الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: تكييف عقد بطاقة القيمة المخزنة باعتبارها عقد إجارة
وسنشرع أولاً بيان عقد الإجارة في الفقه الإسلامي كما هي عادتنا فنقول:
تعريف الإجارة:
الإجارة في اللغة: الهمزة والجيم والراء أصلان يمكن الجمع بينهما بالمعنى، فالأول الكراء على العمل، والثاني جبر العظم الكسير، فأما الكراء فالأجر والأجرة، وكان الخليل يقول: الأجر جزاء العمل، والفعل أجر (1). والإجارة من أجر يأجر وهو ما أعطيت من أجر في عمل (2).
الإجارة في اصطلاح الفقهاء:
تعريف الحنفية: هي تمليك منفعة بعوض (3).
تعريف المالكية: بيع منافع معلومة بعوض معلوم (4).
تعريف الشافعية: تمليك منفعة بعوض (5).
تعريف الحنابلة: بذل عوض معلوم في منفعة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو في عمل معلوم (6).
(1) معجم مقاييس اللغة (1/ 62)"أجر".
(2)
لسان العرب (4/) 10"أجر". والعين (6/ 173)، "أجر".
(3)
المبسوط (23/ 79).
(4)
التاج والإكليل (5/ 389).
(5)
الإقناع للشربيني (2/ 347). وروضة الطالبين (5/ 173).
(6)
الإنصاف (2/ 3).
وهكذا نجد الفقهاء اتفقوا على تعريف الإجارة بأنها بيع المنافع أو تمليكها بعوض معلوم لمدة معلومة. وهذا في الإجارة الحاضرة، أما الإجارة الواردة على الذمة: فيكون الحق في المنفعة المعقود عليها متعلقاً بذمة المؤجر.
مشروعية الإجارة:
الأصل في جواز الإجارة الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} سورة الطلاق آية (6)، فقد أمر الله تعالى الآباء بإعطاء الأجر على الإرضاع، فدلّ على أن الأجر حق للمرضعة، وهي لا تستحقه إلا بالعقد، إذ لو أرضعت بدون عقد كانت متبرعة، والمتبرع لا يستحق شيئاً، فكان ذلك دليلاً على مشروعية العقد.
وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} سورة القصص آية (26) وقال الله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} سورة الكهف آية (77) وفي الآيتين دليل على جواز أخذ الأجرة على العمل.
أما السنة: فقد وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله عز وجل ثلاثة أنه خصمهم يوم القيامة
رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" (1).
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر يعني أنه يعقد على منافع لم تخلق، وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار وسار في الأمصار، والعبرة أيضا دالة عليها فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك (2).
أركان الإجارة وشروطها:
للإجارة عند الجمهور أركان أربعة (3) وهي: عاقدان، وصيغة، ومنفعة، وأُجرة، وأما الحنفية فذهبوا إلى أن (الصيغة) الإيجاب والقبول هما ركنا الإجارة (4).
الركن الأول:
العاقدان: وهما المؤجِّر والمستأجر.
(1) أخرجه البخاري (2/ 776)، برقم (2114)، باب إثم من باع حراً، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ 333)، برقم (7339)، ذكر وصف أقوام يكون خصمهم في القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر بدائع الصنائع (4/ 473). والمغني (5/ 250).
(3)
انظر التاج والإكليل (5/ 389)، والشرح الكبير للرافعي (12/ 175). ومغني المحتاج (2/ 332).
(4)
بدائع الصنائع (4/ 174).
ويُشترط في كلَّ منهما أن يكون راضياً وأهلا للتعاقد بأن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يصح عقد الإجارة من مجنون ولا صبي (1)، لأن كلاً منهما لا ولاية له على نفسه ولا على ماله. وأن يكون غير محجور التصرف في المال، لأنها عقد يُقصد به المال، فلا يصحّ إلا من جائز التصرف فيه (2).
