الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما فاتَكُمْ فأَتِمُّوا"، ويُروى: "فإنَّ أحدَكُمْ إذا كانَ يَعْمِدُ إلى الصَّلاةِ فهو في صَلاةٍ".
قوله: "فلا تأتوها تسعَونَ"؛ يعني: كونوا في المشي إلى المسجد غيرَ مسرعين، وإن خفتم فوتَ الصلاة، فإذا أتيتم المسجد وقد فاتكم بعضُ صلاة الجماعة، فصلُّوا ما بقي منها، ويحصلُ لكم الثواب كاملًا؛ لأن من قصد الصلاة؛ فكأنه في الصلاة من حين قصدها، وهذا إذا لم يكن مقصَّرًا بالتأخير.
* * *
6 - باب المَساجِد ومَواضع الصَّلاةِ
(باب المساجد ومواضع الصلاة)
مِنَ الصَّحَاحِ:
478 -
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: لمَّا دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم البيتَ دَعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلَّ حتى خرجَ، فلمَّا خرجَ ركعَ ركعَتَيْنِ في قُبُلِ الكَعْبَةِ، وقال:"هذِهِ القِبْلةُ".
قوله: "لما دخل النبي عليه السلام البيت"؛ يعني: لما دخل عام فتح مكة الكعبةَ.
"دعا في نواحيه"؛ أي: وقف في كل جانب من جوانب الكعبة من داخلها، ودعا، "ولم يصلِّ"، ثم "خرج وصلى ركعتين في قُبُلِ الكعبة"، (القبل) بضم القاف وإسكان الباء وضمها: ضد الدبر، وأراد بـ (قبل الكعبة): مستقبلَ باب الكعبة.
قوله: "وقال هذه القبلة"؛ أي: قال رسول الله عليه السلام هذا؛ أي: استقرَّ أمر القبلة بحيث لا يُنسَخُ إلى القيامة، ويجب أن يتوجَّه الكعبةَ من يصلي في أيَّ مكان من الأرض.
(القبلة): ما يقبل عليه الرجل؛ أي: يستقبله.
* * *
479 -
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ الكعبةَ هو وأُسامَةُ بن زَيْدٍ وعُثْمَانُ بن طَلحةَ الحَجَبيُّ وبلالُ بن رَباح، فأغلقَها عليه، ومكثَ فيها، فسألتُ بلالاً حينَ خرجَ: ماذا صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جَعَلَ عَمودًا عن يسارِهِ، وعَمودَيْنِ عن يمينِهِ، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَهُ، ثمَّ صلَّى.
قوله: "إن رسول الله عليه السلام دخل الكعبة
…
" إلى آخره.
وجدُّ "أسامة": حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى.
وأما جدُّ "عثمان بن طلحة": أبو طلحة عبد الله بن العزى بن عثمان بن عبد الدار القرشي.
أما "بلال بن رباح" فهو مؤذن رسول الله عليه السلام، وهو حبشي، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
"الأعمدة": جمع عمود؛ يعني بهذا الحديث: أنه كان للكعبة يومئذ ستة أعمدة، فوقف رسول الله عليه السلام كما وصف هنا، وأما الآن فليست الكعبة على تلك الهيئة؛ لأنه غيَّرها حجَّاج بن يوسف، وفي أيَّ موضع منها يصلي الرجل جاز.
* * *
480 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صلاةٌ في مسجِدي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ إلَاّ المسجدَ الحرامِ".
قوله: "صلاة في مسجدي هذا"؛ أراد بقوله: (مسجدي) مسجدَ المدينة.
* * *
481 -
وقال: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَاّ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومَسجدِي هذا"، رواه أبو سعيد الخُدْرِيُّ رضي الله عنه.
قوله: "لا تشد الرحال"، (لا) هنا نفيٌ معناه النهي، و (الرحال): جمع رحل، وهو: ما يكون مع المسافر من الأقمشة.
يعني: لو نذر واحد أن يمشي إلى مسجد للصلاة أو غيرها، لم يجب عليه المشي، إلا إلى هذه المساجد الثلاثة؛ لأن ما سوى هذه الثلاثة متساوٍ ففي أيِّ موضع يصلي خرج من النذر، ولا يلزمه المشي إلى المسجد الذي عيَّنه في نذره، وأما هذه المساجد الثلاثة لها فضيلة على غيرها؛ أما الكعبة فلأنها القبلة، ولأنها تقصد للحج والعمرة.
وأما مسجد المدينة فلأنه موضع النبي عليه السلام ومصلاه.
وأما بيت المقدس فلأنه كان قبلة الأنبياء، وصلى إليه رسول الله عليه السلام لمَّا قدم المدينة ستة عشر شهرًا، وقيل: سبعة عشر شهرًا، ثم نزل بين الظهر والعصر:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] إلى آخر الآية، فحوَّل إلى الكعبة، فأوَّلُ صلاة صلاها رسول الله عليه السلام في المدينة إلى الكعبة العصر.
* * *
482 -
وقال: "ما بينَ بَيتي ومِنبَري رَوضةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي على حَوْضي"، رواه أبو هريرة.
قوله: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومِنبري على حَوْضي"، وكان باب حجرته عليه السلام مفتوحًا إلى المسجد، والمحراب بين المنبر وبين بيته، وأراد بقوله:"روضة": المحراب؛ لأن محرابه عليه السلام موضع الصلاة والوعظ والذكر، وفيه بركته؛ يعني: محرابي سبب وصول الرجل إلى الجنة بالإيمان به، وقَبولِ ما يصدر من النبي عليه السلام من الأحاديث، وهو موضع الملائكة والصالحين، لا يخلوا أبدًا من أهل الصلاح، ولا شك أن الموضعَ الذي هذه صفته سببُ وصول الرجل إلى الجنة.
وقد قال عليه السلام: "إذا مررتم برياض الجنة فارتَعوا" قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: "حِلَق الذَّكر".
قوله: "ومنبري على حوضي"؛ يعني: من آمن بكون منبري حقًا، وكون ما يسمع مني على منبري حقًا، ويعمل به، يردُ عليَّ على حوض الكوثر، ومن لم يكن بهذه الصفة، لم يرد عليَّ على حوضي.
* * *
483 -
عن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأْتي مسجِدَ قُباءٍ كُلَّ سَبْتٍ ماشِيًا وراكبًا، فيُصلِّي فيهِ ركعَتْينِ.
قوله: "يأتي مسجد قباء
…
" إلى آخره، هذا الحديث يدلُّ على أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحبٌّ، وأن الزيارة يوم السبت سنة.
و (قُباء): مسجد خارج المدينة قريب منها، و (قباء) ممدود، ذكره في "الصحاح".
