الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أضعافًا مضاعفةً، فهممتُ أن أترك التصنيف والتدريس طرًا، وأطوي في البكاء عمرًا، ولكن خفتُ ربَّ العالمين أن أترك ما استطعت إظهار الدين؛ فإن هذا ممَّا يفرح به الشيطان اللعين.
فحَوْلَقْتُ وردَّدْتُ كلمةَ الاسترجاع، وأقبلت مع امتلاء قلبي من الجراح والأوجاع إلى إتمام الكتاب، واستعنتُ فيه من الله الوهاب، سالكًا سبيل الاختصار، بأن أترك كتابة لفظ "المصابيح" بالحمرة، وأورد منه ما يحتاج إلى الشرح، من غيرِ أن أترك من الإشكالات شيئًا، والله الموفق والمرشد.
6 - باب دَفْن الميت
(باب دفن الميت)
مِنَ الصِّحَاحِ:
1200 -
قال سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه في مرضه: ألحِدُوا لي لَحْدًا، وانصِبوا عليَّ اللَّبن نَصْبًا كما صُنِعَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "كما صنع برسول الله عليه السلام"؛ أي: فُعِلَ بقبر رسول الله عليه السلام؛ يعني: وضع على قبر رسول الله عليه السلام اللَّبن.
يعني: جعلُ اللحدِ ونصبُ اللبن عليه سنةٌ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
* * *
1201 -
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جُعِلَ في قبْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قطيفةٌ حمراء.
قوله: "قطيفة حمراء"، (القطيفة): نوعٌ من الكساء.
الذي أَلْحَدَ - أي: حفر لحدَ - رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو طلحة، والذي جعل القطيفة في قبره عليه السلام هو شُقْرَانُ، واسمه صالحٌ ولقبه شقران، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جَعَل القطيفة في قبره صلى الله عليه وسلم لأنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها، فوضعها شقران في قبره، فقال: والله لا يلبسها أحدٌ بعدك.
وكره ابن عباس أن يُفرش تحت الميت شيءٌ.
* * *
1202 -
وعن سُفيان التَّمَّار: أنه رأى قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.
قوله: "مسنمًا" بفتح النون وتشديدها، وهو القبر الذي يكون مثلَ ظهر حمار، وتسنيم القبر وتسطيحه كلاهما جاء في الحديث.
والتسنيم: أن يجعل القبر مسنَّمًا كما ذكرنا، والتسطيح: أن يُجعل مسطَّحًا، وهو أن يجعل مثل سرير، وميل الشافعي إلى التسطيح.
* * *
1203 -
وقال علي رضي الله عنه لأبي الهيَّاج الأَسَدي: ألا أبعثُكَ على ما بَعَثَني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدعَ تِمْثالًا إلا طمَستَه، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيتَه.
قوله: "ألا أبعثك"، أي: ألا أرسلك على أمرٍ قد بعثني رسول الله عليه السلام إليه.
"لا تدع"؛ أي: لا تترك "تمثالًا"؛ أي: صورةً وشكلاً يشبه شكلَ الحيوان، (التمثال): ما يُجعل على مثال شيء يشبهه، "إلا طمسته"؛ أي: إلا مَحَوْته، فإنَّ جَعْلَ صورة الحيوان محرَّمٌ إلا على الفراش.
"ولا قبرًا مشرفًا"؛ أي: قبرًا مرتفعًا، "إلا سويته": أي: أزلت ارتفاعه،
وليس معنى التسويةِ هنا جعلَ القبر مستويًا على وجه الأرض بحيث لا يُعلم أنه قبر، بل هذا لا يجوز في قبور المسلمين، بل السنة: أن تجعل قبور المسلمين مرتفعةً من الأرض بقَدْرِ شبرٍ: إما مسطَّحًا، وإما مسنَّمًا، ولا ترفع أكثر من شبر.
