الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبويع بتازي، وسار إلى فاس فلم تطل أيامه، ومات، سنة ثمان وتسعين، فقام بعده أخوه أبو سعيد عثمان بن أبي العباس، وقام أبو العباس أحمد بن علي القبائلي بدولته، كما قام بدولة أخوية، حتى قتله أبو سعيد، كما سيأتي في ترجمة كل من أبي سعيد وأبي العباس القبائلي.
ابن عرب الصالح المعتقد 830هـ، 1426م
أحمد بن إبراهيم بن محمد، الشيخ الإمام العالم الزاهد المعتقد الكبير صاحب الكرامات اليمني الأصل، البرصاوي المولد والمنشأ، المصري الدار والوفاة، الحنفي، الشهير بابن عرب.
أحد أفراد الدنيا في الزهد والعبادة والورع، نزيل الخانقاة الشيونية وأحد الصوفية بها، كان والده من اليمن، ثم رحل إلى برصا من بلاد الروم واستوطنها
وتزوج بها، فولد له أحمد هذا، ونشأ ببرصا على قدم هائل، ثم قدم إلى القاهرة شابا ونزل بخانقاة شيخو، وطلب العلم فقرأ على إمام الخمس بها خير الدين سليمان بن عبد الله، وعلى غيره.
وكان فقيرا جدا، ينسخ للناس بالأجرة ويتقوت بذلك، وهو مكب على طلب العلم، ودام على ذلك مدة طويلة إلى أن استقر من جملة الصوفية بمبلغ ثلاثين درهما في كل شهر، فتعفف بذلك عن النسخ وغيره، وانقطع عن مجالسة الناس والاختلاط بهم، وسكن ببيت بالخانقاة المذكور، وأعرض عن كل أحد، واجتهد في العبادة والعمل، واقتصر على ملبس خشن حقير إلى الغاية، وصار يقنع بيسير القوت، ولا ينزل من بيته إلا لشراء قوته، ثم يعود إلى منزله بالشيخونية، وكان لا ينزل من بيته إلا كل ثلاثة أيام مرة بعد العشاء الآخرة، وكان إذا حاباه أحد من السوقة فيما يشتريه من قوته تركه وما حاباه به، فلما عرف بذلك ترك الباعة المحاباة له، ووقفوا عندما يشير لهم به، وكان لا يقبل من أحد شيئا بحيث أنرجلا دس عليه شيئا في قفته وهو قليل من الموز، والشيخ لا يشعر بذلك، فلما رآه عند طلوعه إلى منزله عاد، ولم يزل بالرجل إلى أن عرفه ورد له الموز المذكور.
وكان يغتسل بالماء البارد شتاء وصيفا في بكرة نهار كل جمعة، ويمضي إلى صلاة الجمعة من أول نهار الجمعة، ويأخذ في الصلاة والقراءة وأنواع العبادة حتى
تقام الصلاة ويصلي، ثم يعود إلى منزله من غير أن يكلم أحدا، ولا يتجرأ أحد على الكلام معه لهيبته ووقاره وعظم حرمته، ورأيته مرارا عديدة لكنني لا أعرف ما في وجهه حياء منه ومهابة، وكان يطيل قيامه في الصلاة مقدار أن يقرأ في كل ركعة حزبين تقديرا، فيكون تعبده في كل يوم جمعة يعني من حين دخوله إلى الجامع إلى وقت الصلاة مقدار نصف ختمة من غير أن يسمع له قراءة ولا تسبيح، وكان لا يرى نهارا إلا عند ذهابه يوم الجمعة إلى الجامع لا غير، ولا يرى ليلا إلا في كل ثلاث ليال مرة واحدة عند شراء قوته حسبما ذكرناه.
وكان له كرامات كثيرة، من ذلك ما أخبرني من أثق به عن بعض أهل الخانقاة أنه اشترى في بعض الأحيان كنافة وصب فوقها خلا، فرآه ذلك الرجل والشيخ لا يشعر به، والشيخ يقول لنفسه: ما تأكلي إلا كنافة؟ كلي، فهجم ذلك الرجل على الشيخ، وكان يعرفه قديما، وقال: أنا آكل معه من هذه الكنافة التي بالخل تبركا، فقال له الشيخ: بسم الله كل يا فلان، فصار الرجل يأكل الكنافة بعسل غاية في الحلاوة، والشيخ يأكل معه إلى أن فرغا معا. ورئي مرة بسطح الخانقاة وقد مد يده وفيها فتات الخبز والطيور تأكل مما في يده، وله أشياء من هذه المقولة وكرامات هائلة. ودام على ذلك نحو الثلاثين سنة.
وكان إذا احتاج إلى خياطة خيشة يلبسها، أو أعانة أحد عند عجزه في أواخر عمره عن حمل الجرة بالماء التي يتوضأ منها أعطاه من الفلوس شيئا، ويقول:
هذا أجرتك، وكان تمر به الأعوام الكثيرة لا يتلفظ بكلمة مع أحد سوى قراءة القرآن وذكر الله، وكان خادم الخانقاة يحمل إليه كل شهر الثلاثين الدرهم فلا يأخذها إلا عداد، فإن المعاملة بالفلوس وزنا حدثت بعد انقطاعه عن الناس، فكان لا يعرف إلا المعاددة.
ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بخانقاة شيخو في ليلة الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وثمانمائة، وحمل من الغد حتى صلي عليه بمصلى المؤمنى من تحت القلعة، وحضر السلطان الملك الأشرف برسباي الصلاة عليه، وتقدم قاضي القضاة بدر الدين محمود العينتابي الحنفي فصلى عليه بمن حضر، ثم أعيد إلى الخالقاة الشيخونية بالصليبة ودفن بها، وهناك كان سكنه، وحمل نعشه على الأصابع لكثرة ازدحام الخلق على حمله.
وبالجملة فإنه كان فريد عصره في العبادة الزهد، لم نر في عصرنا من داناه ولا قاربه في طريقته، رحمة الله تعالى.