* * *
484 -
وقال: "أحبُّ البلادِ إلى الله مسَاجِدُها، وأبغضُ البلادِ إلى الله تعالى أسواقُها"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "أحب البلاد إلى الله"، (البلاد): جمع بلد، وهو المواضع؛ يعني: أحب المواضع إلى الله تعالى المساجد؛ لأنها مواضعُ الصلاةِ والذكر، وأبغضُ المواضع إلى الله الأسواق؛ لأنها مواضعُ الغفلةِ والحرص والطمع والخيانة.
* * *
486 -
وقال: "مَنْ غَدا إلى المسجدِ أو رَاحَ، أعدَّ الله لهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدا أو راحَ".
قوله: "من غدا إلى المسجد"، (غدا): إذا مشى في أول النهار، و (راح): إذا مشى في أول الليل.
"أعد الله"؛ أي: هيَّأ الله.
"النزل" بضم الزاي، ويجوز إسكانها: ما يُقدَّم إلى الضيف من الطعام.
يعني: عادة الناس أن يقدموا طعامًا إلى من دخل بيوتهم، والمسجدُ بيتُ الله، فمن دخله في أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله تعالى أكرمُ الأكرمين، فلا يضيعُ أجرَ المحسنين.
* * *
487 -
وقال: "أعظمُ النَّاسِ أجْرًا في الصَّلاةِ أبعَدُهُمْ فأبعَدُهُمْ مَمْشًى، والذي يَنتظِرُ الصَّلاةَ حتَّى يُصَلِّيها مع الإِمام أعظمُ أجرًا مِنَ الذي يُصَلِّي ثمَّ ينامُ"، رواه أبو موسى رضي الله عنه.
قوله: "فأبعدهم ممشى"، (الممشى): مصدر ميمي، أو مكان؛ يعني: من كان من بيته إلى المسجد أبعد مسافة فأجرُه أكثرُ؛ لأن الأجر بقدر التعب.
قوله: "يصلي ثم ينام"؛ يعني: يصلي منفردًا، ثم ينام، ولا ينتظر الإمام.
* * *
488 -
وقال جابر: أرادَ بنو سَلِمَةَ أَنْ يَنتقِلُوا إلى قُرْب المسجدِ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا بني سَلِمَةَ! دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكُمْ، دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكم".
قوله: "أراد بنو سَلِمة" بكسر اللام: قبيلة من الأنصار، وكان بين دورهم وبين مسجدِ رسول الله عليه السلام مسافةٌ بعيدة، يلحقهم تعب في سواد الليل في المشي إلى المسجد، فأرادوا أن يتركوا دورهم، ويتخذوا دورًا أخر بقرب المسجد، فقال لهم رسول الله عليه السلام:"بني سلمة! "؛ أي: يا بني سلمة! "ديارَكم"؛ أي: الزموا دياركم، فلا تنتقلوا عنها، "تكتب" بجزم الباء على جواب الأمر المقدر؛ أي: حتى يكتب أجرُ "آثاركم"؛ أي: أقدامكم؛ يعني: لكل خطوة درجة في المشي إلى المسجد، فما كان الخطا أكثرَ يكون الأجرُ أكثرَ.
* * *
489 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلَّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأَ في عِبادَةِ الله تعالى، ورجُلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسجِدِ إذا خَرَجَ مِنْهُ حتَّى يَعودَ إليه، ورجُلَانِ تحابَّا في الله اجتَمَعَا عليهِ، وتَفرَّقا عليه، ورجُل ذكرَ الله خالِيًا ففاضَتْ عَيْنَاهُ، ورجُل دَعَتْهُ امرأَةٌ ذاتُ حَسَبٍ وجَمالٍ فقال: إنَّي أَخافُ الله، ورجُلٌ تصَدَّقَ بصدَقَةٍ فأخْفاهَا حتَّى لا تعلمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُهُ".
قوله: "يظلهم الله"، أظل يظل: إذا أوقف أحدًا في الظل، وجعل الظلَّ على رأسه.
"يظلهم الله تعالى في ظله"؛ أي: يجعلهم الله تعالى في حفظه وعنايته، ويحفظهم عن عذاب يوم القيامة.
"يوم لا ظلَّ إلا ظله"؛ أي: لا قدرةَ ولا رحمةَ في يوم القيامة إلا لله.
"إمام"؛ أي: ملك وحاكم.
"نشأ"؛ أي: نما؛ أي: يكون في العبادة من أول بلوغه بسنِّ التمييز إلى أن كبر.
"تحابَّا في الله"؛ أي: جرت المحبةُ بينهما لله، لا لغرضٍ دنيوي.
"اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه"؛ يعني: لو كانا جالسين ومجتمعين يكونان في رضا الله تعالى في الحب لله، ولو كانا متفرقين يكونان على ذلك الحب، يحفظان الحب في الحضور والغيبة.
"ذكر الله خاليًا"؛ أي: يخاف الله في الخلوة، ويبكي من خوفه، ومن تقصيره في الطاعة، وخوف ذنوبه.
"فاضت عيناه"؛ أي: جرى الدموع من عينيه.
"دعته امرأة"؛ أي: دعته امرأة أن يزني بها، ولها جمالٌ كاملٌ وحسب، ومع ذلك يتركها من خوف الله تعالى.
"الحسب": ما يعدُّه الرجلُ من مفاخر آبائه، وكذا ما يكون في الرجل من الخصال الحميدة، وكذلك المرأة، والمرأةُ إذا كانت شريفةً ذاتَ خصال حميدة، تكون النفسُ أميلَ إليها ممن لم تكن بهذه الصفة.
قوله: "لا تعلم شماله ما تنفق يمينه": هذا تأكيدٌ ومبالغةٌ في الإخفاء، وليس المراد به الحقيقة؛ لأن نسبةَ العلمِ إلى الشمال استعارة؛ لأن الشمالَ لا تعلم شيئًا.
* * *
490 -
وقال: "صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سُوقِهِ خَمْسًا وعشرينَ ضعفًا، وذلكَ أنَّهُ إذا تَوَضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ، ثمَّ خرجَ إلى المسجد لا يُخرجُهُ إلاّ الصَّلاةُ، لم يَخْطُ خُطوةً إلاّ رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنهُ بها خَطيئةٌ، فإذا صَلَّى لمْ تَزَلِ الملائكةُ تُصَلِّي عليهِ ما دامَ في مُصَلَاّهُ: اللهم صلِّ عليه، اللهم! ارحمْهُ".
وقال: "لا يزالُ أحدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَ ينتظِرها، ولا تزالُ الملائكَةُ تُصلَّي على أحدِكُمْ ما دامَ في المسجِدِ تقول: اللهمَّ! اغفِرْ لهُ، اللهمَّ! ارحَمْهُ ما لمْ يُحدِثْ".
قوله: "تُضعَّفُ"؛ أي: تزاد.
