الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: تكييف عقد بطاقات القيمة المخزنة بعقد سلم
وكما هي عادتنا في هذا البحث، نشرع أولاً ببيان العقد في الفقه الإسلامي، ومن ثم نذكر التخريج والتنزيل الفقهي للمسألة فنقول:
- السلم في الفقه الإسلامي
تعريف عقد السلم:
السلم لغة: ضرب من الشجر والسلم ما أسلفت به (1)، وفي مختار الصحاح: السلم بفتحتين السلف (2). والسلم لغة أهل الحجاز والسلف لغة أهل العراق، وسمي سلماً لتسليم رأس المال في المجلس وسلفاً لتقديمه (3).
السلم اصطلاحاً:
تعريف الحنفية: هو بيع آجل بعاجل (4). أو هو اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً وفي المثمن آجلاً (5).
تعريف المالكية: هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم (6).
(1) العين (7/ 266)، سلم
(2)
مختار الصحاح (1/ 131)، سلم
(3)
مغني المحتاج (2/ 102). والروض المربع (2/ 136).
(4)
الدر المختار (5/ 209).
(5)
الاختيار لتعليل المختار (2/ 35).
(6)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 378): أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي الوفاة: (671)، ط: دار الشعب - القاهرة، وقد نقلت هذا التعريف من تفسير القرطبي لعدم العثور على تعريف السلم في كتب الفقه المتوفرة لدي ـ على كثرتها ـ لدى السادة المالكية، بحسب اطلاعي القاصر.
تعريف الشافعية: عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً (1).
تعريف الحنابلة: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بأجل معلوم بثمن مقبوض بمجلس العقد (2).
من خلال التعريفات السابقة يتبين اختلاف الفقهاء في بعض شروط السلم، فالحنفية والحنابلة يشترطون لصحة السلم، قبض رأس المال في مجلس العقد، وتأجيل المسلم فيه احترازاً من السلم الحال.
أما الشافعية فيشترطون لصحة السلم قبض رأس المال في المجلس، وأجازوا كون السلم حالاً ومؤجلاً، فلم يقيدوا المسلم فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلاً؛ لجواز السلم الحال عندهم (3).
وأما المالكية فيمنعون السلم الحال، ولم يشترطوا تسليم رأس المال في مجلس العقد، بل وأجازوا تأجيله اليومين والثلاثة لخفة الأمر، فتعبير (أو ما هو في حكمها) يشير إلى جواز تأخير رأس مال السلم اليومين والثلاثة (4)، حيث إنه يعتبر في حكم التعجيل بناءً على أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقوله:(إلى أجل معلوم) يبين وجوب كون المسلم فيه مؤجلاً، احترازاً من السلم الحال (5).
(1) الشرح الكبير للرافعي (9/ 207)، وروضة الطالبين (4/ 3).
(2)
الروض المربع (2/ 136) وما بعدها.
(3)
انظر مثلاً الإقناع للماوردي (1/ 95).
(4)
انظر مواهب الجليل (4/ 518).
(5)
انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 192)، "سلم".
مشروعية السلم:
السلم جائز بالسنة وبالإجماع (1) فقد قال صلى الله عليه وسلم: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2).
وروى البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ عن محمد بن أبي المجالد قال أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقلت أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع قال ما كنا نسألهم عن
ذلك (3).
ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم، وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص (4).
والسلم كما يكون في الأعيان فإنه يكون في المنافع، وهذا هو الأصل فيصح السلم في المنافع كتعليم القرآن لأنها تثبت في الذمة كالأعيان (5).
(1) انظر مغني ابن قدامة (4/ 185)، والروض المربع (2/ 136).
(2)
أخرجه البخاري (2/ 781) برقم (2124) باب السلم في كيل معلوم. وأخرجه مسلم (3/ 1226)، برقم (1604)، باب السلم.
(3)
أخرجه البخاري (2/ 784)، برقم (2136)، باب السلم إلى أجل معلوم.
(4)
مغني ابن قدامة (4/ 185).
(5)
انظر الشرح الكبير للرافعي (9/ 316)، وروضة الطالبين (4/ 27)، ومغني المحتاج (2/ 114)، وانظر كشاف القناع (3/ 564).
