المهذب مانصه: فإن شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لان مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة.
والثاني يجوز لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز (1).
وفي الكافي أيضاً ما نصه: وإن شرط رد دون ما أخذ لم يجز لأنه ينافي مقتضاه وهو رد المثل فأشبه شرط الزيادة، ويحتمل أن لا يبطل لأن نفع المقترض لا يمنع منه لأن القرض إنما شرع رفقا به فأشبه شرط الأجل بخلاف الزيادة (2).
ثالثاً: كما أن القول بأن الحوالات المصرفية وكالة بأجر بهذا الإطلاق حتى لو لم يأخذ المصرف أجراً عليها، فيه من التجاوز ما لا يخفى مع كونها أقرب من ناحية المعنى إلى السفتجة.
رابعاً: القول القاضي بأن الحوالات المصرفية هي بمعنى الحوالة عند الفقهاء بعيد، وفيه تجوُّز ظاهر إذ أن شروط الفقهاء لعقد الحوالة يصعب تطبيقها إلا
(1) المهذب (1/ 304).
(2)
الكافي (2/: 125).
بتكلف ظاهر كما رأينا في اعتراضات المعترضين والإجابات عنها؛ كما أنه يُؤخَذُ عليه أن السلف بشرط الحوالة تشوبه شائبة الربا (1).
خامساً: فيه جمع وتوفيق بين أكثر من قول وهو قريب من واقع الحوالات المصرفية الجارية.
لذلك كله يترجح القول بأن الحوالات المصرفية سفتجة إن لم يأخذ المصرف أجراً عليها، ووكالة بأجر إن أخذ.
حكم العمولات المصرفية على الحوالة
تقرر فيما سبق أن تكييف الحوالات المصرفية إن كانت من دون أجر بأنه سفتجة، أو حوالة مطلقة، وأما إن كانت بأجر فإنها وكالة بأجر، ومن المعلوم مشروعية أخذ الأجرة على الوكالة في الشريعة الإسلامية، ولكن يبقى تحديد مقدار الأجر الذي يستحقة الوكيل، وقد اختلف الباحثون فيه على ثلاثة أقوال كما يلي:
القول الأول: جواز أخذ عمولة على التحويل المصرفي، وأن لا تنحصر بمقدار التكلفة الفعلية للتحويل، سواء كانت مقطوعة أو نسبية.
وقد قال بهذا القول الهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (2)، وقرار الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي (3)، وهو ما يفهم من المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية (4).
(1) سبق ما ذكره الرهوني في حاشيته على الزرقاني على مختصر خليل (5/ 402).
(2)
الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية (1/ 141)، رقم الفتوى (177).
(3)
قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراحجي المصرفية (3/ 295).
(4)
المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، (ص: 81)، بتاريخ (16 مايو 2002 م).
أدلة هذا القول:
يستدل أصحاب هذا القول بأن العمولات المصرفية عبارة عن أجر على التحويل، والأجرة يجوز أن تكون بقدر تكلفة العمل، أو أكثر من ذلك وليس في الشرع ما يحدد ذلك.
القول الثاني: جواز أخذ عمولة وإن كانت زائدة على التكلفة الفعلية، شريطة أن تكون مقتطعة وليست نسبية.
وقد قال بهذا القول بعض الهيئات الشرعية كالهيئة الشرعية ببنك فيصل المصري. (1)
أدلة هذا القول:
يقرر أصحاب هذا القول أن العمولة إن كانت نسبية ولم تكن الخدمة تختلف باختلاف المبلغ، فمعنى ذلك أن المصرف قد أخذ في تحويل المبلغ الكثير أجراً زائداً عن تحويل المبلغ القليل، والخدمة واحدة والجهد، ففي ذلك أكل لأموال الناس بالباطل (2).
(1) العمولات المصرفية (ص: 267).
(2)
العمولات المصرفية (ص: 269).
القول الثالث: جواز أخذ العمولات المصرفية شريطة أن تكون بقدر التكلفة الفعلية لعملية التحويل.
وهذا القول قرره المجمع الفقهي الإسلامي إذ قال مانصه: الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعاً، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي (1).
أدلة هذا القول:
بنى أصحاب هذا القول استدلالهم على كون التحويلات المصرفية سفتجة، والسفتجة قرضٌ، ولا يجوز أخذ عمولة زائدة على التكلفة الفعلية، وإلا كانت بمثابة الزيادة مقابل القرض، وإنما جوَّزنا أخذ التكلفة الفعلية باعتبارها تكاليف الاقتراض، وما عدا ذلك يبقى على أصله من التحريم.
الترجيح
بعد النظر في الأقوال السابقة والتكييفات الفقهية للحوالات المصرفية تبين لي جواز تقاضي المصارف أجوراً على التحويلات المصرفية للاعتبارات التالية:
أولاً: لا ينحصر التكييف الفقهي للحوالات المصرفية بالسفتجة حتى نسحب الحكم ونعممه على كل عمليات التحويلات المصرفية بالمنع.
ثانياً: عدم التسليم بمنع تقاضي الأجر على عملية التحويل كونها سفتجة؛ وذلك أن التحويل تقوم به المصارف والبنوك ولها شخصية اعتبارية تجمع الموظفين والعمال لديها، وهم يتقاضون أجوراً شهرية غير مرتبطة بالعمل
(1) قرارات وتوصيات المجمع الفقهي الإسلامي (ص: 192).
قلة وكثرة، وتتخذ مقرات مجهزة بأثاثات وأدوات وآلات كثيرة، ذات كلفة مالية. فلو لم تأخذ عمولة لما استطاعت تغطية النفقات الطائلة التي تنفقها. فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي، وليس هناك نصٌ أو إجماع على منع مثل ذلك (1).
ثالثاً: إذا تقرر جواز أخذ الأجر على التحويلات المصرفية، فإن تحديد الأجر فيه نوع من التحكم، فللمصرف أن يأخذ الأجر كنسبة مئوية، أو مبلغاً مقطوعاً، وسواء كان أكثر من تكلفة العمل أو أقل لعدم وجود نص يحدد مقدار أجرة الأجير وعدم صحة القول بأن الحوالات المصرفية سفتجة بإطلاق.
(1) الحوالة للموسوعة الفقهية الكويتية لمجموعة من الباحثين (ص: 240) وما بعدها.