"لا يخرجه إلا الصلاة"؛ يعني: لا يخرج من بيته إلى المسجد إلا للصلاة، لا لشُغلٍ آخر.
"تصلِّي عليه"؛ أي: تدعو له، وتستغفرُ له.
"في مصلاه"؛ أي: في الموضع الذي صلَّى فيه.
قوله: "اللهم! اغفر له"؛ يعني: تقول الملائكة: اللهم! اغفر له.
"ما لم يُحْدِث" بسكون الحاء وتخفيف الدال؛ أي: ما لم يُبطِلْ وُضوءه.
* * *
492 -
وقال: "إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ".
قوله: "فليركعْ ركعتين"؛ يعني: فلْيصلِّ ركعتين تحيةَ المسجد.
* * *
493 -
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يَقْدُمُ مِنْ سفَرٍ إلَاّ نهارًا في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بدأَ بالمسجِدِ، فصلَّى فيهِ ركعَتَيْنِ، ثمَّ جلسَ فيه.
قوله: "لا يَقدُم من سفر إلا نهارًا"، فالسنة إذا رجع من السفر: أن يدخل الرجل بلده في أول النهار، بدليل هذا الحديث، وليبدأ بدخول المسجد، وليصلَّ ركعتين تحية المسجد، وليجلس فيه لحظة؛ ليزوره أحباؤه ويزورهم، ثم يدخلُ بيته.
* * *
494 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عليكَ، فإنَّ المساجِدَ لمْ تُبن لهذا".
قوله: "ينشدُ ضالَّة"، نشد ينشد: إذا طلب الضالة؛ يعني: رفع الصوت في المسجد غيرُ جائزٍ في غير ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، والوعظ، ودرس العلم.
* * *
495 -
وقال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجرةِ المُنْتَنِةَ فلا يَقْرَبن مَسجِدَنَا، فإنَّ الملائكَةَ تتأذَّى ممَّا يَتَأَذَّى منهُ الإِنسُ".
قوله: "من أكل من هذه الشجرة"؛ أي: من الثوم، هكذا ذكر في "شرح السنة"، ويقاس عليه البصلُ، وما له رائحة كريهة؛ يعني: من أكل شيئًا له رائحة كريهة، كُرِهَ له أن يدخلَ المسجد؛ كيلا يتأذى برائحته الملائكة، ومن حضر من الإنس، والنهيُ ليس من دخول المسجد، بل من أكل هذه الأشياء.
* * *
496 -
وقال: "البُزاقُ في المَسجِدِ خَطيئةٌ، وكفَّارتُها دَفْنُها".
قوله: "البزاق في المسجد خطيئةٌ، وكفارتُها دفنُها"، رواه أنس.
يعني: إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهرٍ عقيبَ الإلقاءِ أزال عنه تلك الخطيئة.
قوله: "البزاق في المسجد" تقديره: إلقاء البزاق في المسجد.
* * *
497 -
وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أَعمالُ أُمَّتِي حَسَنُها وسيَّئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالِها الأَذَى يُماطُ عنِ الطَّريقِ، ووجدتُ في مَساوئ أعمالِها النُّخَاعةَ في المسجدِ لا تُدْفَنُ".
وقال: "عُرِضت عليَّ أعمالُ أمتي حسنُها وسيَّئُها".
قوله: "فوجدتُ في محاسنِ أعمالهم"، (المحاسن): جمع حسن.
"الأذى": ما يتأذى به الناس من حجر وشجر في الطريق، وغير ذلك.
"يُماط"؛ أي: يُبعَد.
"المساوئ": جمع مَسَاء، وأصله:(مَسْوَء)، فنُقِلت فتحة الواو إلى السين، وقُلِبت ألفًا، ومعناه: السيئة، و (السوءُ) مثله، ويحتمل أن تكون (المساوئ) جمع: السوء، كـ (المحاسن) جمع: الحسن، والياء في (المساوي) مقلوبةٌ عن الهمزة.
"النُّخاعة" والنُّخامة: البزاق الذي يلقيه الرجل من فمه.
يعني: إماطةُ الأذى عن الطريق من جملة الحسنات، وإلقاءُ البزاق في المسجد من جملة السيئات، إذا لم "يدفن"؛ أي: لم يستر.
* * *
498 -
وقال: "إذا قامَ أحدُكُمْ إلى الصَّلاةِ فلا يَبصُقْ أَمامهُ، فإنما يناجي الله ما دام في مُصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملَكًا، وليبصُق عن يَسارِهِ أو تحتَ قدَمِهِ فَيَدْفِنُها"، وفي رواية:"أو تحتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى".
قوله: "فلا يبصق"؛ أي: فلا يسقط البزاق.
قوله: "أمامه" بفتح الهمزة؛ أي: تلقاء وجهه؛ يعني: نحو القبلة.
و"يناجي الله تعالى"؛ أي: يخاطبه، ومن يخاطب أحدًا لا يبصق نحوه، والله تعالى ليس له مكان حتى يختصَّ بجهة، بل جميع الجهات عنده سواء، ولعل المراد من النهي: أن لا يبصق المصلي تلقاء وجهه صيانةً للقبلة عما ليس فيه تعظيمٌ.
قوله: "فإن عن يمينه ملكًا"، اعلم أن عن يساره ملكًا كما أن عن يمينه ملكًا؛ لقوله تعالى:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17].
(يتلقى)؛ أي: يأخذ ويكتب، (المتلقيان): الملكان الموكلان بالإنسان؛ أحدهما عن يمينه يكتب حسناته، والثاني عن شماله يكتب سيئاته.
(قعيد)؛ أي: كل واحد منهما مُقاعِدٌ؛ أي: مجالس وملازم له.
ولعل المراد بالنهي عن إلقاء البزاق عن اليمين: زيادةُ تعظيم الملك الذي هو عن اليمين؛ لأنه يكتب الحسنات، ومن يكتب الحسنات أشرفُ من الذي يكتب السيئات، ولأن جانب يمين الرجل خيرٌ من شماله.
وفي هذا الحديث دلالةٌ على طهارة البزاق؛ لأنه لو لم يكن طاهرًا لما أمر النبي عليه السلام المصلي بإلقاء البزاق في مُصلاه، وقد أمره في حديث آخر: أن يأخذ البزاق بثوبه.
قال الخطابي: لا أعلمُ أحدًا قال بنجاسة البزاقِ إلا إبراهيم النخعي.
* * *
499 -
وقال: "لَعنةُ الله على اليَهودِ والنَّصارَى، اتَّخَذُوا قُبورَ أَنبيائهم مَساجِدَ".