الركن الثاني:
الصيغة: وهي الإيجاب والقبول
فالإيجاب: كلُّ لفظ يصدر من المؤجر ويدل على تمليك المنفعة بعوض دلالة ظاهرة، سواء كان بلفظ الإجارة أو ما يدل عليها (3).
والقبول: كل لفظ يصدر من المستأجر ويدل على الرضا بتملك المنفعة دلالة ظاهرة. ويشترط فيها ما يشترط في الصيغة في البيع من اتحاد المجلس وموافقة الإيجاب للقبول ونحو ذلك (4)، إذ أنها نوع من أنواع البيع.
الركن الثالث:
المنفعة: ويشترط فيها شروط عدة، منها: أن تكون متقوَّمة (5)، أي معتبرة ومقصودة شرعاً أو عرفاً، ليحسن بذل المال في مقابلتها ويشترط أيضاً
(1) يستثني الحنفية الصبي في عقد الإجارة فتصح عندهم منه إن كان مأذوناً له غير محجور عليه، وإلا توقفت على إجازة الولي. انظر بدائع الصنائع (4/ 176).
(2)
انظر بلغة السالك (3/ 467)، المهذب (1/ 395)، والمغني (5/ 251). وقد شرط الفقهاء الأهلية في الإجارة لأنها نوع من أنواع البيع.
(3)
انظر بدائع الصنائع (5/ 133)، بلغة السالك (3/ 467). أما الإجارة بلفظ البيع فللشافعية والحنابلة فيها وجهان: الصحة وعدمها، انظر الوسيط (4/ 154)، والمهذب (1/ 395). وانظر الكافي (2/ 300). والمغني (5/ 251).
(4)
انظر بدائع الصنائع (4/ 174).
(5)
انظر بدائع الصنائع (4/ 175).
تسليمها أو القدرة على استيفائها (1)، وأن تكون معلومة للعاقدين عيناً وصفة وقدراً (2)، واختلفوا في أجرة المشاع على قولين:
الأول: عدم جواز إجارة المشاع من غير الشريك، وهو قول أبي حنيفة (3)، والحنابلة (4)؛ لأن المعقود عليه مجهول لجهالة محله، إذ الشائع اسم لجزء من الجملة غير معين من الثلث والربع ونحوهما وإنه غير معلوم فأشبه إجارة عبد من عبدين (5).
الثاني: الجواز وهو قول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة (6)، والمالكية (7)، والشافعية (8)، واختاره بعض الحنابلة وأومأ إليه أحمد (9). كلهم قالوا بجواز إجارة المشاع من الشريك وغيره، وجواز رهنه وبيعه
دليل على جواز إجارته؛ ولأن كل عقد صح مع الشريك صح مع غيره كالبيع (10).
(1) انظر بدائع الصنائع ج 4/ 179). وكفاية الأخيار (1/ 295)، والمغني (5/ 251) وما بعدها.
(2)
انظر بدائع الصنائع (4/ 187)، والشرح الكبير لابن قدامة (6/ 5).
(3)
انظر المبسوط للسرخسي (16/ 32). ووانظر بدائع الصنائع (4/ 180).
(4)
انظر الكافي (2/ 304).
(5)
انظر المبسوط للسرخسي (16/ 32).
(6)
انظر بدائع الصنائع (4/ 180).
(7)
انظر موهب الجليل (5/ 422).
(8)
انظر روضة الطالبين (5/ 184).
(9)
انظر المغني (5/ 321)، والكافي (2/ 304).
(10)
الحاوي الكبير (7/ 445).
الركن الرابع:
الأجرة: ويشترط فيها ما يشترط في الثمن في عقد البيع؛ لأن الأجرة في الحقيقة هي ثمن المنفعة المملوكة بعقد الإجارة. فيشترط فيها: أن تكون مالاً متقوماً ومعلوماً وغير ذلك (1).
وهل يشترط قبض الثمن أو الأجرة في مجلس العقد؟ اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال خلاصتها ما يلي:
القول الأول: للحنفية
فالحنفية لا يشترطون تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأن الأجرة عندهم تستحق باستيفاء المعقود عليه، والمستأجر لم يستوف المعقود عليه أثناء العقد، لأنها تحدث شيئاً فشيئاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"(2)، ولو وجبت بنفس العقد لما جاز تأخيرها إلا برضاه، والنص يقتضي الوجوب بعد الفراغ؛ لأن العرق إنما يوجد بالعمل (3).
