الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان لا في الحياة ولا في الممات.
* * *
7 - باب البُكاء على المَيت
(باب البكاء على الميت)
مِنَ الصِّحَاحِ:
1221 -
قال أنس رضي الله عنه: دخلنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أبي سَيْفٍ القَيْنِ - وكان ظِئرًا لإبراهيمَ - فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ فَقَبَّلَهُ وشمَّه، ثم دخلنا عليهِ بعدَ ذلكَ، وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فقالَ له عبدُ الرحمن بن عَوْفٍ: وأنتَ يا رسولَ الله؟، فقالَ:"يا ابن عوفٍ! إنها رحمةٌ"، ثم أَتْبَعَها بأُخرى فقال:"إن العينَ تَدمعُ، والقلبُ يحزنُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفِراقِكَ يا إبراهيم لَمَحْزُونون".
قوله: "القين": الحداد.
"وكان ظئرًا لإبراهيم": الظئر: المربي والمُرضع للطفل، يستوي في هذا اللفظ المذكَّر والمؤنث، يعني: كانت امرأته أم سيف تُرضع إبراهيم ابن النبي عليه السلام.
قوله: "وشمه"؛ أي: وضع أنفه ووجهه على وجهه كمَن يَشَمُّ رائحة، هذا يدل على أن محبة الأطفال والترحُّمَ بهم سنَّةٌ.
قوله: "ثم دخلنا عليه بعد ذلك"؛ أي: بعد أيام؛ إذ سمع عليه السلام أن إبراهيم مرض.
قوله: "وهو يجود بنفسه"؛ أي: وهو يتحرك ويتردَّد في الفراش؛ لكونه في النزع والغرغرة.
"تذرفان"؛ أي: تقطران وتجريان الدمع.
قوله: "وأنت يا رسول الله؟ "، يعني: وأنت تبكي كما يبكي غيرك؟ وإنما قال عبد الرحمن هذا لأنه ظن أن البكاء منهيٌّ قليلُه وكثيره.
قوله عليه السلام: "إنها رحمة"؛ يعني: البكاء يجيء من القلب الرحيم، والقلب الرحيم محمودٌ.
والبكاء يجوز من غير ندبٍ ونياحة، والمنهيُّ هو الندب والنياحة.
قوله: "ثم أتبعها بأخرى"؛ أي: ثم أتبع تلك المرة من البكاء بمرةٍ أخرى، أو تلك الدمعة، أو أتبع قوله:(إنها رحمة) بكلمةٍ أخرى، وهي قول:"إن العين تدمع".
قوله: "ولا نقول إلا ما يرضي ربنا": هذا يدل على أنه إذا لم يقل بلسانه شيئًا من الندب والنياحة، وما لا يرضاه الله تعالى، لا بأس بالبكاء.
* * *
1222 -
وقال أُسامة بن زيد: أَرْسَلَتْ ابنةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه: إن ابنًا لي قُبضَ فأْتِنَا، فأرسلَ يُقْرِئُ السلامَ ويقول:"إنَّ للهِ ما أَخَذَ وله ما أَعْطَى، وكلٌّ عندَه بأجَلٍ مسمًّى، فلتصبرْ ولتحتسبْ"، فَأَرْسَلَتْ إليه تُقْسِمُ عليه ليأتيَنَّها، فقامَ ومعَه سعدُ بن عُبادَةَ، ورجالٌ، فَرُفِعَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصبيُّ ونْفسُه تَتَقَعْقَعُ، ففاضَتْ عيناهُ، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله!، ما هذا؟، قال:"هذه رحمةٌ جعلَها الله في قُلوبِ عبادِهِ، فإنما يرحمُ الله من عبادِه الرحماءَ".
قوله: "ابنًا لي قبض"؛ أي: قَرُبَ موتُه، وهو في النزع، فأرسل يقرئها
السلام؛ يعني: فأرسل رسول الله عليه السلام أحدًا إلى ابنته ليقول لها: إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى".
قوله: "فلتحتسب"؛ يعني: لتطلب الثواب من الله في الصبر.
قوله: "فأرسلت"؛ يعني: فأرسلت إليه أحدًا مرة أخرى.
و"تقسم عليه"؛ أي: تقول له: أقسمتُ عليك أن تأتيني.