قوله: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى"، وعلةُ دعائه عليه السلام على اليهود والنصارى باللعنة: أنهم يصلُّون في المواضع التي فيها أنبياؤهم عليهم السلام مدفونون؛ إما للسجود لهم، وهذا كفر؛ لأن السجودَ لا يجوز إلا لله، وإمَّا لاعتقادهم أن الصلاة ثمة أفضل؛ لكونها خدمة لله وتعظيمًا لأنبيائهم، وهذا شرك؛ لأنه لا يجوز أن يقصد بالصلاة إلا تعظيم الله تعالى وطاعته.
وعلةُ نهيه عليه السلام أمتَهُ عن الصلاة في المقابر الاحترازُ عن مشابهة اليهود والنصارى.
* * *
501 -
وقال: "اجْعَلُوا في بُيوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، ولا تتَّخِذُوهَا قُبورًا".
قوله: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم"؛ يعني: صلُّوا في بيوتكم، ولا تتخذوها كالمقابر؛ فإن المقابرَ هي التي نُهِي عن الصلاة فيها.
وقيل: معناه: صلوا في بيوتكم؛ فإنكم لو لم تصلوا فيها، فقد شبَّهتم بيوتكم بالمقابر، وشبَّهتم أنفسَكم بالموتى.
ومن قال: معناه: لا تدفنوا الموتى في بيوتكم، فقد أخطأ؛ لأن النبي عليه السلام دُفِنَ في بيته بإجماع من الصحابة.
* * *
503 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبْلةٌ".
قوله: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة.
اعلم أنَّ المشارقَ والمغارب كثيرةٌ؛ لأن (المشارق) جمع: مشرق، وهو موضع شروق الشمس؛ أي: طلوعها، وكل وقت تطلع الشمس من موضع، وتغرب من موضع، فأولُ المشارق مشرقُ الصيف، وهو مطلع الشمس في أطول يوم من السنة، وذلك قريبٌ من مطلع السِّماكِ الرَّامِح، يرتفع عنه في الشمال، وآخر المشارق مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة، وهو قريبٌ من مطلع قلبِ العقربِ، ينحدر عنه في الجنوب قليلًا، وأولُ المغارب مغربُ الصيف، وهو مغيب القرص عند موضع غروب السِّماكِ الرامِح، وآخر المغارب مغرب الشتاء، وهو مغيب القرص عند مغرب قلب العقرب على نحو ما ذكرته في مطلعه، فمن جعل من أهل الشرق أول المغارب عن يمينه وآخر المشارق عن يساره، كان مستقبلًا للقبلة، والمراد بأهل الشرق: أهل الكوفة وبغداد وخرستان وفارس والعراق وخراسان، وما يتعلق بهذه البلاد.
* * *
504 -
وقال طَلْق بن علي: خرجْنَا وَفْدًا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فبايعناهُ، وصَلَّيْنَا معهُ، وأخبَرْنَاهُ أنَّ بأرضنَا بِيْعةٌ لنا، فقال:"إذا أَتيتُمْ أرضَكُمْ فاكسِروا بِيعَتَكُمْ، وانضَحُوا مَكانَها بهذا الماءِ، واتَّخِذُوهَا مسجِدًا".
قوله: "خرجْنَا وَفْدًا"، (الوفد): الجماعة الذين يقصدون أحدًا لرسالة أو مهم، (وفدًا) هنا منصوب على الحال؛ أي: خرجنا في حال كوننا قاصدين رسول الله عليه السلام لتعليم الدين.
"البيْعَة": الموضع الذي يتعبد فيه النصارى.
"فاكسروا بِيعتكم"؛ أي: أخربوها.
"وانضحوا"؛ أي: رُشُوا وأريقوا.
"مكانها بهذا الماء"، أراد بهذا الماء: فضلَ وضوء رسول الله عليه السلام؛ لأنه رُوِيَ: أن طلقَ بن عليًّ رضي الله عنهما قال: استوهبنا رسولَ الله عليه السلام فضلَ وضوء، فدعا بماء فتوضأ منه، وتمضمض، ثم صبَّه في إِداوةٍ وقال:"اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بِيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدًا" فقلنا: يا نبي الله! إن البلدَ بعيدٌ والماءُ ينشفُ، قال:"أمدُّوه من الماء، فإنه لا يزيد إلا طيبًا"، فعلمنا بهذا الحديث: أن قوله عليه السلام: "بهذا" الإشارةُ إلى فضل وضوئه، لا إلى جنس الماء.
قوله: "أمدُّوه"؛ أي: زيدوا عليه ماء آخر حتى يكثر. الإمداد: الزيادة.
* * *
505 -
قالت عائشة رضي الله عنها: أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببناءِ المَساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ.
قوله: "أمر رسول الله عليه السلام"؛ يعني: أذن رسول الله عليه السلام أن يُبنى في كلَّ محلة مسجدٌ.
و"الدور": المحلات.
ويحتمل أن يكون المراد به: أنه أذن أن يبني الرجل في داره مسجدًا يصلي فيه أهلُ بيته.
ولا يصيرُ الموضع مسجدًا بالصلاة فيه حتى يقول مالكه: جعلت هذا مسجدًا، فإذا قال ذلك، زال عنه ملكه، ويثبت لذلك الموضع حكمُ المسجد من تحريم لبث الجنب، والحائض.
قولها: "وتُنظَّف"؛ أي: وتتطهر بإزالة النتن والتراب والقذارة وما أشبه ذلك منه.
قولها: "وتُطيَّب"؛ أي: يجعل فيها الطيبُ.
* * *
506 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أُمِرْتُ بتشييدِ المَساجِدِ"، قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زَخْرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى.
قوله: "ما أُمرتُ بتشييد المساجد"؛ (التشييد): جعل الشيء رفيعًا، والتشييد أيضًا: جعل الشيء أبيض بالجص؛ يعني: ما أمرت أن أجعل المسجد رفيعًا مبيضًا بالجصِّ؛ لأنهما زائدان على قدر الحاجة.
قوله: "لتزخرفُنَّها"؛ أي: يأتي عليكم زمان تزينون فيه المساجد بالنقوش وتبيِّضونها بالجص، وتتفاخرون بكونها رفيعة مزينة، وهذا بدعةٌ لم يفعله رسول الله عليه السلام، ولأنه إتلافٌ للمال، ولأنه موافقةٌ لليهود والنصارى؛ فإنهم يزينون بِيعهم وكنائسهم.
* * *
507 -
عن أنس رضي الله عنه عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ أنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ في المساجِدِ".
قوله: "إن من أشراط الساعة"، (الأشراطُ): جمع شرطٍ، وهو: العلامة.
"أن يتباهى"؛ أي: يتفاخر؛ يعني: من علامات القيامة أن يتفاخر كل واحد بمسجد، ويقول: مسجدي أرفعُ وأكثر زينةً من مسجد فلان.