* * *
1204 -
وقال جابر رضي الله عنه: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّصَ القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يُقعدَ عليه.
قوله: "نهى رسول الله عليه السلام أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه".
تجصيصُ القبور والبناءُ عليها - بجَعْلِ بيتٍ على القبر، أو ضربِ خيمةٍ عليه - منهي؛ لأنه إضاعة المال من غير فائدة للميت فيه، ولأنه من فعل الجاهلية.
وقد أباح السلف رحمهم الله أن يبنى على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس، ويستريح الناس بالجلوس في البناء الذي يكون على قبورهم مثل الرباطات والمساجد.
وأما القعود على القبور: علة النهي عنه: أنه إذلالٌ واستخفاف بالميت، وهذا لا يليق بقبور المسلمين.
وقد روي: أن رسول الله عليه السلام رأى رجلًا قد اتكأ على قبر فقال النبي عليه السلام: "لا تؤذ صاحب القبر"؛ يعني: الميت.
وقد أجاز قومٌ الجلوس على القبر، وحَمَلَ حديث النهي عن القعود على القبر على أن المراد منه: القعود للتغوط على القبر والبول.
* * *
1205 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلِسوا على القُبورِ، ولا تُصَلُّوا إليها".
"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"؛ يعني: لا تصلُّوا وتلقاءَ وجوهكم قبر، وقد ذكر بحثه في باب المساجد.
روى هذا الحديث: أبو مرثد (1) الغَنوي.
* * *
1206 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلِسَ أحدُكم على جَمْرةٍ فَتُحرِقَ ثيابَهُ فتَخلُصَ إلى جِلْده خيرٌ له مِن أن يجلِسَ على قبرٍ"، يرويه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "لأن يجلس
…
" إلى آخره.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
قوله: "فتَخْلُصَ"؛ أي: فتصلَ الجمرةُ إلى جلده فتحرقَ جلده، "خيرٌ له من أن يجلس على قبر"؛ لأن الجلوس على القبر يوجب عذاب الآخرة، وعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1207 -
قال عروةُ: كانَ بالمدينةِ رجلانِ أحدهما يَلْحَد والآخرُ لا يَلْحَدُ، فقالوا: أيُّهما جاءَ أولًا عَمِلَ عَمَلَه، فجاءَ الذي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "أحدهما يَلحد"؛ يعني: أحدهما يحفر القبر، ويجعل فيه اللحد، وهو أبو طلحة بن زيد بن سهل الأنصاري.
قوله: "والآخر لا يلحد"؛ يعني: والآخر يحفر القبر، ولم يجعل فيه
(1) في جميع النسخ: "أبو مرثد بن أبي مرثد"، والصواب المثبت.
اللحد، وهو أبو عبيدة بن الجراح، وجَعْلُ اللحد في القبر وتركُ اللحدِ كلاهما جائز، لأنه لو كان واحدٌ منهما منهيًا لَمَا فعله أبو عبيدة مع أنه من العشرة المبشَّرة بالجنة، وأبو طلحة مع أنه من كبار الصحابة.
قوله: "فقالوا: أيهما جاء"؛ يعني: اختلف الصحابة في أنه يجعل قبر النبي عليه السلام مع اللحد، أو من غير اللحد.
فاتفقوا على أن يبعثوا رجلين إلى الذي يلحد، وإلى الذي لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أولًا يعمل عمله، فجاء أبو طلحة، فحفر قبر رسول الله عليه السلام مع اللحد.
* * *
1208 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّحدُ لنا، والشَّقُّ لغيرِنا".
قوله: "اللحد لنا"؛ يعني: جُعل اللحد في القبر من اختيارنا، وهو أولى عندنا.
قوله: "والشق لغيرنا"؛ أي: تركُ اللحد مختارٌ لأهل الأديان التي قبلنا، وقد قلنا: اللحد وتركُ اللحد جائزٌ، واللحدُ أفضل بدليل هذا الحديث.