(1) انظر بدائع الصنائع (4/ 193).
(2)
أخرجه ابن ماجة، (2/ 817) برقم (2443)، باب إجارة الأجير على طعام بطنه، والطبراني في المعجم الصغير باب الألف من اسمه أحمد (1/ 43)، برقم (43). والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 121) برقم (11439)، باب إثم منع الأجير أحره. قال في تلخيص الحبير: رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والطبراني في الصغير من حديث جابر وفيه شرقي بن قطامي وهو ضعيف ومحمد بن زياد الراوي عنه، وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي من حديث أبي هريرة، وهذا الحديث ذكره البغوي في المصابيح في قسم الحسان وغلط بعض المتأخرين من الحنفية فعزاه لصحيح البخاري وليس هو فيه وإنما فيه من حديث أبي هريرة مرفوعا ثلاثة أنا خصمهم فذكر فيه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره. تلخيص الحبير (3/ 59).
وقال في نصب الراية بعد أن ضعف طرقه كلها: ومعنى الحديث في الصحيح أخرجه البخاري عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره انتهى. نصب الراية (4/ 129) وما بعدها.
(3)
الاختيار لتعليل المختار (2/ 58).
القول الثاني: للمالكية والشافعية
أما المالكية فيفرقون بين أن تكون الأجرة على عين أو على منفعة، فيشترطون تعجيل الثمن إن كانت الأجرة على المنفعة؛ لاستلزام التأخير حصول بيع الدين بالدين (1)، وتعمير الذمَّتين. وأما الأجرة على العين فلا يضر تأخير اليومين والثلاثة؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه (2).
وأما الشافعية فإنهم أيضاً لا يشترطون إن كانت الأجرة على عين تسليم الأجرة في مجلس العقد، بخلاف إن كانت الأجرة على منفعة فإنهم يشترطون ذلك (3)؛ لئلا يلزم بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علمت (4).
القول الثالث: للحنابلة
أما الحنابلة فيقولون إن جرت الإجارة على موصوف في الذمة بلفظ السلم، كأسلمتك هذا الدينار في منفعة عبد صفته كذا وكذا؛ لبناء حائط مثلاً، وقَبِل المؤجر اُعتبر قبض الأجرة بمجلس العقد؛ لئلا يصير بيع دين بدين وأعتبر
(1) المقصود بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. سبق
تخريجه (ص: 212).
(2)
انظر الشرح الكبير للدردير (4/ 3).
(3)
انظر روضة الطالبين (1/ 76) .. (5/ 174). والإقناع للشربيني (2/ 349).
(4)
كفاية الأخيار (1/ 296).
تأجيل النفع إلى أجل معلوم كالسلم، فدل أن السلم يكون في المنافع كالأعيان، فإن لم تكن بلفظ السلم ولا السلف لم يعتبر ذلك (1).
والخلاصة:
أن تسليم الأجرة في مجلس العقد قبل استيفاء المنفعة، شرط في حالة كون المعقود عليه منفعة في الذمة، عند المالكية والشافعية بإطلاق، والحنابلة إن كان العقد بلفظ السلم أو السلف، أما الحنفية فلا يشترطون ذلك لما قد علمت.
وهل تتعين المنفعة ببيان العمل والمدة معاً؟ كأن يقول شخص لآخر: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب اليوم. فقد عين المنفعة بالعمل، وهو خياطة الثوب، كما عينه بالمدة، وهو كلمة: اليوم، فهل يجوز ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: لأبي حنيفة (2)، والشافعية (3)، ورواية عند الحنابلة (4).
يرى أصحاب هذا القول عدم جواز هذا العقد، إذ العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل إذ يعتبر أجيراً خاصاً، وببيان العمل يصير أجيراً مشتركاً، ويرتبط الأجر بالعمل.