* * *
508 -
وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أُجُورُ أُمَّتي حتَّى القَذَاةَ يُخرِجُها الرجُلُ مِنَ المسجِدِ، وعُرِضَتْ عليَّ ذُنُوبُ أُمَّتي، فلمْ أَر ذنبًا أعظمَ مِنْ سورَةٍ مِنَ القُرآنِ أو آيةٍ أُوتيَها رجلٌ، ثمَّ نسِيَها".
"حتى القذاة"، (القذاة): التبن والتراب أو غير ذلك مما يُطهَّر منه المسجد؛ يعني: تطهير المسجد حسنة.
قوله: "فلم أرَ ذنبًا
…
" إلى آخره؛ يعني: من تعلم سورة أو آية من القرآن، ثم نسيها، يكون ذنبُهُ أعظمَ من سائر الذنوب الصغائر؛ لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن عن استخفافٍ، وقلةِ تعظيم القرآن، وإنما قال عليه السلام هذا للتشديد والتحريض على مراعاة حفظ القرآن.
* * *
509 -
وقال: "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجِدِ بالنُّور التَّامِّ يومَ القِيامَةِ".
قوله: "بشِّر المشَّائين"، (المشاء): كثير المشي.
* * *
510 -
وقال: "إذا رأَيتُم الرجل يتعاهد المَسجدَ فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ".
قوله: "يتعاهد المسجد"؛ أي: يخدمه ويعمره؛ يعني: إذا رأيتم الذي يعمر المسجد ويصلحه فاعلموا أنه مؤمنٌ.
* * *
511 -
قال عُثمان بن مَظْعُون رضي الله عنه: قلت: يا رسولَ الله! ائذَنْ لنا في الاخْتِصَاءِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "ليسَ مِنَّا مَن خَصَى، ولا مَنِ اخْتَصى، إنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ"، فقال: ائذَنْ لنا في السِّياحَةِ، فقال:"إنَّ سياحَةَ أُمَّتِي الجِهادُ في سَبيلِ الله"، فقال: ائذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ، فقالَ:"إنَّ تَرَهَّبَ أُمَّتِي الجُلُوسُ في المَساجِدِ انتِظارَ الصَّلاةِ".
قوله: "ليس منا من خصى ولا اختصى": خصى يخصِي خِصاء - بكسر الخاء في المصدر -: إذا أخرج وسلَّ خصيةَ أحد، و (اختصى): إذا أخرج وسلَّ خصية نفسه.
اعلم أن جماعةَ أهلِ الصُّفة أرسلوا عثمان بن مظعون إلى رسول الله عليه السلام؛ ليستأذن رسول الله عليه السلام في الاختصاء؛ لأنهم يشتهون النساء، وليس لهم مهرٌ ونفقة أن يتزوجوا، فنهاهم رسول الله عليه السلام عن ذلك، وأمرهم بالصوم؛ فإن الصوم يكسر الشهوة.
"السِّياحة": مصدر ساح يسيح: إذا تردَّدَ وسافرَ في البلاد.
"الترهُّب": التزهُّد، والمراد هنا: العزلة عن الناس، والفرار من بينهم إلى رؤوس الجبال والمواضع الخالية، كما فعلت زُهَّادُ النصارى.
"انتظارَ الصلاة" منصوب بأنه مفعولٌ له؛ أي: لانتظار الصلاة.
كنية "عثمان": أبو الثابت، واسم جده: حبيب بن وهب بن حُذافةَ القرشي.
* * *
512 -
عن عبد الرحمن بن عائش رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأَيتُ رَبي تبارك وتعالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ، فقال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمّد؟ قلتُ: أنتَ أَعْلَمُ أَي رَبَّ - مَرَّتَيْنِ - قال: فَوَضعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ،
فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ ما في السَّماءِ والأَرْضِ، ثُمَّ تلا هذه الآية:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ، ثم قال: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؟ قلتُ: في الكَفَّاراتِ، قالَ: وما هُنَّ؟ قُلْتُ: المَشْيُ على الأقْدَامِ إلى الجماعَاتِ، والجُلُوسُ في المَساجِدِ خَلْفَ الصَّلواتِ، وإبلاغُ الوُضوءِ أماكِنَهُ في المَكَارِهِ، مَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، ويكونَ مِنَ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ومِنَ الدَّرَجَاتِ إطْعَامُ الطَّعامِ، وبَذْلِ السَّلامِ، وأنْ يَقُومَ بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ، قال: قُلِ: اللهمَّ! إنَّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكين، وأَنْ تَغْفِرَ لي خَطِيئتِي وتَرْحَمَني وتَتُوبَ عَلَيَّ، وإذا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ".
قوله: "رأيتُ ربي تبارك وتعالى في أحسنِ صورةٍ
…
" إلى آخره.
اعلم أنَّ هذا الحديثَ مرسلٌ؛ لأن عبد الله بن عائشٍ - بالشين المنقوطة - يروي هذا الحديث عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، قال معاذ: لم يخرجْ علينا رسول الله عليه السلام يومًا لصلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فخرج وصلى بنا صلاة الغداة على العجلة، ثم قال: "قمتُ الليلةَ وصلَّيتُ ما قدَّر الله لي أن أصلي، ثم غلبني النعاس، فرأيتُ في المنام ربي في أحسن صورة
…
"، وحكى إلى آخر الحديث، وروى نحو هذا ابن عباس.
قوله: "في أحسن صورة": هذا يحتمل أن يكون حالًا من الرائي، وهو النبي عليه السلام، ويحتمل أن يكون حالًا من المرئي، وهو الرب تبارك وتعالى؛ فإن كان حالًا من النبي عليه السلام فلا إشكالَ، ويكون معناه: أنا في تلك الحالة كنت في أحسن صورةٍ وصفةٍ من غاية إنعامه ولطفه تعالى عليَّ.
وإن كان حالًا من الله؛ فإن تأوَّلْنا الصورةَ بالصفةِ فلا إشكالَ أيضًا؛ لأن معناه: كان ربي تبارك وتعالى أحسنَ إكرامًا ولطفًا ورحمة عليَّ من وقت آخر،
وإن لم نقل: إن الصورةَ هنا بمعنى الصفة، ففيه إشكالٌ؛ لأن إطلاق الصورة على الله تعالى تشبيهٌ، ونعوذُ بالله من التشبيه.
فطريقه أن (1) نقول: الصورة هنا كالوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وكالمجيء في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، ونحو هذا كثير، ولا نتعرَّضُ لتأويله، بل نؤمن بكون هذه الأشياء حقًا، ونَكِلُ تأويله إلى الله تعالى.
قوله: "فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ " أي: قال لي ربي: قل يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ و (اختصم) و (تخاصم) بمعنى واحد، (الملأ): الجماعة، والمراد بالملأ هنا: الملائكة، وُصِفوا بالملأ الأعلى؛ لعلو مكانهم في السماوات، أو لعلو منزلتهم عند الله تعالى، ويأتي معنى اختصامهم بعد هذا.
