الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما معهم من الفروة والكساء وغيرِ الملطَّخ بالدم.
قوله: "أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"؛ يعني: ثيابهم الملطخة بالدم.
لا يغسل الشهيد ولا يصلَّى عليه تكرمة له، فإنه مغفورٌ، هذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة لا يغسَّل ولكن يصلَّى عليه.
* * *
5 - باب المَشْي بالجَنازة والصَّلاة علَيها
(باب المشي بالجنازة والصلاة عليها)
مِنَ الصِّحَاح:
1167 -
قال رسول صلى الله عليه وسلم قال: "أَسرِعوا بالجنازَةِ، فإن تَكُ صالحة فخيرٌ تقدمونَها إليه، وإن تكنْ سوى ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم".
قوله: "فإن تك صالحة"؛ أي: فإن تكن الجنازة صالحة.
"الجنازة" بكسر الجيم: الميت، والسريرُ الذي يُحمل عليه الميت، وبفتح الجيم: هذا السرير لا غير، فعلى هذا أَسْنَدَ الفعل إلى الجنازة، وأراد به الميت.
"فخير تقدمونها إليه"؛ يعني: حاله في القبر يكون حسنًا وطيبًا، فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب.
* * *
1168 -
وقال: "إذا وُضعَتْ الجنازَةُ فاحتمَلَهَا الرجالُ على أعناقِهم؛ فإن كانتْ صالحةً قالت: قدِّموني، وإن كانتْ غيرَ صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها!، يسمعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمِعَ
الإنسان لصَعِقَ" يرويه أبو سعيد الخُدري.
قوله: "فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني"، احتمل وحمل واحد.
قوله: "قدموني"؛ يعني: يرى الميت منزله حسنًا، ويقول: أسرعوا بي لأَصِلَ إلى منزلي.
قوله: "يا ويلها" الضمير يرجع إلى الجنازة، والمراد منه الميت، تقول: يا ويل زيد، تقديره: يا قوم حصل هلاكُه
قوله: "أين تذهبون بها" هذا خطابٌ لأهلها ولمَن حملها، وإنما يقول هذا؛ لأنها ترى منزلَها وحالها غيرَ حسنٍ.
"صعق": إذا مات وأغمي عليه.
* * *
1169 -
وعنه أيضًا قال: "إذا رأيتم الجنازَة فقومُوا، فمن تَبعَها فلا يقعدْ حتى تُوضَعَ".
قوله: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا" الأمرُ بالقيام عند رؤية الجنازة؛ لإظهار الرجلِ الفزعَ والخوف على نفسه، فإنه أمر عظيم، ومن رأى الجنازة ولم يقم وبقي على حاله فهذا علامةُ غِلَظِ قلبه، وعظمِ غفلته.
قوله: "فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع"[أي: حتى يوضع] الميت في اللحد؛ ليكمل أجره.
* * *
1170 -
وقال: "إنَّ الموتَ فَزَعٌ، فإذا رأَيتُم الجَنازَة فقُوموا" يرويه جابر.
قوله: "إن الموت فزع"؛ أي: ذا فزع؛ أي: يُظْهِرُ الفزع والخوف في قلوب الناس.
* * *
1171 -
وروي عن علي رضي الله عنه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقومُ للجنازةِ، ثم يَقعدُ بعدَه".
قوله: "يقوم للجنازة ثم يقعد بعده"؛ يعني: يقوم إذا رأى الجنازة، ثم يقعد بعد مرورها؛ ليعلم الناس أن اتِّباع الجنازة إلى رأس القبر غيرُ واجبٍ، بل مستحبٌّ.
قد جاء عن جماعة من الصحابة: أنهم يقومون إذا رأوا الجنازة من بعيد، ثم يقعدون قبل أن تنتهي الجنازة إليهم.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: (يقوم ثم يقعد) أنه يقوم إذا رأى الجنازة في وقت، ويقعد ولا يقوم إذا رأى الجنازة في وقت آخر؛ ليعلِّمَ الناس أن القيام للجنازة والقعود كلاهما جائز، وليس بواجب.
* * *
1172 -
قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَبعَ جنازةَ مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا وكان مَعها حتى يُصلَّى عليها ويُفْرَغَ من دَفْنِها، فإنه يَرْجِعُ من الأجرِ بقيراطيْنِ، كلُّ قيراطٍ مثل أُحُدٍ، ومن صلَّى عليها ثم رجعَ قبلَ أن تُدْفَنَ فإنه يرجعُ بقِيْراطٍ".
