الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: التكييف الشرعي للإيداع بعملة مغايرة لما في الرصيد في بطاقة الصراف الآلي
- تصور المسألة
يقوم العميل بإيداع نقد يختلف عن النقد الذي في رصيده، بعد أن يدخل البطاقة في الصراف الآلي للتعريف بهويته، وذلك بفتحة خاصة في جهاز الصراف الآلي.
- التمثيل
عميل لديه حساب بالدينار في مصرف بيت التمويل الكويتي، يودع في حسابه عن طريق الصراف الآلي مائة ريال، على أن يقوم مصرفه بعملية الصرف أولاً، ثم يضمها لحسابه بعد ذلك.
- محور البحث
يتمثل محور البحث في مسألتنا هذه، في مشروعية الإيداع في الحساب بعملة مغايرة، وكذا مشروعية العمولة التي يأخذها المصرف لهذه العملية.
التكييف الشرعي
تكييف هذه المسألة تكلمنا عنه بالتفصيل عند الكلام حول تكييف فتح الحساب لدى المصارف، وترجح لدينا أن الأقرب للصواب أن تكيف بعقد القرض، فالمودع (العميل) مقرض، والمصرف مقترض، وبيَّنا ذلك بالأدلة على وجه التفصيل (1)، وليس ثَمَّة فرق مؤثر في طريقة الإيداع.
(1) راجع إن شئت (ص: 155) وما بعدها.
ولكن ثمة اختلاف ليس باليسير في مسألتنا هذه، يتمثل باختلاف العملة المودعة أو المراد إيداعها، إذ أنها تختلف عن نوع العملة التي في رصيد العميل، ولهذا الاختلاف أثرٌ على هذا العقد من حيث الصحة عند بعض الباحثين، ولذا اختلف تكييفهم الشرعي كما يلي:
التكييف الأول: عقد قرض وصرف
يرى بعض الباحثين (1) أنه اجتمع في هذه المسألة عقدان، الأول: عقد السلف وهو بمعنى القرض، والثاني: عقد الصرف وهو نوع من أنواع البيوع.
بيان التكييف:
- جهات عقد القرض
المقرض: هو العميل المودع
المقترض: المصرف المودع فيه
القرض: المبلغ المودَع
- جهات عقد الصرف
طالب الصرف: العميل المودع
القائم بالصرف: المصرف المودَع فيه
الصيرفة: تحويل النقود من العملة المودعة إلى العملة في رصيد العميل.
الحكم الشرعي على هذا التكييف
(1) انظر أحكام التعامل مع أجهزة الصراف الآلي (ص: 188).
يرى القائلون بهذا التكييف منع الإيداع بالنقد المغاير لما في الرصيد، ويستدلون لقولهم بأنه قد ورد النهي النبوي عن اجتماع السلف والبيع في عقد واحد؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن بيع وسلف وعن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما ليس عندك"(1).
وفي مسألتنا هذه يتبين اجتماع العقدين في مسألة واحدة، إذ أن الصرف نوع من أنواع البيوع؛ وقد يتمكن المقرض من الوصول إلى ربا القرض، في المحاباة بسعر الصرف (2).
(1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8/ 39)، برقم (14215). وأحمد في المسند (2/ 174)،
برقم (6628). وأخرجه أيضاً النسائي في سننه (7/ 295)، برقم (4631)، باب شرطان في بيع. والبيهقي في الكبرى (5/ 313)، برقم (10464)، باب النهي عن بيع ما لم يقبض. قال في المطالب العالية: هذا منقطع بين عطاء وعتاب مع ضعف ليث بن أبي سليم. انظر المطالب العالية لابن حجر (7/ 293)، برقم (1398)، ط، دار الغيث، السعودية، الطبعة الأولى، (1419 هـ).
(2)
انظر أحكام التعامل مع أجهزة الصراف الآلي (ص: 188).
التكييف الثاني: الاعتياض عن القرض بغير جنسه
يمكن أن تكيف المسألة بكونها صورة من صور صرف ما في الذمة أو على الذمة، حيث إن العميل الدائن يقرض المصرف بنقد ما، ثم يستوفي العميل قرضه منه بنقد آخر؛ فتكون من باب اقتضاء الدائن بأحد النقدين من المدين بالنقد الآخر، أو الاعتياض عن القرض بغير جنسه؛ بشرط أن يبقي المصرف العملة المودعة دون صرف في حساب العميل، حتى وقت الطلب فيقوم المصرف بعملية الصرف؛ كأن يودع العميل في مصرفه بعملة مغايرة ـ ريالات مثلاًـ، فيضيفها المصرف إلى حساب العميل الذي يكون بالدنانير، دون صرف، فإذا طلبها العميل قام المصرف بصرف الريالات إلى دنانير ومن ثَمَّ يسلمها للعميل.