قوله: "أنت أعلم أي رب"، (أي) بفتح الهمزة وسكون الياء بمعنى: يا، يقال: أي زيد! كما يقال: يا زيد!
يعني: لما سألني عن هذا السؤال ما كنت عالمًا بجوابه، فقلت: أنت أعلم، قلت هذا "مرتين"، فلما نظرَ إليَّ نظر الرحمة فتحَ في قلبي باب العلم، فعلمت ما في السماء والأرض، فلما ساءلني مرة أخرى، وقد فتح الله تعالى في قلبي علمَ ذلك وغيره، فأجبته فقلت:"في الكفارات".
قوله: "فوضع كفَّه بين كتفي"، معنى (كفه) كمعنى (يده)، وهذا ممَّا نَكِلُ علمَ كيفيته إلى الله تعالى، وغرضُ النبي عليه السلام من التلفظ بهذا بيانُ إنعام الله؛ لأن العادة جارية بأن من يتلطف بأحد يضع كفه بين كتفيه، ويقول له:
(1) في "ش": "والأولى".
كيف أنت؟ أو يقول له: أبشر بكذا، أو لا تخف ولا تحزن، وما أشبه ذلك؛ يعني به النبي عليه السلام: أن الله تعالى تلطَّفَ وفتحَ عليَّ باب العلم والرحمة.
قوله: "فوجدت بردَها بين ثديي"، (البرد): الراحة؛ يعني: فوجدت راحة لفظه تعالى في قلبي، والضمير في (بردها) راجع إلى الكف، وأراد بقوله:(بين ثديي): قلبه أو صدره.
قوله: "فعلمت ما في السماء والأرض": اعلم أنه علمَ ما أعلمه الله تعالى مما في السماء والأرض لا جميعَ الأشياء؛ لأنه لم يعلم عددَ جميع الملائكة وجميع الأشجار وعدد الرمل وغير ذلك من المخلوقات وأحوالهم، بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
قوله: "ثم تلا"؛ أي: تلا رسول الله عليه السلام: " {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} "؛ أي: وكما نريك يا محمد أحكام الدين وعجائب ما في السماء والأرض نري إبراهيم.
هذا اللفظ مضارع، ومعناه الماضي؛ أي: أرينا إبراهيم.
"ملكوت السماوات والأرض"؛ أي: خلق السماوات والأرض.
قال مجاهد: ظهرت له السماوات إلى العرش حتى نظر إليها، وظهرت له الأرضون حتى نظر إليها.
"وليكون من الموقنين"، الواو عطف على مقدر؛ أي: ليحتجَّ به [على] قومه، وليكون من الموقنين في أن لا إلهَ غيري.
(الملكوت): بمعنى الملك العظيم.
سورة الأنعام نزلت بمكة، وهذه الرؤيا كانت بالمدينة، وغرضُ النبي عليه السلام من تلاوة هذه الآية: أن الله فتح لي حتى علمتُ ما في السماوات والأرض كما أُرِي إبراهيمُ ملكوتَ السماوات والأرض.
قوله: "قلت: في الكفارات"، وفي بعض الروايات:"في الدرجات والكفارات"؛ يعني: يختصم الملأ الأعلى في الكفارات.
(يختصم): بمعنى يتمنَّى فيشتهي؛ يعني: يشتهي الملائكة أن يفعلوا ما فعل بنو آدم من الخصال التي ترفع الدرجات، وتكفر السيئات؛ أي: تمحوها.
"ما هُنَّ"؛ أي: قل: الكفارات ما هن؟ (ما) استفهامية، وغرض سؤال الله تعالى نبيه عن بيان هذه الأشياء: أن يخبر بها أمته؛ ليفعلوها.
"أماكِنَهُ"؛ أي: مواضع الفروض والسنن، (الأماكن): جمع المكان، وهو الموضع.
"في المكاره"؛ أي: في شدة البرد.
قوله: "ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه"، (كيوم) مبني على الفتح، وكذا كلُّ ظرف أُضيفَ إلى الماضي يكون مبنيًا على الفتح، وأما إذا أُضيفَ إلى المضارع اختلف في أنه مبني على الفتح أو معرب؟ والأصح أنه معرب.
يعني: من فعل هذه الخصال يخرج من ذنوبه الصغار طاهرًا، وأما ذنوبه الكبار في مشيئة الله تعالى، ونرجو أن تكون أيضًا معفوةً؛ فإن الله غفور رحيم.
"بذل السلام"؛ أي: إفشاءُ السلام على مَنْ عرفته، ومن لم تعرفه.
"قال: قل"؛ أي: قال الله تعالى: يا محمد! قل.
"الطيبات": الأفعال والأقوال الصالحة، و (الطيبات): الحلالات.
"وإذا أردت فتنة"؛ يعني: وإذا قدَّرتَ أن يضلَّ قومٌ عن الحق.
"فتوفَّني"؛ أي: قدِّرْ موتي "غيرَ مفتون"؛ أي: غير ضال.
* * *
513 -
عن أبي أُمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثةٌ كُلهُمْ ضامِنٌ على الله: رَجُلٌ خرجَ غازِيًا في سبيل الله، فهو ضامِنٌ على الله حتَّى يَتوفَّاهُ فيُدْخِلَهُ الجنَّةَ أو يَرُدَّهُ بما نالَ مِنْ أَجرٍ أو غنيمةٍ، ورجُلٌ راحَ إلى المسجِدِ فهو ضامِنٌ على الله، ورجُلٌ دخلَ بيتَهُ بسلامٍ فهو ضامِنٌ على الله".
قوله: "ثلاثة كلهم"؛ أي: كل واحد منهم. "ضامن"؛ أي: ذو ضمان على الله تعالى، وقيل:(ضامن) هنا فاعل بمعنى مفعول؛ أي: مضمون على الله؛ يعني: وعد الله وعدًا لا خلفَ فيه أن يعطيَهُم مرادَهم.
"حتى يتوفَّاه"؛ أي: حتى يقبضَ روحه؛ إما بالموت، أو بأن يقتله الكفار.
"نال"؛ أي: وجد.
"راح إلى المسجدِ"؛ أي: مشى إلى المسجد، فهو ضامنٌ على الله أن يعطيه الأجر.
قوله: "دخل بيتَهُ بسلام" معناه عند الأكثرين: أنه يسلِّمُ على أهل بيته إذا دخل، فإذا سلَّم فهو ضامن على الله تعالى أن يعطيه البركةَ والثوابَ الكثير، كما قال عليه السلام لأنس رضي الله عنه:"إذا دخلتَ على أهلِكَ فسلِّم، تكون بركتُكَ عليك، وعلى أهل بيتك".
وقيل: معناه: دخل بيته، ولا يخرج؛ ليسلمَ من الفتنة، وعلى هذا يكون معناه: من لازمَ بيته، فهو ضامن على الله أن يحفظه من الآفة والفتنة.