قوله: "فرُفع إلى رسول الله عليه السلام الصبي"؛ أي: وضعه أحدٌ في حجر رسول الله عليه السلام، "ونفسه تتقعقع"؛ أي: تتحرك لكونه في النزع، "ففاضت عيناه"؛ أي: نزل الدمع من عيني رسول الله عليه السلام.
قوله: "ما هذا؟ "؛ أي: ما هذا البكاء منك؟
قوله: "هذه رحمة"؛ يعني: البكاء رحمةٌ من رقة القلب، ومن ترحُّم الرجل على الناس، وهذه الصفة محمودة، وهو صفةُ رحيم القلب، ومَن يُرحِّمْ يُرحَّمْ عليه.
* * *
1223 -
وقال عبدُ الله بن عُمرَ: اشتَكَى سعدُ بن عُبادَةَ شَكْوى، فأتَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُهُ مع عبدِ الرحمن بن عَوفٍ، وسعدِ بن أبي وقَّاص، وعبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنهم، فلما دخلَ عليه وجدَه في غاشِيةٍ، فبكَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما رَأَى القومُ بُكاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوا، فقال:"ألا تَسْمَعون!، إن الله لا يُعَذِّبُ بدمعِ العينِ، ولا بحُزْنِ القلبِ، ولكن يعذِّبُ بهذا - وأشار إلى لسانِهِ - أو يرحمُ، وإن الميتَ ليُعَذَّبُ ببكاءِ أهلِهِ عليه".
قوله: "اشتكى"؛ أي: مرض، "شكوى"؛ أي: مرضًا.
قوله: "وجده في غاشية"؛ أي: في شدةٍ من المرض، ويحتمل أن يريد به
أنه صار مغشيًا عليه من غاية المرض.
"ألا تسمعون؟ "؛ أي: أما سمعتم وأما علمتم أنه لا إثم على الرجل في البكاء؟
قوله: "ولكن يعذب بهذا"؛ يعني: يكون الإثم فيما صدر من اللسان من [الجزع والنياحة.
قوله: "أو يرحم"؛ يعني: يعذب بهذا؛ يعني: يكون الإثم فيما صدر من اللسان] بسبب اللسان إن قال شرًا، أو يرحم إن قال خيرًا، مثل أن يقول عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: "وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" قال الخطابي: إنما يعذَّب الميت إذا أوصى لأهله أن يبكوا عليه ويشقُّوا ثيابهم ويضربوا خدودهم وما أشبه ذلك، فإن أوصَى بهذا يعذَّب؛ لأنه أَمر ورضي بمعصية، وإن لم يوصِ بشيء من هذا، لا يعذَّب بأن يبكي أهله عليه؛ لأن الله تعالى قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
{وَلَا تَزِرُ} أي: ولا تحمل {وَازِرَةٌ} أي: نفسٌ حاملة {وِزْرَ أُخْرَى} ؛ أي: ذنبَ نفسٍ أخرى؛ يعني: لا يحمل أحدٌ ذنب غيره، ولا يؤاخَذُ واحدٌ بذنبِ غيره.
* * *
1224 -
وقال: "ليسَ منا مَن ضرَبَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودعا بدعَوى الجاهليةِ".
قوله: "ليس منا"؛ أي: ليس من الذين يتَّبعونا؛ أي: ليس من أمتي الكاملين مَن ضرب يده على وجهه عند البكاء.
"وشق الجيوب"؛ أي: خرق ثوبه عند البكاء.
"ودعا بدعوى الجاهلية"؛ أي: وقال عند البكاء ما يقول به أهل الجاهلية ممَّا لا يجوز في الشرع.
روى هذا الحديث عبد الله بن مسعود.
* * *
1225 -
وقال: "أنا بريءٌ ممن حَلَقَ، وسَلَقَ، وخَرَقَ".
قوله: "حلق"؛ أي: حلق رأسه عند المصيبة، وكان عادةُ العرب إذا مات لأحدهم قريبٌ أن يحلق رأسه، كما أن عادة العجم قطعُ بعض شعر الرأس.
"سلق"؛ أي: رفع صوته بالبكاء وقال ما لا يجوز، فإن لم يقل بلسانه قولاً قبيحًا لا بأس بالبكاء.
"وخرق"؛ أي: شق ثوبه بالمصيبة.
روى هذا الحديث أبو موسى الأشعري.