أركان وشروط السلم:
لعقد السلم أركان وشروط، بيَّنها الفقهاء ونحن نذكرها باختصار شديد:
أركان عقد السلم أربعة (1): عاقدان وصيغة ورأس مال السلم والمُسلَم فيه، ولكلِّ منها شروط.
الركن الأول:
العاقدان: وهما المشتري الذي يسلف ماله مقابل السلعة التي يرغب بها، ويسمى المُسلِم. والبائع الذي يستسلف المال ليقدم السلعة بمقابله، ويسمى المسلَم إليه. ويشترط فيهما ما يشترط في البائع والمشتري في عقد البيع، من العقل والبلوغ والاختيار ونحو ذلك (2).
الركن الثاني:
الصيغة (3): وهي الإيجاب والقبول، ويشترط فيها ما يشترط في الصيغة في البيع من اتحاد المجلس وموافقة الإيجاب للقبول ونحو ذلك، ويضاف إلى ما سبق: أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، وفي العقد بغيرهما خلاف (4).
الركن الثالث:
رأس المال: وهو الثمن الذي يدفعه المشتري سلفاً إلى البائع، ويشترط فيه:
(1) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 296)، "سلم".
(2)
انظر المهذب (1/ 296).
(3)
الحنفية يقصرون الأركان على الإيجاب والقبول، أو يقولون وأركانه أركان البيع وأركان البيع عندهم هي الإيجاب والقبول، وقد يعبرون عنها بالمبادلة. انظر البحر الرائق (6/ 168).
(4)
انظر المهذب (1/ 297).
أ - أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة (1)، واشترط بعض الفقهاء أن يكون الثمن نقدا (2) وإلا لم يكن سلماً.
ب - تسليم رأس المال من رب المال في مجلس العقد وقبض المسلَم إليه له (3)، وذلك قبل تفرق أبدانهما، لأن التسليم هو أصل معنى السلم، فإذا لم يوجد ذلك لم يوجد العقد، ولأنه يصير في معنى بيع الدين بالدَّيْن، وهو منهي عنه كما علمت.
الركن الرابع:
المسلم فيه: وهو الشيء المبيع "محل العقد"، الذي تعهّد البائع بتأديته إلى المشتري، مقابل رأس مال السلم المدفوع سلفاً ويشترط فيه:
أ - أن يكون المبيع (المسلم فيه) ديناً في الذمة؛ لأن السلم السلف (4). وأن يكون مما يمكن ضبطه بالوصف الذي تختلف به الأغراض (5)، بحيث تنتفي الجهالة عنه، ولا يبقى إمكان للاختلاف بين أفراد جنسه إلا بتفاوت يسير يتساهل الناس به عادة، واشترط بعض الفقهاء أن يكون المسلم فيه مقدوراً على تسليمه عند وجوب التسليم (6).
(1) انظر كفاية الأخيار (1/ 253).
(2)
مغني المحتاج (2/ 102). الروض المربع (2/ 145).
(3)
أنظر المصدر السابق، والمغني (4/ 197).
(4)
انظر حاشية ابن عابدين (5/ 209)، ومنح الجليل (4/ 434)، والوسيط (3/ 424)، والمغني (4/ 185).
(5)
انظر كفاية الأخيار (1/ 250). والمغني (4/ 185).
(6)
مغني المحتاج (2/ 106). الروض المربع (2/ 144).
ب - أن يكون معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة للمتعاقدين (1)، بحيث تنتفي عنه الجهالة.
- التكييف الفقهي
يمكن أن ننزل هذه المسألة منزلة السلم، وبالتحديد سلم المنافع وقد نص الفقهاء كما مر معنا على جوازه، بل الأصل أن المنافع تبع للأعيان، وعقد السلم واضح في مسألتنا إذ أن العميل يقدم الثمن، ويؤخر البائع المثمن وهو المنفعة وهذا هو عين السلم.
ملاحظة:
بطاقات الوقود وبطاقات آلات التصوير، لا يتناولهما هذا التكييف، بل يمكن القول إنهما سلم أعيان؛ لأن المعقود عليه فيهما هو عين (الوقود، والأوراق والحبر) وليس منفعة كما في بقية البطاقات.
بيان التكييف
- جهات عقد السلم
المسلِم: المشتري أو العميل طالب البطاقة
المسلم إليه: الشركة المصدرة للبطاقة، أو التاجر
المسلم فيه: منفعة البطاقة
رأس المال: الثمن المدفوع من قِبل المسلِم
(1) انظر الهداية شرح البداية (3/ 71). مغني المحتاج (2/ 108). المغني (4/ 192).