* * *
514 -
وقال: "مَنْ خرجَ مِنْ بيتِهِ مُتطهرًا إلى صَلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُهُ كأجرِ الحاجِّ المُحرِمِ، ومَنْ خرجَ إلى تَسبيحِ الضُّحى لا يُنصِبُهُ إلَّا إيَّاهُ فأجرُهُ كأجرِ
المُعْتَمِرِ، وصلاةٌ على إثر صلاةٍ لا لَغْوَ بينَهُما كِتابٌ في عِلِّيّين".
قوله: "مكتوبة"؛ أي: مفروضة.
قيَّد الحاج بالمحرم؛ لأن الحجَّ في اللغة: هو القصد، والجمعةُ حجُّ المساكين، فلو قال مطلقًا: كأجر الحاج، يظنه ظانٌّ أن معناه: كأجر الحاج الذي يقصد صلاة الجمعة.
ويحتمل أن يكون معناه: كأجر الحاجِّ بعد الإحرام، لا قبل الإحرام.
قوله: "كأجر الحاج المحرم": معلوم أن أجرَ المصلي لا يبلغ أجرَ الحاج المحرم، بل أجرُ الحاجَّ أكثر، ولكن لا يلزم مساواة بين المشبَّه والمشبَّه به في جميع الأشياء، بل إذا حصل المشابهة بينهما بشيء، صحَّ التشبيه.
يعني: كما أن الحاجَّ من أول خروجه من بيته إلى أن يرجع إلى بيته يكتب له بكل خطوة أجرٌ، فكذلك المصلي، إذا توضَّأ، وخرج إلى الصلاة إلى أن يرجع إلى بيته، يكتب له بكلِّ خطوة أجرٌ، ولكن بين أجر المصلي وأجر الحاج تفاوتٌ.
"إلى تسبيح الضحى"؛ أي: إلى صلاة الضحى "لا يُنصِبُهُ": لا يزعجه ولا يخرجه شغلٌ غير الصلاة؛ يعني: ينبغي أن يكون خروجه للصلاة وحدها.
(الإثر) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحهما واحدٌ.
"على إثر الصلاة"؛ أي: عقيب الصلاة.
"كتابٌ في علِّيين"؛ أي: عملٌ مكتوب في عليين، واختلف في عليين، الأصح: أنه موضع تكتبُ فيه أعمالُ الصالحين.
* * *
515 -
وقال: "إذا مَرَرْتُمْ برياضِ الجنَّةِ فارتَعوا"، قيلَ: يَا رسولَ الله! وما رياضُ الجنَّة؟ قال: "المساجِدُ"، قيل: وما الرَّتْعُ يَا رسولَ الله؟ قال:
"سُبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله والله أكبر".
قوله: "فارتعوا"، الرتع في اللغة: ما تأكله الدوابُّ في الصحراء.
* * *
516 -
وقال: "مَنْ أتى المسجِدَ لشيءٍ فهو حظُّه".
قوله: "من أتى المسجد لشيء، فهو حظُّه"؛ يعني: من أتى المسجدَ لعبادةٍ يحصلْ له الثواب، ومن أتاه لشُغلٍ دنيوي لا يحصلْ له إلا ذلك الشغل.
* * *
517 -
عن فاطمة الكبرى رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ المسجدَ صَلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ عليه السلام، وقال:"رَبَّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ رحمتِكَ"، وإذا خرجَ صلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ، وقال:"رَبَّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ فضلِكَ"، ليس بمتصل.
قوله: "صلَّى على محمَّد"؛ يعني: قال: اللهمَّ صلِّ على محمَّد.
"فاطمة الكبرى (1) ": هي فاطمةُ بنتُ النبيِّ عليه السلام، كُنِّيت بالكبرى لكبر شأنها وفضيلتها.
* * *
518 -
وعن عَمْرو بن شُعيب، عن أَبيه، عن جدِّه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ نهى عن تَناشُدِ الأشعارِ في المسجِدِ، وعن البيعِ والاشتِراءِ فيه، وأنْ يَتحلَّقَ
(1) جاء على هامش "ش": "وقيدت بالكبرى لتمتاز عن فاطمة الصغرى، وهي بنت الحسين ابن علي، وهي جدتها".
النَّاسُ يومَ الجمعةِ قبلَ الصَّلاةِ في المسجِدِ".
قوله: "نهى عن تناشُدِ الأشعارِ"، (التناشد): قراءة الشعر بعض القوم مع بعض.
التناشدُ منهيٌّ في المساجد، سواء كان شعرًا فيه إثمٌ أو لم يكن؛ فإن كان فيه إثمٌ فعِلَّةُ نهيه ظاهرة، وإن لم يكن فيه إثمٌ فعلةُ نهيه هي: أن العادةَ اجتماعُ النَّاس لقراءة الشعر ورفعُ الأصوات والتعصُّبُ والتباغضُ بين أولئك الجمع، يقول بعضهم: هذا الشعر جيد، ويقول بعضهم: ليس بجيد، وهذه الأشياء لا تليقُ في المساجد.
فإن قُرِئَ في المساجد شعرٌ ليس فيه إثمٌ، ولم يكن فيه تعصُّبٌ وتباغض وكثرة رفع الأصوات، جاز؛ لأنه قُرِيء الشعرُ بين يدي رسول الله عليه السلام في المسجد، ولم ينههم، وقد نهى عمر رضي الله عنه حسان بن ثابت عن إنشاد الشعر في المسجد في زمان خلافته مع أن حسانًا كان شاعرَ رسول الله عليه السلام، وإنما نهاه لما ذكرناه؛ لأنه لا يُراعى الأدبُ بعد رسول الله عليه السلام، كما يُراعى بحضرته عليه السلام (1).
قوله: "وأن يتحلَّقَ النَّاسُ يوم الجمعة قبل الصلاة"، (التحلق): جلوسُ النَّاس في الحلقة، يتوجَّهُ بعضهم بعضًا (2)، وإنما نهاهم عليه السلام عن التحلق؛ لأن القومَ إذا تحلَّقوا، فالغالبُ عليهم التكلمُ ورفع الصوت، وإذا كانوا كذلك لا يستمعون الخطبة، والناسُ مأمورون باستماع الخطبة والسكوت بحيثُ لا يسلِّمُ من دخل وقت الخطبة، ولو سلَّم أحدٌ لا يجاب.
* * *
(1) جاء على هامش "ش": "والبيع والاشتراء فيه، قال في "شرح السنة": كره قومٌ من أهل العلم البيعَ والشراءَ في المسجدِ".
(2)
أي: يواجه بعضهم بعضًا.
519 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأَيْتُمْ من يبيعُ أو يَبتاعُ في المسجدِ فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رأيتُمْ مَنْ ينشُدُ فيهِ ضالَّةً فقولوا: لا ردَّ الله علَيْكَ".