* * *
1226 -
وقال: "أربعٌ في أُمَّتي من أمرِ الجاهليةِ لا يَتْرُكُونَهن: الفخْرُ في الأَحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ.
وقال: "النائحةُ إذا لم تَتُبْ قبلَ موتِها، تُقامُ يومَ القيامَةِ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرَانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ".
قوله: "الفخر في الأحساب"، (الأحساب): جمع حَسَب، وهو ما يَعُدُّه الرجل من الخصال التي تكون فيه كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك؛ يعني: تفضيلُ الرجل نفسَه على غيره ليَحْقِرَه لا يجوز.
قوله: "والطعن في الأنساب"؛ (الطعن): العيب؛ يعني: تحقير الرجل آباءَ غيره وتفضيلُ آبائه على آباء غيره ليؤذيه، لا يجوز، فإن كان أبو أحدهما مسلمًا وأبو الآخر كافرًا جاز تفضيلُ المسلم على الكافر.
قوله: "والاستسقاء بالنجوم"؛ يعني: اعتقادُ الرجل نزولَ المطر بظهور نجمِ كذا هذا حرام.
قوله: "والنياحة"، (النياحة): أن يقول مَن مات له قريبٌ: واويلاه واحسرتاه، والندب: أن يَعُدَّ عند البكاء خصالَ الميت، بأن يقول: واشجاعاه واأسداه.
روى هذا الحديث أبو مالك الأشعري.
قوله: "النائحة"؛ أي: المرأة التي تَعدُّ خصال الميت؛ لتوقع أقرباء الميت وغيرهم في البكاء.
"السربال": القميص.
"القطران": دهنٌ يدهن به الجمل الأجرب.
"الدرع": قميصُ النساء.
يعني: النائحة تلبس في المصيبة قميصًا أسود للمصيبة، وتخدش وجهها، وتخدش أيضًا قلوب الحاضرين بما تعدُّ من خصال الميت، فيجازيها الله تعالى يوم القيامة بأن يُلبسها لباسًا من قطران، ولباسًا من جرب.
ولباس القطران يكون أسود، ويسرع اشتعالُ النار فيه، ومعنى لباس الجرب: أنه يصير جلدها أجرب حتى يكون جَرَبُها كقميصٍ على أعضائها، وإنما فُعل بها هذا؛ لتحك وتخدش أعضاءها من الجرب، كما خدشت وجهها وقلوب الحاضرين بكلماتها.
روى هذا الحديث أبو مالك الأشعري.
* * *
1227 -
وقال أنسٌ رضي الله عنه: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ تبكي عندَ قبرٍ، فقال:"اتقي الله واصْبري"، فقالت: إليكَ عَنِّي، فإنك لم تُصَبْ بمصيبَتي - ولم تعرفه - فقيلَ لها: إنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتَتْ بابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ تَجِدْ عندَه بَوَّابينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال:"إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأُولى".
قولها: "إليك عني"؛ أي: ابعد ولا تلُمني، فإنه لم يصبك ما أصابني.
"فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: قيل لها بعد ما ذهب (1) النبي عليه السلام: إنه النبي، فندمت على ما جاوبت رسول الله عليه السلام "فأتت باب النبي عليه السلام لتعتذر، فلم تجد عنده بوَّابين" ليس النبي عليه السلام مستكبرًا ولا جبارًا، ولم ينصب على بابه بوَّابًا ولا حاجبًا، كما هو عادة الملوك.
قوله: "الصبر عند الصدمة الأولى"، (الصدم): الدق، يعني: الصبرُ المَرْضيُّ المثابُ عليه هو الصبر عند ابتداء المصيبة ولحوقِ المشقَّة، فأما الصبرُ بعد ما مضى زمانٌ مديدٌ فلا قَدْرَ له؛ لأن الصبر بعد مضيِّ مدةٍ ضروريٌّ، ولا قَدْرَ للضروري.
* * *
1228 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموتُ لمسلمٍ ثلاثةٌ من الوَلَدِ فيَلِجَ النارَ إلا تَحِلَّةَ القَسَم".
قوله: "فيلج النار"؛ أي: فإن يلج النار؛ يعني: لا يدخل النار. "إلا تحلة
(1) في "ش": "بعد ذهاب".