قوله: "إيمانًا واحتسابًا"(الاحتساب): طلب الثواب من الله تعالى، يعني: ليتَّبع الجنازة لطلب الثواب من الإيمان بالله تعالى ورسوله، لا لرياءٍ، وليطيبَ قلبَ أحد.
* * *
1173 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى للناس النَّجاشِيَّ اليومَ الذي ماتَ فيهِ، وخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهم إلى المُصَلَّى، فصَفَّ بهم وكبَّر أربَعَ تكبيرات.
قوله: "نعى للناس النجاشي"، أي: أخبرنا الناس بموت النجاشي.
وهذا الحديث يدل على جواز النعي، وبه قال الشافعي وأكثرُ أهل العلم، وكره قومٌ النعي.
ويدل أيضًا على جواز الصلاة على الغائب، وبه قال الشافعي، ويتوجَّهون القبلةَ لا بلدَ الميت.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الصلاة على الغائب.
والنجاشي كان ملك الحبشة، وكان مسلمًا يكتم إسلامه؛ لأن قومه كانوا كفارًا، فلمَّا مات لم يصلِّ عليه أحد، فأخبر جبريلُ النبيَّ عليه السلام بموته، فصلى رسول الله عليه السلام مع الصحابة عليه.
* * *
1174 -
ورُوي: أن زيدَ بن أرقَم كبَّر على جنازةٍ خمسًا، وقال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكَبرُها.
قوله: "أن زيدًا كبر على جنازة خمسًا
…
" إلى آخره.
رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد، والمراد بـ (زيد) هنا: زيد بن أرقم.
وبهذا قال حذيفةُ، ولم يعمل به واحد من الأئمة، لكن لو كبَّر الإمام خمسًا لم تبطُل صلاته على الأصح.
* * *
1175 -
وروي: أَنَّ ابن عباس رضي الله عنهما صلَّى على جنازةٍ فقرأَ فاتِحَةَ الكتابِ فقال: لِتَعْلموا أنها سُنَّةٌ.
قوله: "أن ابن عباس صلى على جنازة
…
" إلى آخره.
رواه طلحة بن عبد الله بن عوف، عن ابن عباس.
قوله: "سنة"؛ أي: مما فعله رسول الله عليه السلام.
ومذهب الشافعي وأحمد: أن قراءة فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى فرض.
وقال أبو حنيفة: ليس بفرض.
* * *
1176 -
وقال عَوْف بن مالك: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على جنازةٍ فحَفظتُ من دُعائه، وهو يقول:"اللهم اغفرْ له، وارحمْهُ، وعافهِ، واعفُ عنه، وأكَرِمْ نُزُلَهُ، ووسِّع مُدْخَلَهُ، واغسلْه بالماء والثلج والبَرَدِ، ونَقِّه من الخطايا كما نَقَّيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دارًا خيرًا من دارهِ وأهلًا خيرًا من أهلِه، وزوجَاً خيرًا من زَوجه، وأَدخِلْه الجنَّةَ، وقِهِ فِتْنةَ القَبرِ وعذابَ النارِ" حتى تمنيتُ أن أكونَ ذلكَ الميتَ.
قوله: "وعافِه": هذا أمرُ مخاطَبٍ من المعافاة، وهو تخليص أحدٍ من المكاره.
"وأَكْرِمْ نزلَه"، (النزل) بسكون الزاي وضمها: الرزق وما يقدَّمُ إلى الضيف من الطعام؛ يعني: أحسنْ نصيبه من الجنة.
"مدخله"؛ أي: قبره.
قوله: "واغسله
…
" إلى آخره؛ أي: اغسله من الذنوب بأنواع المغفرة، كما أن هذه الأشياء أنواعُ المطهِّرات من الدنس.
وأراد بـ "فتنة القبر": التحيُّر في جواب المنكر والنكير والعذاب.
والدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة فرضٌ عند الشافعي.
وفرائض صلاة الجنازة عنده سبعٌ: النية، والتكبيرات الأربعة، وقراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي عليه السلام بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة، وأقله أن يقول: اللهم اغفر له، والتسليمة الأولى، وفي القيام خلاف، والأصح أنه فرض.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله: الواجب التكبيرات الأربعة، وما سواها سنةٌ.
