الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: التكييف الشرعي للتَّحويلات عند اختلاف جنس العملة
التحويل المصرفي عند اختلاف الجنس أو بعملة مغايرة، غالباً ما يكون خارج البلد، وقبل التكييف نتكلم عن التصوير والتمثيل اللذين نستطيع من خلالهما تكييف المسألة تكييفاً دقيقاً.
- تصوير المسألة:
طلب انتقال نقود من حساب لآخر، بعملة مغايرة.
- التمثيل للمسألة:
طلب عميل في مصرف بيت التمويل الكويتي بصرف مائة دينار من رصيده وتحويلها إلى حساب شخص آخر في بلده.
- محور البحث:
ينحصر محور البحث حول شرعية هذا العقد الذي جمع بين الصرف والحوالة، ومدى تحقق شروط الصرف عند التحويل، أما العمولة على هذا العمل فقد تكلمنا عليها في المطلب السابق.
التكييف الشرعي:
لا يختلف التكييف الشرعي في هذه المسألة عن سابقتها لمجرد اختلاف العملة عند التحويل، ولذا فإن الكلام عن التكييف هنا هو عين الكلام في المطلب قبله، ولكن ثمة أمرٌ آخر تكلم عنه الباحثون جدير بالتوقف عنده، وهو تحقق شروط الصرف عند التحويل المصرفي.
وقد تكلم الباحثون كلاماً طويلاً حول المسألة ونحن نذكر ملخص ما توصلوا إليه مع ذكر شيء من الاختلاف والترجيح.
القول الأول: منع هذا العقد لاختلال شروط الصرف
يرى أصحاب هذا القول منع اجتماع الحوالة والصرف وعدم صحة هذا العقد؛ لعدم حصول التقابض في الصرف إذا اجتمع مع الحوالة، والتقابض في الصرف شرط لصحته، وإلا وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجد الربا الموجب للتحريم.
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بالأحاديث القاضية بمنع ربا النسيئة والتي منها ما يلي:
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ". (1)
وجه الدلالة: أن التقابض شرط لصحة الصرف، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقته بقوله:"يداً بيدٍ"، ولا يحدث هنا- إذا اجتمعت حوالة وصرف- القبض يداً بيدٍ.
وحديث مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كلا والله لتعطيه ورقه أو لتردن إليه ذهبه؛ فإن
(1) سبق تخريجه (ص: 208)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء"(1)
وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه أنكر على طلحة فعله، وبين له حقيقة القبض، وقد قال العلماء في قوله:"هاء وهاء": خذ وهات أو خذ واعطِ، كناية عن التقابض في المجلس، فهذا هو القبض الشرعي في الصرف خذ وهات حتى لا يكون فيه تأخير، فلو كان هناك قبض آخر لذكره أو أشار إليه وهذه المعاملة تفتقر لهذا القبض.
والمخرج عند أصحاب هذا القول هو فصل الصرف عن التحويل؛ بأن يتم صرف العملة الموجودة إلى الثانية المطلوبة ويتم التقابض وتسليم المال، ثم يعيد طالب تحويل المال العملة التي استلمها إلى البنك أو الصراف ثانية بعد أن استلمها منه ليقوم بتحويلها، أو أن يحول المبلغ ويتسلمه المحال إليه، ثم يصرفه المحال إليه بعد تسلمه له بالتقابض مع الصراف.
القول الثاني: جواز هذا العقد
يرى أصحاب هذا القول جواز هذا النوع من المعاملات -الجمع بين الصرف والتحويل-وصحته، على اعتبار أن قيد المبلغ بالعملة المراد التحويل بها في حساب العميل، هو قبض حكمي يأخذ حكم القبض الحقيقي، بشرط أن يحمل تاريخ اليوم الذي تم فيه الصرف.
(1) أخرجه مسلم في صحيحة (3/ 1209)، برقم (1586)، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذه القول بعدة أدلة
أولاً: القياس على ما كان يحصل من ابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم، فعن عطاء رحمه الله أن ابن الزبير رضي الله عنهما كان يأخذ بمكة الورق من التجار فيكتب لهم إلى البصرة وإلى الكوفة فيأخذون أجود من ورقهم، قال عطاء: فسألت ابن عباس رضي الله عنه عن أخذهم أجود من ورقهم؟ فقال: «لا بأس بذلك ما لم يكن شرطا وبه نأخذ) " (1)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأخذ الورق بمكة على أن يكتب لهم إلى الكوفة بها (2).