القسم"، (التحلّة): التحليل، وتحليل القسم: جَعْلُه صدقًا؛ يعني: لا يدخل النار إلا أن يمرَّ عليها من غيرِ لُحوقِ ضررٍ منها به، ومرورُه على النار إنما كان ليَجعل الله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] صدقًا.
ومعنى {وَارِدُهَا} : أي: آتي النار ومجاوِزٌ عليها.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1229 -
وقال لِنِسْوَةٍ من الأنصارِ: "لا يموتُ لإحداكُنَّ ثلاثةٌ من الولد فتحتسبَهُ إلا دخلَتْ الجنَّةَ"، فقالت امرأة: واثنانِ يا رسول الله؟، قال:"واثنانِ".
وفي روايةٍ: "ثلاثةٌ لم يبلغوا الحِنْثَ".
قال ابن شُميل: معناه قبل أن يبلغوا فيُكتبَ عليهم الإثمُ.
"فتحتسبه"؛ أي: فتصبر للطمع في ثواب الله تعالى.
قوله: "لم يبلغوا الحنث"؛ يعني: لم يبلغوا الاحتلامَ والبلوغ، فإن الشخص ما لم يبلغ لم يكتب عليه حنث؛ أي: ذنب، يعني: ثلاث أولاد يموتون قبل البلوغ.
روى هذا الحديث أبو سعيد.
* * *
1230 -
وقال: "يقولُ الله تعالى: ما لِعَبْدي المُؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّه مِن أهلِ الدنيا ثم احتسَبَهُ إلا الجنة".
قوله: "صفيه"؛ أي: ولده، و (الصفيُّ): المختار والمحبوب.
قوله: "ثم احتسبه"؛ أي: ثم صبر عليه طلبًا لثواب الله تعالى.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
(من الحسان):
1232 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا للمؤمن!، إنْ أصابَهُ خيرٌ حَمِدَ الله وشَكَرَ، وإنْ أصابَتْهُ مصيبةٌ حَمِدَ الله وصبَرَ، فالمؤمنُ يُؤجرُ في كلِّ أمرِهِ، حتى في اللُّقمةِ يرفعُها إلى في امرأتِهِ".
قوله: "إن أصابته مصيبة حمد الله تعالى وصبر" هذا يدلُّ على أن الحمد محمودٌ عند النعمة وعند المصيبة.
وتحقيق الحمد عند المصيبة: أن المصيبة نعمةٌ أيضًا؛ لأنه يحصل له ثوابٌ عظيم، والثواب نعمةٌ خيرٌ من نعم الدنيا، فالحمد لهذا.
قوله: "يرفعها إلي في امرأته"، (في) هنا بمعنى الفم؛ يعني: يحصل للمؤمن أجرٌ في جميع أمره، حتى في وضع اللقمة في فم امرأته.
فإن قيل: كيف يؤجر في جميع أمره، بل ينبغي أن يقال: فيما هو خيرٌ من أمره؟.
قلنا: الأمر ثلاثة أنواع: خيرٌ وشرٌّ ومباحٌ، فالمراد هنا بـ (أمره): الخير والمباحُ، فالمباح ينقلب خيرًا بالنية والقصد، مثالُه: النوم مباح، فإذا قصد بالنوم زوالَ التعب والملالةِ ليقوم لصلاة الصبح عن نشاطٍ وفرحٍ، يكون نومه طاعة.
والأكل مباح، فلو قصد به قيام جسده وحصولَ القوة فيه حتى يقدر على الطاعة، يكون الأكل طاعة، وكذلك جميع المباحات.
روى هذا الحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
* * *
1233 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ مُؤمنٍ إلا وله بابانِ بابٌ يصعدُ منهُ عملهُ، وبابٌ ينزلُ منه رِزْقُهُ، فإذا ماتَ بَكَيَا عليه، فذلكَ قوله عز وجل:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29].
قوله: "بكيا عليه" ووجه بكائهما عليه: أن الله تعالى خلق السماوات والأرض لعباده من الملائكة والجن والإنس، فمَن صدر خيرٌ منه تحبُّه السماء والأرض، وما كان مشغولًا به من السماء والأرض يتشرَّف لأجله، فإذا مات العبد الذي يتشرَّف به مكانُه وما كان مشغولًا به من السماء والأرض بكيا بفراقه؛ لأنه انقطع خيره من السماء والأرض، ولا شك أن السماء والأرض تحزنان وتبكيان على انقطاع الخير عنهما، هذه صفة المؤمن.