قوله: "يبتاع"؛ أي: يشتري.
* * *
520 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُسْتَقادَ في المسجِدِ، وأنْ يُنْشَدَ فيهِ الأشعارُ، وأنْ تُقامَ فيه الحُدودُ.
قوله: "أن يُستقادَ"؛ يعني: أن يقتَصَّ؛ كيلا يقطر الدم في المسجد، ولا ترتفعَ الأصواتُ. "وأن يُنشد"؛ أي: وأن يقرأ.
"وأن تقام فيه الحدود"؛ أي: وأن يُضرَب الزاني حدَّ الزنا، والقاذف حدَّ القذف، وكذلك باقي الحدود؛ لأنه ربما يتلوَّثُ المسجد، وترتفع الأصواتُ فيه
* * *
521 -
عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أَبيه رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عنْ هاتَيْنِ الشَّجرتَيْنِ - يعني البصلَ والثُّومَ - وقال: "مَنْ أكلهُما فلا يَقْرَبن مَسجِدَنا"، وقال:"إنْ كنتُمْ لا بُدَّ آكليهِما فأَمِيتُوهُما طَبْخًا".
قوله: "فأميتوا"؛ أي: فازيلوا واكسروا رائحتَهما بالطبخِ.
* * *
522 -
وقال: "الأرضُ كُلُّها مسجدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّامَ"، رواه أبو سعيد الخُدريُّ.
قوله: "الأرضُ كلُّها مسجد"؛ يعني: يجوزُ الصلاة في جميعِ الأرض، "إلا" في "المقبرة والحمام"، فإن الصلاةَ تُكرَه فيهما.
* * *
523 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهَى أنْ يُصلَّى في سبعةِ مَواطِنَ: في المَزبلةِ، والمَجزرَةِ، والمَقبَرةِ، وقارِعَةِ الطريقِ، وفي الحمَّامِ، وفي مَعاطِنِ الإبلِ، وفوقَ ظهرِ بيتِ الله تعالى.
قوله: "في سبعة مواطن"، (المواطن): جمع موطن، وهو الموضعُ.
"المَزبلة"؛ أي: الموضع الذي يكون فيه الزبلَ، وهو السِّرجِين.
"المَجزَرَة" بكسر الزاي، ويجوز فتحها: الموضع الذي تُجزَرُ فيه الإبل؛ أي: تذبح.
وعلةُ النهي في المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام النجاسةُ، فإن صلى في هذه المواضع بغير سجادة، بطلت صلاته، وإن صلَّى على السجادة، فهي مكروهة؛ للرائحة الكريهة، ولخوف أن تصل إليه نجاسة.
وأما الصلاة في قارعة الطريق، فيه علتان للنهي:
أحدهما: أن الطريقَ يكون نجسًا في الغالب.
والثانية: أنه لا يكون له حضورٌ من كثرة مرورِ الناس والدوابِّ.
وأراد "بقارعة الطريق": الطريق الذي يقرعه الناس والدواب بأرجلهم؛ أي: يدقه، والقرع: الدق.
"المعاطن": جمع مَعطِن بكسر الطاء، وهو الموضعُ الذي تجتمع فيه الإبلُ عند الرجوع عن الماء، ويُستعمَل في الموضع الذي تكون فيه الإبل بالليل أَيضًا، ووجه النهي فيه: أن الرجلَ فيه لا يأمنُ ضررَ الإبل هناك.
وأما الصلاة فوق الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة؛ أي: بقبة جدران يستقبلها، بطلت عند الشافعي، وتصحُّ عند أبي حنيفة.
* * *
524 -
وقال: "صَلُّوا في مَرابضَ الغنمِ، ولا تُصَلُّوا في أَعطانِ الإِبلِ".
قوله: "في مرابض الغنم"، (المرابض): جمع مَربض بكسر الباء، وهو: الموضع الذي تكون فيه الغنم في الليل.
"الأعطان": جمع عَطَن، وهو مثل المَعْطِن، وقد ذُكِر.
* * *
525 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زائراتِ القُبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجِدَ والسُّرُجَ.
قوله: "لعن رسول الله عليه السلام زائرات القبور"، قال مُحيي السنة في كتاب "التهذيب": يكره للنساء زيارةُ القبور، وعلى هذا التأويل أن النهيَ كان قبل ترخيصه في زيارة القبور، فلمَّا رخَّص في زيارة القبور، دخلَ في الرُّخصةِ الرجالُ والنساءُ.
وقيل: بل نَهْيُ النساء عن زيارة القبور باقٍ؛ لقلةِ صبرهنَّ وكثرةِ جزعهنَّ إذا رأينَ القبور.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد": هذا مثلُ قولِهِ: "لعنةُ الله على
اليهودِ والنَّصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ".
"السُّرُج": جمع سراج، وهو المصباح، والنهيُ عن الإسراج في القبور إنما كان لتضييع المال؛ لأنه لا نفعَ لأحد من السراج ثَمَّ، ويحتمل أن يكون النهيُ للاحتراز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتِّخاذِ القبور مساجد، فإن كان قبرٌ في مسجد أو غيره، ويجلسُ فيه الناسُ لتلاوة القرآن والذكر، لا بأسَ بوضع السراج ثَمَّ؛ لينتفع الجالسون بنوره.
* * *
525/ م - عن أبي أُمامة الباهلي: أنَّ حَبْرًا من اليهود سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ البقاع خيرٌ؟ فسكت عنه، وقال:"اسكت حتى يجيء جبريلُ"، فسكت، فجاء جبريل عليه السلام، فسأله، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن أَسألُ ربي تعالى، ثم قال جبريل: يَا محمد! إنِّي دنوتُ من الله دُنوًّا ما دنوَتُ منه قطُّ، قال:"كيف كان يَا جبريلُ؟ "، قال: كان بينه وبيني سبعون ألف حجابٍ من النور، فقال:"شرُّ البقاع أَسواقها، وخير البقاع مَساجدها"، في نسخةٍ:"بيني وبينه".
قوله: "أن حَبْرًا من اليهود"، (الحبر) بفتح الحاء وكسرها: العالم.
وذكر في "صحاح اللغة": أن (الحِبْر) بكسر الحاء أصحُّ من (الحَبْر) بفتح الحاء، ولكن المشهورَ في الاستعمال (الحَبْرُ) بفتح الحاء؛ ليكون بين الحَبْر - الذي هو بمعنى: العالم - والحِبْر - الذي هو بمعنى: المِداد - فرقٌ.
قوله: "أَسكتُ": هذا مضارع، والهمزة للمتكلم.
"ولكن أسألُ ربي"؛ أي: ولكن أرجع إلى حضرة ربي، وأسأله عن هذه المسألة.