* * *
1177 -
وقالت عائشة رضي الله عنها: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ابني بَيْضاءَ في المسجدِ، سُهيلٍ وأخيهِ.
قولها: "على ابني بيضاء"، (بيضاء) أمُّهما، واسمها: دعدٌ بنتُ الجحدم، واسم أبيهما: عمرو بن وهب، واسم أخي سهيل: سهل.
فعند الشافعي: تجوز الصلاة على الميت في المسجد.
وعند أبي حنيفة: تكره.
* * *
1178 -
وقال سَمُرَةُ بن جُنْدَبٍ: صلَّيتُ وراءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلى امرأةٍ ماتتْ في نِفاسِها، فقامَ وسَطَها.
قوله: "وسطها"؛ يعني: وليقف الإمام عند وسط المرأة كأنه يستر كفنها عن القوم.
* * *
1179 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبْرٍ دُفِنَ ليلاً فقال: "متى دُفِنَ هذا؟ "، قالوا: البارحةَ، قال:"أفلا آذَنْتُمُوني؟ "، قالوا: دفنَّاه في ظُلمةِ الليلِ، فكرهْنا أن نوقِظَكَ، فقامَ فَصَفَفْنَا خلفَهُ، فصلَّى عليه.
قوله: "مر بقبر دفن ليلًا
…
" إلى آخره، هذا يدل على أن الدفن في الليل جائزٌ؛ لأن النبي عليه السلام لم ينكر عليهم، ويدل أيضًا على أن الصلاة على القبر جائزة، وعلى أن الصلاة بالجماعة مستحبة؛ لأن القوم صلَّوا مع رسول الله عليه السلام على القبر.
* * *
1180 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أسودَ كان يكونُ في المسجد يَقُمُّ المسجدَ، فماتَ فأَتى - يعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبرَهُ فصلَّى عليه، ثم قال:"إنَّ هذه القبورَ مَمْلُوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإنَّ الله يُنَوِّرُهَا لهم بصلاتي عليهم".
قوله: "أن أسوَد: كان يكون في المسجد يقمُّ المسجد"، (أسود): اسم رجل، (يقمُّ المسجد)؛ أي: يكنسه ويطهِّره، فمات ولم يعلم النبي عليه السلام بموته حتى مضى أيام، قال عليه السلام:"أين أسود؟ ": فقالوا: مات، فقال:"دلوني على قبره" فأتى قبره، فصلى عليه.
قوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة"؛ يعني: القبور ممتلئةٌ من الظلمة، وينوِّرها الصلاة عليها، والدعاء، والعمل الصالح التي تكون للميت.
قوله: "بصلاتي عليهم" اعلم أن صلاة النبي عليه السلام على القبور ودعاءَه لهم تكون نورًا، وكذلك صلاة غيره تكون مفيدةً للميت، وتكون نورًا له أيضًا؛ لأن الصلاة مِن شَرْعِ النبيِّ عليه السلام، وما هو شرعُ النبي عليه السلام لا شك أن يكون رحمةً ونورًا للناس.
* * *
1181 -
وقال: "ما من مسلم يموتُ فيقومُ على جنازتِهِ أربعونَ رجلًا لا يُشركونَ بالله شيئًا إلا شَفَّعَهم الله فيه".
قوله: "إلا شفعهم الله تعالى"، (شفع) بتشديد الفاء: إذا قَبلَ الشفاعة، يعني: يقبل الله تعالى دعاءهم للميت ببركة دعائهم.
* * *
1182 -
وقال: "ما من ميتٍ تُصلي عليهِ أُمَّةٌ من المسلمين يبلغونَ مائةً، كلُّهم يشفعونَ له إلا شُفِّعُوا فيه".
قوله: "يشفعون له"؛ أي: يدعون له.
ليس بين هذين الحديثين تناقضٌ، بل حديثُ ابن عباس متأخِّرٌ عن هذا الحديث؛ لأن رحمة الله تعالى تزيد على المؤمنين ولا تنقص، يعني: لو شفع له مئة تُقبل شفاعتهم، ولو شفع له أربعون أيضًا تُقبل شفاعتهم.