وما يحصل اليوم من عملية صرف وتحويل هو بمثابة ما كان الزبير يقوم به بشرط أن يكون الإيصال المتحصل بتاريخ اليوم وسعر صرف اليوم، فإن قبض الإيصال يقوم مقام قبض محتواه، فهو كالنقود، فإذا كانت السفتجة تقوم مقام القبض، فالإيصال أيضاً يقوم مقامه.
ثانياً: حاجة الناس إلى هذه المعاملة اليوم، والحاجة هنا تنزل منزلة الضرورة، وفي إلزام الناس بالقول الأول حرج ومشقة، والمشقة تجلب التيسير، ورفع الحرج عن الأمة مقصد من مقاصد ديننا الحنيف، كيف وقد قال ربنا سبحانه وتعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج: آية (78).
(1) المبسوط للسرخسي (14/ 37).
(2)
المصدر السابق.
وقد جاء في قرارات المجمع الفقهي ما نصه: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً:
ا - القيد المصرفي بمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
أإذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة، أو بحوالة مصرفية
ب- إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل (1).
وجاء في قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة ما نصه: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة مودعة فيه (2).
الترجيح
بعد النظر في الأقوال والتمعن فيها يظهر والله أعلم جواز هذا العقد، وذلك للاعتبارات التالية:
أولاً: جُلُّ ما استدل به المانعون هو عدم حصول القبض بين الطرفين في عملية الصرف، وهو في مسألتنا متحصل بالقبض الحكمي وإن تأخر بعض الوقت للضرورة فلا وجه بعد ذلك للمنع.
(1) قرارات المجمع الفقهي رقم (53)(4/ 6)(ص: 113) وما بعدها.
(2)
قرارات المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي السابع في دورته الحادية عشر، انظر مجلة البحوث الإسلامية (51/ 373).
ثانياً: يغتفر التأخير اليسير الخارج عن إرادة المصرف، نظراً لاختلاف التوقيت بين دول العالم المختلفة، وكذلك اختلاف الإجازات الأسبوعية والأعياد، وعلى هذا الأساس فالتقابض لا يتم في الحال إلا إن هذا التأخير مغتفر هنا؛ إذ تعد المدة المستغرقة لتنفيذ الحوالة امتداداً لمجلس العقد للحاجة؛ لأنه من المتعذر ضبط وقوع القيدين في وقت واحد. (1)
وبهذا جاء قرار المجمع الفقهي: يغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسليم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسليم الفعلي (2).
ثالثاً: المصلحة الراجحة والحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة: فمن المتفق عليه أن كثيرًا من فئات المجتمع تحتاج إلى العملات الدولية للوفاء بالتزاماتها تجاه الآخرين، يصدق ذلك على الدول وعلى التجار والصناعيين وغيرهم حيث إن ثمن البضائع المستوردة يتم تسديده بواسطة العملات الدولية كالدولار والإسترليني وغيرهما. والحصول عليها ليس ممكنًا إلا من الأسواق الدولية وفقًا للطرق المتبعة حاليًا.
(1) العمولات المصرفية (ص: 255). وانظر مجلة مجمع الفقه (2/ 21281).
(2)
قرارات وتوصيات المجمع الفقهي (ص: 114)، مرجع سابق.
وعلى هذا يمكن القول: إن عمليات الصرف العاجل تفي بمصالح راجحة في الميزان الشرعي، كما أن في منع التعامل فيها مشقة وحرج وضياع مصالح معتبرة (1).
وخلاصة القول إن الأجل الذي يتخلل عمليات الصرف العاجل يمكن اعتباره يسيرًا، وغير مقصود لذاته، ولا يمكن الاحتراز عنه، مع حاجة الناس الماسة لهذا العقد، فيترجح القول بجواز التعامل بهذا العقد. والله أعلم
(1) بحث بعنوان: المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية إعداد الدكتور أحمد محيي الدين أحمد انظره في مجلة مجمع الفقه (2/ 21281).