وأما الكافر: تتأذى به السماء والأرض؛ لأنه يصدر منه الكفر والشر، فإذا مات تفرح السماء والأرض بموته؛ لأنه انقطع عنهما كفره وشره، فإذا كان كذلك فلا تبكيان عليه.
* * *
1234 -
عن ابن عباس قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ له فَرَطَانِ مِن أمتي أدخلَهُ الله بهما الجنَّةَ"، فقالت عائشةُ رضي الله عنها: فَمَن كانَ له فَرَطٌ مِن أُمَّتِكَ؟، قال:"وَمَن كانَ له فَرَطٌ يا مُوَفَّقةُ"، فقالت: فمَن لم يكنْ له فَرَطٌ مِن أُمَّتك؟، فقال:"فأنا فَرَطُ أمَّتي، لن يُصابوا بمِثْلي"، غريب.
قوله: "من كان له فرطان"، (الفرط) بفتح الفاء والراء: الذي يتقدم القومَ
ليهيئ أسبابهم في المنزل، حتى إذا وصلوا إلى المنزل تكون أسبابهم مهيَّأة، والمراد هنا: الطفل الذي مات، سمِّي فَرَطًا لأنه يتقدم أبويه في الذهاب إلى الآخرة، يعني: من مات له ولدان عوَّضه الله تعالى الجنة عن مصيبته، وبتجرُّح قلبه بموتهما.
قوله: "فمن كان له فرط"؛ يعني: مَن مات له ولدٌ واحد فهل يكون له هذا الثواب أيضًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن كان له فرط"؛ يعني: من مات له ولد يكون له هذا الثواب أيضًا.
قوله لها: "يا موفَّقة"؛ يعني: الحرص على معرفة الشرع، والشفقة على الخلق بسؤالِ قَدْرِ ثوابهم، وذكاءُ القلب على السؤال = توفيقٌ من الله الكريم، وأنت موفَّقةٌ بهذه الأشياء.
قوله: "لن يصابوا بمثلي"؛ يعني: لم تصل مصيبةٌ إلى أمتي مثل موتي، هذا يدل على أن المؤمن ليَكُنْ فوتُ ما يتعلق بالدِّين وفوتُ مَن تكون محبته لله تعالى عنه أشدَّ عنده من فوت ما تكون محبتُه نفسانيًا كالولد وغيره.
* * *
1235 -
وقال: "إذا ماتَ ولدُ العبدِ؛ قال الله لملائكتِهِ: قَبَضْتُم ولَد عبدي؟، فيقولونَ: نعم، فيقول قَبَضْتُم ثَمَرَةَ فؤادِهِ؟، فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قالَ عبدي؟، فيقولون: حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ، فيقولُ الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنةِ، وسَمُّوهُ بيتَ الحمدِ".
قوله: "واسترجع"؛ أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: "سمُّوه بيتَ الحمد"؛ أي: اجعلوا اسمَ ذلك البيت: بيت الحمد، أضاف ذلك البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة؛ لأن ذلك البيتَ يكون جزاءَ ذلك الحمد.
روى هذا الحديث أبو موسى الأشعري.
* * *
1236 -
وقال: "مَنْ عَزَّى مصابًا فله مثلُ أجرِهِ".
قوله: "من عزى مصابًا"، (التعزية): أن يأمر أحدٌ أحدًا بالصبر، والمراد هنا: أن يقول لمَن مات له قريبٌ: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. العزاء - بالمد -: الصبر.
روى هذا الحديث عبد الله بن مسعود.
* * *
1237 -
عن أبي بَرْزَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدًا في الجنَّةِ"، غريب.
قوله: "من عزى ثكلى"، (ثكلى) بفتح الثاء: المرأة التي مات ولدها.
* * *
1238 -
وروي: أنَّه لمَّا جاءَ نَعْيُ جَعْفرَ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنَعُوا لآلِ جعفرٍ طعامًا، فقد أتاهُمْ ما يَشْغَلُهم".
"نعي جعفر"؛ أي: خبر موته.
قوله: "ما يشغلهم"؛ أي: ما يمنعهم عن تهيئة الطعام.
وهذا يدل على أن المستحَبَّ لأقرباء الميت وجيرانه أن يرسلوا طعامًا إلى أهل الميت.
روى هذا الحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
* * *