* * *
1183 -
وقال أنس رضي الله عنه: مَرُّوا بجنازةٍ فأَثْنَوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ"، ثم مَرُّوا بأُخرى فأَثْنَوا عليها شرًا فقال:"وَجَبَتْ"، فقالَ عمرُ: ما وَجَبَتْ؟، قال: "هذا أَثْنَيْتُم عليهِ خيرًا فوجبتْ له الجنةُ، وهذا أثنيتُم عليه
شرًا فوجبت له النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض".
وفي روايةٍ: "المؤمنونَ شهداء الله في الأرضِ".
قوله: "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا" الضمير في (مروا) وفي (أثنوا) ضميرُ الصحابة.
"وجبت"؛ أي: وجبت الجنة، ووجبت النار.
قوله: "أنتم شهداء الله في الأرض" ليس معنى هذا أنَّ ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص من استحقاقه الجنة أو النار يكون كذلك؛ لأن مَن يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقول أحد، ولا مَن يستحق النار يصير من أهل الجنة بقول أحد.
بل معناه: أن الذي أثنوا عليه خيرًا رأوا منه الخير والصلاح في حياته، والخير والصلاح من علامة كون الرجل من أهل الجنة، وأن الذي أثنوا عليه الشرّ رأوا منه الشر والفساد، والشرُّ والفساد من علامة دخول النار، فشهد النبي عليه السلام للأول بالجنة، وللثاني بالنار.
وتأويل قَطْعِه عليه السلام للأول بالجنة، وللثاني بالنار: أنه أَطْلَع الله تعالى نبيَّه عليه السلام على أن الأول من أهل الجنة، والثاني من أهل النار، وليس هذا الحكم عامًا في كلِّ مَن شهد له جماعةٌ بالجنة أو بالنار، ألا ترى أنه لا يجوز أن يُقطع بكون واحد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وإن شهد له بالجنة أو بالنار جمعٌ كثير، بل نرجو الجنَّةَ لمن شهد له جماعةٌ بالخير، ونخاف النار لمن شهد له جماعة بالشر.
* * *
1184 -
وقال عمر رضي الله عنه: عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما مسلمٍ شَهِدَ له أربعةٌ بخيرٍ أَدخلهُ الله الجنَةَ"، قلنا: وثلاثةٌ: قال: "وثلاثةٌ"، قلنا: واثنان؟ قال: "واثنانِ"،
ثم لم نسألْه عن الواحدِ.
قوله: "أيُّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة"؛ يعني: ومَن شهد له أربعةٌ أو ثلاثةٌ أو اثنان بالخير، فالظاهر والغالب من حاله أنه رجل صالح حتى يشهدوا له بالخير، وإذا كان صالحًا أدخله الله الجنة بفضله، وبسبب خيره وصلاحه، وربما يكون له ذنبٌ فيغفر الله تعالى ذنبه ويدخله الجنة؛ لتصديقِ ظنِّ المؤمنين في كونه صالحًا.
ويحتمل أن يريد بقوله: (شهد له أربعة) صلاةَ أربعةٍ أو ثلاثة أو اثنين عليه ودعاءَهم وشفاعتهم له، فيقبل الله دعاءهم له.
* * *
1185 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا الأَمواتَ، فإنهم قد أَفْضَوا إلى ما قَدَّموا".
قوله: "قد أفضوا إلى ما تقدموا"، رواه عائشة.
"أفضوا": أصله أَفْضَيُوا، فقلبت الياء ألفًا وحذفت، ومعناه: وصلوا إلى ما أرسلوه إلى الآخره من الأعمال؛ يعني: كما لا يجوز غيبةُ الأحياء، لا يجوز غيبةُ الأموات.
* * *
1186 -
وعن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يجمعُ بين الرَّجُلينِ مِنْ قتلى أُحُدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقولُ:"أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أُشيرَ له إلى أحدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحدِ، وقال:"أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ"، وأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بدمائِهم، ولم يصلِّ عليهم ولم يُغسلوا.
قوله: "في ثوب واحد"؛ أي: في قبر واحد.
وليس معناه أنهما يجرَّدان عن الثياب بحيث تصل بشرة أحدهما إلى بشرة الآخر، وهذا لا يجوز، بل يكون على كلِّ واحدٍ منهما ثيابه الملطَّخة بالدم وغيرُ الملطَّخة، ولكن يضجع أحدهما بجنب الآخر في قبر واحد، ومَن هو أفضل يُضجع مستقبلَ القبلة ملاصقًا بجدار اللحد، والثاني خلف ظهره.