حكم هذه الصورة
وحكم هذه الصورة كما سبق وأن بيَّناه جائزٌ على مذهب الحنفية (1)، والشافعية في الجديد (2)، والحنابلة (3)، وهو قول أكثر أهل العلم (4)، بشرطين:
1 -
أن يُقبض البدل في مجلس العقد
2 -
وأن تكون بسعر يومها
(1) انظر بداية المبتدي (1/ 144).
(2)
انظر مغني المحتاج (2/ 70)، والإقناع للشربيني (2/ 280).
(3)
انظر المعني (4/: 51) وما بعدها.
(4)
انظر المصدر السابق.
أما اشتراط التقابض، وأن يكون الصرف بسعر اليوم، فمعلوم من النص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيما روى ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير أخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1).
وأيضاً، فإذا قضاه بسعر يومها ولم يجعل للمقضي فضلاً لأجل تأجيل ما في الذمة، لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم، ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل (2).
وعليه يمكن القول بجواز هذه المسألة بالشرطين السابقين:
1 -
أن يُقبض البدل في مجلس العقد
2 -
وأن تكون المصارفة بسعر يومها
وهذان الشرطان يقتضيان بقاء العملة المغايرة في ذمة المصرف من غير صرف حتى وقت طلبها، وعند الطلب يتم الصرف وبسعر يوم الطلب لا يوم الإيداع، فيكون من باب الاعتياض عن القرض بغير جنسه كما ذكرنا،
(1) سبق تخريجه قريباً.
(2)
المغني (4/ 51) وما بعدها.
ويجوز للبنك أن يتولى عقد الصرف لوحده إن أذن له الطرف الآخر (1)، ولكن مع وجوده ليتم القبض.
ولكن الملاحظ على المصارف غير هذا؛ فإنها تقوم بعملية الصرف ومن ثَمَّ الإيداع، بمعنى أنها لا تبقي العملة على حالتها، مما يجعل القول بهذا التكييف بعيداً عن واقع المصارف اليوم، ولكن يمكن اعتباره مخرجاً شرعياً لها، عند من يمنع الإيداع بعملة مغايرة.
الترجيح:
لا شك أن المسألة تحوي عقد قرض وعقد صرف ولكنهما عقدان منفصلان، لا ارتباط بينهما، وتفسير المانعين لاجتماع العقدين معاً لا ينطبق على مسألتنا هذه، وليس من بابها، إذ أن المقرض (العميل) لم يشترط على المقترض (المصرف) شيئاً وذلك يصحح العقد عند الجمهور (2)، كما أنه لا سبيل للتوصل إلى ربا القرض، وليست تنطبق مسألتنا عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في اجتماع العقدين، ولا يوجد فيها معنى النهي في الحديث، ولقد فسَّر العلماء اجتماع العقدين معاً في النهي الوارد؛ ولم يوجد هنا، وقد نص
(1) كشاف القناع (3/ 167).
(2)
ذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية إلى جواز اجتماع السلف مع البيع من دون مشارطة، ففي حاشية ابن عابدين (5/ 167)، ما نصه: وقال خواهر زاده ما نقل عن السلف محمول على ما إذا كانت المنفعة مشروطة وذلك مكروه بلا خلاف وما ذكره محمد محمول على ما إذا كانت غير= =مشروطة= =وذلك غير مكروه بلا خلاف. وجاء في الفواكه الدواني للنفراوي (2/ 89)، ما نصه: وأما اجتماع البيع والسلف من غير شرط فلا يمتنع على المعتمد، ولو اتهما عليه. وفي الحاوي للماوردي (5/ 351)، ما نصه: وليس هذا الخبر محمولاً على ظاهره؛ لأن البيع بانفراده جائز، واجتماعهما معاً بلا مشارطة جائز، وإنما المراد بالنهي بيع شرط فيه قرض.
غير واحد من أهل العلم على أن النهي في اجتماع السلف والبيع هي سد ذريعة الربا.
قال ابن القيم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو انفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً وسلعة بثمانمائة؛ ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا (1).