- التنزيل الفقهي
أولاً: ذهاب العميل للتاجر لطلب البطاقة ودفعه للثمن، وأخذه البطاقة لا يعد استيفاءً للمنفعة التي يريدها، بل إن المنفعة تظل في ذمة الشركة لحين استيفاء المشتري لها عبر الوسيط (البطاقة).
ثانياً: الثمن الذي يدفعه المشتري للبائع هو نقد معلوم قبضه البائع في مجلس العقد، ومقابله منفعة في الذمة، وهذا هو عين ما اشترطه الفقهاء في السلم كما علمت.
ثالثاً: المنفعة التي في ذمة البائع أو الشركة للمشتري لهذه البطاقات منفعة معلومة الجنس والنوع والقدر والصفة، ويمكن للشركة تسليمها في الوقت المتفق عليه أو المحدد على البطاقة، وهذا أيضاً ما نص الفقهاء عليه في المسلم فيه كما سبق بيانه.
رابعاً: قيام المشتري باستخدام منفعة البطاقة يُعدُّ استيفاءً منه للمنفعة التي في ذمة الشركة، ووفاءً من الشركة لما في ذمتها.
وبهذا تجد التوافق بين العقد على هذه البطاقات وباب السلم في الفقه الإسلامي، أركاناً وشروطاً.
- أدلة هذا التكييف
يمكن الاستدلال لهذا التكييف بما يلي:
أولاً: تشابه الصور بين سلم المنافع ومسألتنا، حيث صوَّر الفقهاء السلم في المنفعة فقالوا: إن صورة المسألة أن يقول أسلمت إليك كذا في عبد صفته
كذا، ويحفظ من القرآن كذا (1). والمعنى كأن يقول المسلِم أسلمت لك ألف دينار ـ مثلاً ـ في منفعة عبد صفته كذا ويحفظ من القرآن كذا؛ ويكون مراده منفعة علم العبد وحفظه، فيكون المقابل للثمن منفعة العبد المؤجلة.
وهذا هو عين تصوير مسألتنا، إذ أن الثمن الذي يدفعه المشتري يقابله منفعة موصوفة في الذمة، وليس الثمن هو لذات البطاقة البلاستيكية، فيكون الثمن مقابل سلم منفعة البطاقة والتي هي الاتصال أو غيرها من المنافع التي تُشترى لأجلها البطاقة.
ثانياً: إهمال المشتري لعين البطاقة وإتلافه لها بعد استيفاء المنفعة المرجوة من خلالها، دليلٌ على أن المحل المعقود عليه ليس عين البطاقة، بل المنفعة المتحصلة من خلالها.
ثالثاً: منفعة البطاقة ليست متمحضة في ذات البطاقة، أو متحصلة من عينها، بل من الشركة المصدرة لها، والتي عليها تضمين البطاقة لتلك المنفعة أو سلبها منها، فتكون حقيقة المنفعة في ذمة الشركة وليست مستوفاة من ذات البطاقة، بدليل أن المشتري يرجع على الشركة عند تعذر الاستيفاء.
لكل ما سبق يمكن القول إن تكييف العقد على هذه البطاقات هو عقد سلم على المنافع وهو معلوم للمتأمل.
- الحكم الشرعي
المسألة بهذا التكييف تُعَيِّنُ علينا القول بجواز هذا العقد، إذ أن العقد على
سلم المنافع عقد جائز في الشريعة الإسلامية، فقد جوَّز الفقهاء سلم المنافع
(1) حاشية الرملي (2/ 137).
فقالوا: يصح السلم في المنافع كتعليم القرآن لأنها تثبت في الذمة كالأعيان (1). وقالوا أيضاً: إن السلم يجري في المنافع كالأعيان فإن لم تحصل المعرفة بها ـ أي الصفة ـ بأن لم يذكر من صفاته ما يكفي في السلم، أو كانت الصفة لا تأتي فيها ـ أي المؤجرة ـ (كالدار والعقار) من بساتين ونخيل وأرض فتشترط مشاهدته وتحديده (2).
(1) انظر الشرح الكبير للرافعي (9/ 316)، وروضة الطالبين (4/ 27)، ومغني المحتاج (2/ 114).
(2)
كشاف القناع (3/ 564).