(1) شرح منتهى الإرادات (2/ 252).
(2)
انظر بدائع الصنائع (4/ 185).
(3)
انظر المهذب (1/ 396).
(4)
انظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 356): عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني الوفاة: (652)، ط: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الثانية - (1404 هـ).
القول الثاني: لصاحبي أبي حنيفة (1)، والمالكية (2)، ورواية عند الحنابلة (3).
يرى أصحاب هذا القول جواز الجمع بين التعيين بالعمل والمدة، لأن المقصود في العقد هو العمل، وذكر المدة إنما جاء للتعجيل.
- التكييف الفقهي
يمكن تكييف مسألتنا بأنها إجارة ولكن إجارة منافع، إذ أن المعقود عليه هي منفعة البطاقة وهذه المنفعة المعقود عليها متعلقة بذمة الشركة، ومن شروط إجارة المنفعة تقديم الثمن في مجلس العقد ـ عند المالكية والشافعية ـ بخلاف إجارة الأعيان، فإنه لا يشترط نقد الثمن في المجلس، وبهذا الشرط يتداخل هذا التكييف بالتكييف السابق القاضي بأنها سلم منافع، عند من يشترطه، ولا يتداخل عند من لم يشترطه ـ كالحنفية والحنابلة ـ ويبقى الفارق هو في لفظ العقد، لذا نجد بعض الفقهاء يشترط اللفظ في العقد لصحته ولتمييزه، كلفظ أسلمتك أو أسلفتك، وهذا واضح عند الحنابلة كما بينا سابقاً، ولذا أحببت أن أذكر التكييفين منفصلين باعتبار أن لكلٍ من الفقهاء شروطه وينبني عليها تكييفاً مستقلاً.
(1) بدائع الصنائع (4/ 185).
(2)
وَحَاصِلُ ما في الْمَسْأَلَةِ عند المالكية أَنَّهُ إنْ جَمَعَ بين الزَّمَنِ وَالْعَمَلِ فَإِنْ كان الزَّمَنُ مُسَاوِيًا لِلْعَمَلِ فَحَكَى ابن رُشْدٍ الِاتِّفَاقَ على الْمَنْعِ وَذَكَرَ ابن عبد السَّلَامِ أَنَّهُ أَحَدُ مَشْهُورَيْنِ وَالْآخَرُ عَدَمُ الْفَسَادِ وَإِنْ كان الزَّمَنُ أَوْسَعَ من الْعَمَلِ جَازَ اتِّفَاقًا عِنْدَ ابْنِ عبد السَّلَامِ وَمُنِعَ عِنْدَابْنِ رُشْدٍ على الْمَشْهُورِ. انظر حاشية الدسوقي (4/ 12).
(3)
المحرر (1/ 356).
ولكن ينبغي ملاحظة أن هذا العقد على هذا التكييف قد جمع بين التعيين بالعمل، وهو تلك الخدمات التي توفرها البطاقة، وبين المدة وهي توقيت تلك الخدمات بفترة صلاحية محددة، والمسألة مختلف فيها من حيث جواز هذا الجمع كما بينا عند الكلام على الإجارة في الفقه الإسلامي.
ملاحظة:
هذا التكييف لا يتناول بطاقات الوقود وأشباهها ـ كبطاقة التصوير الورقي ـ، إذ أن المعقود عليه فيها هو عين (الوقود) وليس المنفعة.
* استشكال ودفعه:
قد يشكل على هذا التكييف أن عين المنفعة (تلك الخدمات) ليست محددة، فالشركة لم تحدد للمستأجر الخط الذي من خلاله يتحصل على المنفعة.
ولكن في الحقيقة أنه لا إشكال في ذلك؛ لأنه يمكن القول إن هذه الإجارة من قبيل أجرة المشاع؛ لأن المشاع مقدور على الانتفاع به عن طريق المهايأة الزمنية، بأن يتناوب المشترون لهذه البطاقات في استيفاء منفعة الاتصال مثلاً من خطوط هذه الهيئة (1)، كما أن أجرة المشاع جائزة كما علمت عند صاحبي أبي حنيفة، والمالكية، والشافعية، وبعض الحنابلة رحمهم الله جميعاً (2).