* * *
1209 -
وعن هشام بن عامرٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يومَ أُحُد: "احْفِرُوا، وأَوْسِعُوا، وأَعْمِقُوا، وأَحْسِنُوا، وادفِنُوا، الاثنينِ، والثلاثةَ في قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا أكثرَهم قرآنًا".
قوله: "أوسعوا"؛ أي: اجعلوا القبر واسعًا.
"وأعمقوا"؛ أي: اجعلوه بعيد القعر، السنة أن يكون القبر قَدْرَ قامة رجلٍ إذا مدَّ يده إلى رؤوس أصابع يديه.
"وأحسنوا"؛ أي: اجعلوا القبر حسنًا بتسوية قعره عن الارتفاع والانخفاض، وتنقيته من التراب، وغير ذلك.
روى هذا الحديث هشام بن عامر، وجدُّ هشام: أمية بن الخشخاش الأنصاري.
* * *
1210 -
وقال جابر: لمَّا كانَ يومُ أحدٍ جاءتْ عَمَّتي بأبي لتدفِنَه في مقابرنا، فنادَى منادِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوا القَتْلى إلى مَضاجِعِها".
قوله: "ردوا القتلى إلى مضاجعها"؛ (ردوا) أمرُ مخاطَبين، يعني: لا ينقل الشهداء من الموضع الذي قُتلوا فيه إلى غيره، بل ادفنوهم حيث قتلوا، وكذلك حكمُ غير الشهيد لا ينقل من البلد الذي مات فيه إلى بلد آخر.
* * *
1211 -
عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سُلَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن قِبَلِ رأسِه.
"سل رسول الله عليه السلام من قبل رأسه"، (سُلَّ): ماضٍ مجهولٌ، من سَلَّ: إذا جَرَّ؛ أي: أُدخل النبي عليه السلام في قبره من قِبَلِ رأسه بأن وُضع رأس الجنازة على مؤخَّر القبر، ثم يُدخل الميت القبر، وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة فيما قبل القبلة من القبر بحيث يكون مؤخَّرُ
الجنازة إلى مؤخَّرِ القبر، ورأسُ الجنازة إلى رأس القبر، ويدخل الميت القبر.
* * *
1212 -
وعن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ قبرًا ليلاً فأُسْرِجَ له سراجٌ، فأخَذَ من قِبَلِ القبلةِ، وقال:"رحمكَ الله إنْ كنتَ لأوَّاهًا تلاءً للقرآن"، إسناده ضعيف.
قوله: "فأسرج له سراج"؛ يعني: دخل رسول الله عليه السلام القبر في الليل، فوضع سراجٌ على طرف القبر ليضيء القبر، فأخذ رسول الله عليه السلام الميت من قِبَلِ القبلة، ووضعه في القبر.
قوله عليه السلام: "إن كنتَ لأوَّاهًا تلَاّءً"(إنْ) بسكون النون بمعنى (إنَّ) بتشديد النون، وتقديره: إنَّك كنتَ لأوَّاهًا؛ أي: كنت كثير التأوُّه من خشية الله تعالى "تلاء"؛ أي: كثير القراءة.
* * *
1214 -
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَى على الميتِ ثلاثَ حَثَيَاتٍ بيدَيْه جميعًا، وأنه رشَّ ماءً على قبرِ ابنهِ إبراهيم صلى الله عليه، ووضعَ عليه حَصباء"، مرسل.
قوله: "حثا على الميت" هذا الحديثُ يدل على أن السنَّة لكلَّ واحدٍ من الذين يكونون على رأس القبر أن يحثوَ ثلاث حثيات من التراب في القبر بعد نصب اللَّبنات على اللحد، وعلى أنَّ رشَّ القبر بالماء ووضعَ الحصباء - وهو الحجار الصغار - على القبر سنةٌ؛ ليشتد القبر، كي لا ينبشه سبعٌ، وليكون علامةً للقبر.