قوله: "أنا شهيد على هؤلاء"؛ أي: أنا شفيعٌ لهؤلاء، وأشهدُ لهم بأنهم بذلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم لله تعالى.
* * *
1187 -
قال جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه: أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفرسٍ مُعْرَوْرًى فركبه حين انصرفَ من جنازةِ ابن الدَّحْدَاحِ ونحنُ نمشي حوله.
قوله: "بفرس مُعْرَوْرٍ"، (مُعْرَوْرٍ): اسمُ فاعلٍ من اعْرَوْرَى الفرسُ: إذا تجرَّد عن السرج.
هذا يدل على أنه يجوز الركوب عند الانصراف من الجنازة، بخلاف المشي مع الجنازة فإنه يكره الركوب.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1188 -
عن المُغيرة بن زياد رضي الله عنه قال: إنه رفعَهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الراكبُ يسيرُ خلفَ الجنازةِ، والماشي يمشي خلفَها وأمامَها، وعن يمينِها وعن يسارِها قريبًا منها، والسِّقْط يُصلَّى عليه ويُدْعَى لوالدَيهِ بالمغفرةِ والرحمةِ".
قوله: "السِّقط يصلَّى عليه" مذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه يصلَّى على السقط إن استهل؛ أي: صوَّت حين انفصل من أمه ثم مات، وإن لم يستهلَّ لم يُصلَّ عليه.
وقال أحمد: يصلَّى عليه إذا كان له أربعةُ أشهر وعشرٌ في البطن، ونُفخ فيه الروح، وإن لم يستهلَّ حين انفصل من الأم.
في نسخ "المصابيح" وفي "شرح السنة": أن راوي هذا الحديث: المغيرة ابن زياد.
* * *
1189 -
عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمرَ يمشونَ أمامَ الجنازةِ. ورواه بعضهم مرسلًا.
قوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة. ورواه بعضهم مرسلًا.
"سالم": هو سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وبهذا الحديث قال الشافعي وأحمد.
* * *
1190 -
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الجَنازةُ متبوعةٌ، ولا تَتْبَعُ"، وإسناده مجهول.
قوله: "الجنازة متبوعة ولا تتبع" وإسناده مجهول.
يعني: الناس يمشون خلف الجنازة، وبهذا قال أبو حنيفة.
وعلةُ المشي خلف الجنازة: لينظر الناس إلى الجنازة، ويعتبرون وينتبهون
عن نوم الغفلة.
وعلة المشي قدام الجنازة: أن الماشين مع الجنازة شفعاءُ الميت إلى الله تعالى، والشفيع يمشي قدام المشفوع.
* * *
1191 -
وقال: "مَنْ تَبعَ جَنازَةً وحَمَلَها ثلاثَ مراتٍ فقد قَضَى ما عليهِ من حَقِّها"، غريب.
قوله: "وحملها ثلاث مرات"؛ يعني: يعاون الحاملين في الطريق، ثم يتركها ليستريح، ثم يحملُها في بعض الطريق، يفعل كذلك ثلاث مرات.
قوله: "فقد قضى ما عليه من حقها"؛ يعني: على المسلم معاونةُ المسلم بما يُطيق، فإذا حمل جنازته فقد قضى حقَّها من المعاونة، وليس معناه: أنه قضى ما عليه من دَينٍ وغيره من الحقوق مثلَ الغيبة والبهتان والضرب والشتم.
* * *
1192 -
وروي: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حملَ جنازَة سَعْدِ بن مُعاذٍ بين العَمُودَين.
قوله: "حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين" قال الشافعي: والحمل بين العمودين أن يحمل الجنازة ثلاثة: واحد يقف من قدام الجنازة بين العمودين، واثنان يقفان خلف الجنازة يضعُ كلُّ واحد منهما عمودًا على عاتقه، هذا عند حمل الجنازة من الأرض، ثم لا بأس بأن يعاونهم مَن شاء كيف شاء.
ومذهب أبي حنيفة: الأفضل التربيعُ، وهو أن يحمل الجنازة أربعةٌ يأخذ كل واحد عمودًا.
روى هذا الحديث (1)[إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل].
* * *
1193 -
وروي عن ثَوبانَ أنه قال: خرجنا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال:"ألا تستَحْيُون؟، إنَّ ملائكةَ الله على أقدامِهم وأنتم على ظُهورِ الدوابِّ"، ووقفه بعضهم على ثَوبان.
