الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا التَّعْلِيل يَظْهَرُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ اللُّعَبُ عَلَى هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، وَلَا يَظْهَرُ فِي أَمْرِ الْفَرَسِ الَّذِي لَهُ جَنَاحَانِ، وَلِذَا عَلَّل الْحَلِيمِيُّ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ، وَهَذَا نَصُّ كَلَامِهِ، قَال: لِلصَّبَايَا فِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالأُْخْرَى آجِلَةٌ. فَأَمَّا الْعَاجِلَةُ، فَالاِسْتِئْنَاسُ الَّذِي فِي الصِّبْيَانِ مِنْ مَعَادِنِ النُّشُوءِ وَالنُّمُوِّ. فَإِِنَّ الصَّبِيَّ إِنْ كَانَ أَنْعَمَ حَالاً وَأَطْيَب نَفْسًا وَأَشْرَحَ صَدْرًا كَانَ أَقْوَى وَأَحْسَن نُمُوًّا، وَذَلِكَ لأَِنَّ السُّرُورَ يُبْسِطُ الْقَلْبَ، وَفِي انْبِسَاطِهِ انْبِسَاطُ الرُّوحِ، وَانْتِشَارُهُ فِي الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ أَثَرِهِ فِي الأَْعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الآْجِلَةُ فَإِِنَّهُنَّ سَيَعْلَمْنَ مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةَ الصِّبْيَانِ وَحُبَّهُمْ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ طَبَائِعَهُنَّ، حَتَّى إِِذَا كَبَرْنَ وَعَايَنَ لأَِنْفُسِهِنَّ مَا كُنَّ تَسَرَّيْنَ بِهِ مِنَ الأَْوْلَادِ كُنَّ لَهُمْ بِالْحَقِّ كَمَا كُنَّ لِتِلْكَ الأَْشْبَاهِ بِالْبَاطِل. (1)
هَذَا وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنِ الْبَعْضِ دَعْوَى أَنَّ صِنَاعَةَ اللُّعَبِ مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ جَوَازَهَا كَانَ أَوَّلاً، ثُمَّ نُسِخَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّصْوِيرِ. (2)
وَيَرُدُّهُ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِِْذْنُ بِاللُّعَبِ لَاحِقًا.
(1) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، (بيروت، دار الفكر، 1399 هـ. ب 41 الملاعب والملاهي) 3 / 97.
(2)
فتح الباري 10 / 395.
عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي اللُّعَبِ مَا يَدُل عَلَى تَأَخُّرِهِ، فَإِِنَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا.
ثَامِنًا: التَّصْوِيرُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ:
39 -
لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، عَدَا مَا ذَكَرُوهُ فِي لُعَبِ الأَْطْفَال: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اسْتِثْنَائِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ الْعَامِّ هُوَ تَدْرِيبُ الْبَنَاتِ عَلَى تَرْبِيَةِ الأَْطْفَال كَمَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَوِ التَّدْرِيبُ وَاسْتِئْنَاسُ الأَْطْفَال وَزِيَادَةُ فَرَحِهِمْ لِمَصْلَحَةِ تَحْسِينِ النُّمُوِّ كَمَا قَال الْحَلِيمِيُّ، وَأَنَّ صِنَاعَةَ الصُّوَرِ أُبِيحَتْ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ قِيَامِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ كَوْنُهَا تَمَاثِيل لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ. وَالتَّصْوِيرُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيبِ نَحْوُهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اقْتِنَاءُ الصُّوَرِ وَاسْتِعْمَالُهَا:
40 -
يَذْهَبُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ الصُّورَةِ تَحْرِيمُ اقْتِنَائِهَا أَوْ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهَا، فَإِِنَّ عَمَلِيَّةَ التَّصْوِيرِ لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ وَرَدَ فِيهَا النُّصُوصُ الْمُشَدَّدَةُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا، وَفِيهَا لَعْنُ الْمُصَوِّرِ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا. وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي مُسْتَعْمِلِهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مِنَ الْمُضَاهَاةِ
لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّورَةِ أَوِ اسْتِعْمَالِهَا، إِلَاّ أَنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ عَذَابٍ أَوْ أَيِّ قَرِينَةٍ تَدُل عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَهَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَبِهَذَا يَكُونُ حُكْمُ مُقْتَنِي الصُّورَةِ الَّتِي يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَل صَغِيرَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، إِلَاّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً إِنْ تَحَقَّقَ الإِِْصْرَارُ لَا إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ، أَوْ لَمْ نَقُل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَقَدْ نَبَّهَ إِِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصْوِيرِ وَبَيْنَ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ فِي الْحُكْمِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ الصُّوَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَنَبَّهَ إِلَيْهِ الشَّبْرَامُلُّسِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَجْرِي كَلَامُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ مِنْهَا:
(1)
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَتَكَ السِّتْرَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ وَفِي رِوَايَةٍ قَال لِعَائِشَةَ: " أَخِّرِيهِ عَنِّي ". (2) وَتَقَدَّمَ.
(2)
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ. (3)
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 80، وحاشية الشبراملسي على شرح المنهاج للنووي 3 / 289.
(2)
سبق تخريج الحديث بهذا المعنى ف / 26.
(3)
الحديث تقدم تخريجه ف / 26.
(3)
وَمِنْهَا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ إِِلَى الْمَدِينَةِ وَقَال: لَا تَدَعْ صُورَةً إِلَاّ طَمَسْتهَا وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَاّ لَطَّخْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَاّ سَوَّيْتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا صَنَمًا إِلَاّ كَسَرْتَهُ. (1)
41 -
وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ نُقِل اسْتِعْمَال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَِنْوَاعٍ مِنَ الصُّوَرِ لِذَوَاتِ الرُّوحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ (ف 31) وَنَزِيدُ هُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ خَاتَمَ دَانْيَال النَّبِيِّ عليه السلام كَانَ عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبُؤَةٌ وَبَيْنَهُمَا صَبِيٌّ يَلْمِسَانِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيل لَهُ: يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدِهِ، فَجَعَل يَقْتُل كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ. فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ دَانْيَال أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ وَلَبُؤَةً تُرْضِعُهُ. فَنَقَشَهُ عَلَى خَاتَمِهِ لِيَكُونَ بِمَرْأًى مِنْهُ لِيَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَوُجِدَتْ جُثَّةُ دَانْيَال وَالْخَاتَمُ فِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَدَفَعَ الْخَاتَمَ إِِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ (2) . فَهَذَا فِعْل صَحَابِيَّيْنِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ الصُّوَرِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَتَوْفِيقُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الأَْحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ.
(1) الحديث تقدم تخريجه بهذا المعنى ف / 24.
(2)
الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 238، وتاريخ ابن كثير 7 / 88، واقتضاء الصراط المستقيم (ط 1369 هـ) ص 339.