* * *
1215 -
وقال جابرٌ رضي الله عنه: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُجَصَّص القبورُ، وأن يُكْتَب عليها، وأن تُوطَأ يعني بالقدم.
قوله: "وأن يكتب عليها"؛ يعني: مكروهٌ أن يكتب اسم الله واسمُ رسوله والقرآنُ على القبور؛ لأنه ربما يبولُ عليه الكلب وغيره من الدواب، وربما يضع عليه أحد رجليه، وتُلقي الريح التراب عليه، وكذلك يكره أن يُكتب اسم الله تعالى على جدار المساجد وغيرها، وكذلك القرآن.
* * *
1217 -
وعن المُطَّلِبِ أنه قال: لمَّا ماتَ عثمانُ بن مَظْعون رضي الله عنه فدُفِنَ؛ أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يأتِيَهُ بحجرٍ، فلم نستطع حملَها، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحَسَرَ عن ذراعيهِ وحملَها، فوضَعها عندَ رأسِه وقال:"أُعَلِّم بها قبرَ أخي، وأَدْفِنُ إليه مَن ماتَ مِن أهلي".
قوله: "وحسر عن ذراعيه"؛ أي: أبعد كُمَّهُ عن ساعده ولفَّ كمَّه، كما هو عادةُ مَن يعمل عملًا.
"أعلِّم بها قبر أخي"؛ يعني: أجعلُ هذه الصخرة علامةً لقبر عثمان بن مظعون، وعُلم من هذا الحديث: أنَّ جَعْلَ العلامة على القبر ليعرفه الناس سنَّةٌ، وكذلك دفنُ الأقارب بعضهم قريب من بعض.
* * *
1218 -
وقال القاسمُ بن محمدٍ: دخلتُ على عائشةَ رضي الله عنها فقلت: يا أُمَّاهُ!، اكشفي لي عن قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكَشَفَتْ لي عن ثلاثةِ قُبورٍ لا مُشْرِفَةٍ ولا لَاطِئَةٍ، مبطوحةٍ ببطحاءِ العَرَصَةِ الحمراءِ. غريب.
قوله: "عن ثلاثة قبور" أحدها قبر النبي عليه السلام، والثاني قبر أبي بكر، والثالث قبر عمر رضي الله عنهما، وعلق على وجهها ستر.
"لا مشرفة"؛ أي: ليست القبورُ بمرتفعةٍ ارتفاعًا كثيرًا.
"ولا لاطئة"؛ أي: وليست مستويةً على وجه الأرض بحيث لا تكون مرتفعةً، بل كانت مرتفعةً قَدْرًا يسيرًا.
قوله: "مبطوحة"؛ أي: مبسوطةً عليها بطحاءُ العَرْصة، البطحاء: الرمل، والعَرْصَة: اسم موضع.
* * *
1219 -
وقال البَرَاءُ بن عازبٍ رضي الله عنه: خَرَجْنَا مع رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ، فوجدْنا القبرَ لم يُلْحَدْ، فجلسَ مستقبَلَ القِبْلَةِ وجلسْنا معَه.
قوله: "فوجدنا القبر لم يلحد" هذا يدل على أن القبر من غير اللحد جائزٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك القبر من غير لحدٍ ولم ينههم.
قوله: "فجلس مستقبل القبلة" هذا يدل على أن الجلوس عند القبر إذا لم يتمَّ دفن الميت ليكن مستقبل القبلة، وأما عند زيارة الميت ليجلس مستقبل وجه الميت مستدبرَ القبلة.
* * *
1220 -
عن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَسْرُ عظمِ المَيتِ ككَسْرهِ حَيَّاً".
قوله: "ككسره حيًا"؛ يعني: كما أن كسر عضو رجلٍ حيًّ فيه إثمٌ، فكذلك كسرُ عظم الميت فيه إثم؛ لأنه استخفافٌ وإذلال، ولا يجوز إذلال