قوله: "فرأى ناسًا ركبانًا
…
" إلى آخره.
يعني: المشي خلف الجنازة ركبانًا مكروهٌ، إلا إذا كان الشخص ضعيفًا، ووجْهُ الكراهة: أن الركوب تنعُّمٌ وتلذُّذٌ، وهذا لا يليق في مثل هذه الحالة.
* * *
1194 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ على الجنازةِ بفاتِحَةِ الكتابِ.
قوله: "قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب"؛ أي: قرأها بعد التكبيرة الأولى.
* * *
1195 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء".
قوله: "فأخلِصوا له الدعاء" قد قلنا: الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة فرضٌ عند الشافعي، وسنَّة عند أبي حنيفة.
(1) كذا في جميع النسخ، وما بين معكوفتين من "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 431).
فمَن قال بالفرض قال: هذا الأمر للوجوب، ومن قال بالسنة قال: هذا الأمر للندب، ومعنى الندب السنة.
* * *
1196 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على جنازةٍ قال: "اللهم اغفر لِحَينا ومَيتِنَا، وشاهِدنا وغائِبنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكرِنا وأُنثانا، اللهم مَن أحييتَه منا فأَحْيهِ على الإسلام، ومن توفيتَه منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرِمْنا أجرَهُ، ولا تَفتِنَّا بعدَه واغفر لنا وله".
قوله: "وشاهدنا وغائبنا"، (الشاهد): الحاضر.
قوله: "صغيرنا" فإن قيل: الصغير لم يكن ذنبه ذنبًا؛ لأنه غيرُ مكلَّفٍ، وأيُّ حاجةٍ له إلى الاستغفار لأجله؟.
قال بعض الأئمة: معناه: السؤال من الله الكريم أن يغفر له ما كُتب له في اللوح المحفوظ أن يفعله من الذنوب، حتى إذا فعله كان مغفورًا عنه.
* * *
1197 -
وعن وَاثِلة بن الأسَقَع قال: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على رجلٍ من المسلمين فسمعتُه يقول: "اللهم إنَّ فلانَ بن فلانٍ في ذِمَّتِكَ، وحبلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ من فتنةِ القبرِ وعذاب النار، وأنت أهلُ الوفاءِ والحقِّ، اللهم اغفرْ له وارحَمْهُ، إنَّك أنت الغفورُ الرحيمُ".
قوله: "في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار"، (الذمة): الأمان، (الحبل): العهد.
(وحبل جوارك)؛ أي: في كنف حفظك وفي عهد طاعتك إذا مات.
وجَدُّ واثلة عبد العُزَّى (1) الليثي.
* * *
1198 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذكُروا مَحاسِنَ موتَاكم، وكُفُّوا عن مَساوئهم".
قوله: "اذكروا محاسن موتاكم"، (المحاسن): جمع حسن، و (المساوئ): جمع سوء، كلاهما جمعٌ غريب.
"كفوا"؛ أي: اتركوا.
* * *
1199 -
عن أنس رضي الله عنه: أنه صلَّى على جنازةِ رجلٍ فقامَ حِيالُ رأسِه، ثم جاؤُوا بجنازةِ امرأةٍ فقامَ عندَ حِيالِ وسطِ السَّرير، فقيلَ له: هكذا رأيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قامَ على الجنازةِ مَقَامَكَ منها، ومِن الرجلِ مَقَامَكَ منه؟، قال: نعم.
"حيال رأسه"؛ أي: إزاء رأسه وتِلْقاءَه.
ليعلم زمرةُ إخواني، وثلَّةُ خُلَصائي أني قد شرطْتُ في أول الكتاب أن أُورد كلَّ حديثٍ من أحاديث هذا الكتاب مكتوبًا بالحمرة، ثم أشرح ذلك، ثم إني لمَّا رأيت غلبة الكفار على المسلمين، وسمعتُ بواقعة أمير المؤمنين، تكدَّر زماني، وتحيَّر جناني، وترجل قوتي وفرحي، وتوطَّن غمِّي وتَرَحي.
وعلمتُ أن هذه الواقعة من اقتراب الساعة، وأيقنتُ أن الوقائع تصير
(1) في النسخ: "عبد العزيز"، والمثبت هو الصواب، وقد قيل في اسم جده غير ذلك. انظر "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 393 - 394).