وهنا لم يتحقق هذا المعنى، فلا يصحب العقد شرط، ولم تتحقق العلة للمنع من العقد وهو خشية الربا، فالمصرف يقوم أولاً بعملية الصرف للعميل، ومن ثم الإيداع في حسابه، وإن كان ثم زيادة في الصرف فلصالح المصرف الذي يعد مقترضاً، والذي يقوم بإجراء الصرف بعد إذن العميل.
أما العميل والذي هو المقرِض فأين وجه منفعته في هذه المسألة حتى نستطيع القول بأنه من ربا القرض؟ وإن النهي عن اجتماع العقدين لأجل انتفاع المقرِض؟ أو من القرض الذي جر نفعاً؟
وأما معنى المحاباة بسعر الصرف فلا معنى لها هنا فليس المصرف بفقير ليحابي المقرِض، مع العلم أن الإيداع بهذا الطريق (عن طريق الصراف الآلي) لا يكون بمبالغ كبيرة لتكون مغرية للمصرف فيحابي، كما لم يشترط
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 141)، : أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي الوفاة: (751 هـ)، دار النشر: دار الجيل - بيروت - (1973 م)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.
المصرف على المقرِض إن هو أقرضه أنزل له سعر الصرف فالمسألة محض بيع.
ويزيد تقوية ما نذهب إليه تفسير العلماء للنهي عن اجتماع العقدين معاً، إذ هو لا ينطبق هنا؛ ولك بعض النقولات مختصرة تاركاً الكثير الغالب:
قال الإمام مالك، وبنحوه الإمام الشافعي، والإمام أحمد: وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تُسلفني كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا الوجه فهو غير جائز (1).
قال في التمهيد لأن من سنته أن تكون الأثمان معلومة والبيع معلوماً وإذا انعقد البيع على السلف والمنفعة بالسلف مجهولة فصار الثمن غير معلوم (2).
وهكذا نجد كثراً من الفقهاء يفسرون النهي عن البيع والسلف بالبيع بشرط القرض (3).
(1) موطأ الإمام مالك (2/ 657). مالك بن أنس الأصبحي، ط، دار إحياء التراث العربي، مصر، ونحوه الشافعي في الأم، محمد بن إدريس الشافعي، ط، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، تاريخ الطبع، (1339 هـ)، والإمام أحمد انظر مسائل الإمام أحمد وابن راهويه (2/ 21)، إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج أبو يعقوب التميمي المروزي الوفاة:(251 هـ)، دار النشر: دار الهجرة - الرياض / السعودية - (1425 هـ -2004 م)، الطبعة: الأولى، تحقيق: خالد بن محمود الرباط - وئام الحوشي - د. جمعة فتحي. وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/ 292): محمد شمس الحق العظيم آبادي الوفاة: (1329)، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - (1995 م)، الطبعة الثانية.
(2)
التمهيد لابن عبد البر (24/ 391).
(3)
انظر روضة الطالبين للنوي (3/ 398)، وانظر حاشية عميرة (2/ 323)، وغيرها. وراجع المراجع السابقة عن الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهما.
قال ابن القيم: وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى والتوسل إلى ذلك (1).
وكل هذه المعاني مفقودة في مسألتنا، فلا المقرِض اشترط شيئاً على المقترض، ولا ثَمَّة ذريعة لتوصل المقرِض للربح في قرضه، وأما سعر الصرف فإنه معلوم للمقرِض، بل ومعلن عنه من قِبل المصرف فللمقرِض الاطلاع عليه، أو الاستعلام عنه، وهو من باب البيع كان زائداً عن السوق، أو ناقصاً عنه، كما لم يشترط المصرف شيء عند الصرف، فالمسألة لا تعدو تنافساً بين المصارف في سعر الصرف.
ومع كل هذا التقرير يبقى في النفس شيء، والأولى للمسلم أن يصرف أولاً، لدى مصرف آخر ثم يودع في مصرفه، أو يودع في مصرفه من غير صرف، وليكن الصرف عند السحب، صرف على ما في الذمة كما بينا في التكييف الثاني.
أما العمولة التي يأخذها المصرف فهي من باب أجور تقديم الخدمات، لا مانع منها.
(1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 363)، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، ط: دار المعرفة - بيروت - (1395 هـ- 1975 م)، الطبعة الثانية، تحقيق: محمد حامد الفقي.