(1) البطاقات مسبقة الدفع وأحكامها الفقهية بتصرف (ص: 52).
(2)
راجع المسألة بتمامها في هذا المطلب عند الكلام على أركان الإجارة وبالتحديد الركن الثالث (ص: 345).
بيان التكييف
- جهات عقد الإجارة
ويتضح تكييف مسألتنا بأنها عقد إجارة على المنافع من خلال التنزيل الفقهي التالي:
المؤجر: الشركة المصدرة.
المستأجر: العميل أو مشتري البطاقة.
العين المؤجرة: منفعة البطاقة.
الأجرة: ثمن المنفعة التي يدفعه المشتري.
- التنزيل الفقهي
أولاً: طلب العميل من التاجر أو الشركة شراء البطاقة، يمثل طلب استئجار منفعة البطاقة، لأن العميل لا يريد حقيقة شراء البطاقة البلاستيكية، وإنما يريد المنفعة التي لا يمكنه التوصل لها إلا بالبطاقة.
ثانياً: منفعة البطاقة التي طلبها العميل تمثل طلب عقد إجارة، وليس شراءً لها، بدليل أنها مؤقتة بمدة معينة، وهذا سبيل عقد الإجارة وليس البيع.
ثالثاً: تسليم العميل للثمن في مجلس العقد وبقاء المنفعة في ذمة الشركة، يمثل حقيقة عقد إجارة المنفعة على الذمة.
رابعاً: وفاء الشركة بتسليم المنفعة للعميل يعد إيفاءً بالمعقود عليه من قِبل الشركة، وعدم الإيفاء يعد إخلالاً بالعقد ويحق للعميل الرجوع على الشركة بما في ذمتها.
خامساً: إهمال العميل للبطاقة بعد أخذ التعرفة وتخَلِيه عنها دليل على أن المعقود عليه ليس عين البطاقة وإنما المنفعة المتحصِّلة عن طريق تعرفة البطاقة.
- أدلة هذا التكييف
يمكن الاستدلال لهذا التكييف بما يلي:
أولاً: حقيقة المعقود عليه هي منفعة وليست عيناً، بدليل إهمال البطاقة بعد تمام أخذ التعرفة منها وطلب المنفعة من الشركة المصدرة.
ثانياً: عند الخلل في رقم التعرفة أو تلف البطاقة بتقصير من الشركة، فإن العميل يرجع على الشركة بطلب إيفاء المنفعة وليس طلب العين وهذا يدل على أن العقد على المنفعة لا العين.
ثالثاً: توقيت المنفعة المستفادة يدل على نوعية العقد، إذ العقود المؤقتة غالباً ما تكون عقود تأجير.
رابعاً: دفع الثمن في مجلس العقد دليل على نوعية العقد، إذ أن عقد الإجارة على المنافع يُشترط فيه دفع الثمن في مجلس العقد عند المالكية والشافعية (1)، ولا يمنع الحنفية والحنابلة من ذلك وإن لم يشترطوه.
خامساً: حقيقة المنفعة بعد التأمل يظهر لي أنها عبارة عن خطوط أو خدمات متعددة تمتلكها شركات تتاجر بتأجيرها لفترات زمنية معينة عبر تعريفات مرسومة على البطاقات التي تصدرها، وعند انتهاء الفترات الزمنية المحددة تقوم بتأجيرها لأشخاص آخرين عبر نفس الطريقة.
(1) انظر ذلك عند الكلام على الإجارة في الفقه الإسلامي من هذا الممطلب.
سادساً: هذه الخدمات تظل في ذمة الشركات لحين طلب مشتريها عبر تعرفة البطاقات، وهذا هو عين إجارة المنافع على الذمة.
- الحكم الشرعي
يتبين من خلال التكييف السابق أن هذا العقد متوافق في التنزيل الفقهي مع عقد إجارة المنافع على الذمة، وهو عقد جائز في الشريعة الإسلامية، ولكن مع اعتبار شروط ذلك العقد عند من يشترطها وهم السادة الفقهاء المالكية، والسادة الفقهاء الشافعية، ومن أهمها شرط تسليم الثمن في مجلس العقد وعدم جواز تأخيره؛ لاجتناب الوقوع في بيع الدَّين بالدَّين المنهي عنه في الشرع، إذ بتأخير الثمن وتأخير المثمن يقع المكلف في ذلك النهي. أما عند السادة الفقهاء الحنفية والحنابلة، فلا يُشترط ذلك، ولهم أدلة أهمها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"(1)، قالوا: ولو وجبت الأجرة بنفس العقد لما جاز تأخيرها إلا برضاه، والنص يقتضي الوجوب بعد الفراغ، لأن العرق إنما يوجد بالعمل (2).
وقول المالكية والشافعية أدقُّ عند النظر، إذ أن دليل الحنفية والحنابلة عام مخصوص، بمعنى أن نقد الثمن في إجارة المنافع التي في الذمة لا يتناوله الحديث السابق، والمخصص هو النهي عن بيع الدين بالدين.
(1) سبق تخريجه (ص: 346).
(2)
الاختيار لتعليل المختار (2/ 58).
الترجيح
بعد تدقيق النظر في التكييفات السابقة ترجح لدي أن العقد على هذه البطاقات عقد بيع للاعتبارات التالية:
أولاً: القول بأن هذا العقد عقد سلم منفعة ليس بدقيق؛ لتسلم المشتري البطاقة فوراً، بل وحتى تسلمه منفعة البطاقة حالاً بعد نقده لثمنها بدليل أنه بإمكانه استخدام المنفعة كاملة فور قبضه البطاقة (1)، فلا يبقى لصورة السلم حينئذ مكانٌ لتُكيَّف المسألة به، وقد اشترط الفقهاء في عقد السلم كما علمت تأخير المسلم فيه عن الثمن؛ لأن لفظ السلم بمعنى السلف وهو الدَّين.
ثانياً: تكييف المسألة بكونها إجارة منفعة في الذمة يرد عليه الإيراد السابق وهو أن المنفعة ليست في الذمة، بل متحصلة فور قبض المشتري البطاقة.
ثالثاً: التكييف بعقد البيع ينسجم على كل أنواع بطاقات القيمة المخزنة، بخلاف تكييفها بعقدي السلم على المنفعة أو إجارة المنافع فإنهما لا ينطبقان على بطاقة الوقود وأشباهها؛ لأن المعقود عليه فيها هو عين (الوقود) وليس منفعة، وعليه يمكن أن تُخرَّج على أنها سلم أعيان أو إجارة منفعة حاضرة، وهو الأقرب ولكن يظل الأقرب منه أن تكيف بعقد البيع.
رابعاً: التكييف بعقد الإجارة يورد عليه إشكالات كثيرة، تتمثل بمنعه عند بعض الفقهاء على الصورة التي يجري عليها من حيث جواز الجمع بين
(1) هل يمكن القول بإلحاقها بالقبض الحكمي التي قررته المجامع الفقهية للشيكات وأوراق الحوالات الصادرة من شركات التحويل؟ يرى الباحث أنه لا فرق بين كل ذلك، فالبطاقات ذات القيمة المخزنة قد تكون أولى بهذا الحكم من الشيكات الورقية من حيث كونها أكثر ضماناً للأموال التي فيها، بل عدها البعض نقوداً بذاتها وإن كانت إلكترونية.
منعفة العمل والمدة. وباشتراط نقد الثمن في مجلس العقد على اعتبار أنها إجارة منفعة في الذمة، مما يضيق على البائع والمشتري.
لهذا كله ترجح لديَّ القول بأن عقود هذه البطاقات عقود بيع لها كل أحكامه المترتبة عليه في الشريعة الإسلامية الغراء وهو القول الأسلم. والله أعلم