الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَحَل إِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(2)
مَا عُمِل فِيهِ بِالأَْصْل، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِهَا. وَذَلِكَ كَمَا إِِذَا ادَّعَتْ زَوْجَةٌ بَعْدَ طُول مُقَامِهَا مَعَ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَمْ تَصِلْهَا مِنْهُ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ، فَإِِنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا عِنْدَ الأَْصْحَابِ، لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تُبْعِدُ ذَلِكَ جِدًّا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرُّجُوعَ إِِلَى الْعَادَةِ، وَخَرَّجَهُ وَجْهًا مِنَ الْمَسَائِل الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
(3)
مَا عُمِل فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِِلَى الأَْصْل، كَمَا إِِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْهَا، فَإِِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِِلَى الشَّكِّ، وَإِِنْ كَانَ الأَْصْل عَدَمَ الإِِْتْيَانِ بِهِ وَعَدَمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْل الْمُكَلَّفِينَ لِلْعِبَادَاتِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال، فَيُرَجَّحُ هَذَا الظَّاهِرُ عَلَى الأَْصْل، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ.
(4)
مَا خَرَجَ فِيهِ خِلَافٌ فِي تَرْجِيحِ الظَّاهِرِ عَلَى الأَْصْل وَبِالْعَكْسِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ تَقَادُمِ الظَّاهِرِ وَالأَْصْل وَتَسَاوِيهِمَا، وَمِنْ صُوَرِهِ: طَهَارَةُ طِينِ الشَّوَارِعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، تَرْجِيحًا لِلأَْصْل، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي الأَْعْيَانِ كُلِّهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثَانِيَةٍ: أَنَّهُ نَجِسٌ
تَرْجِيحًا لِلظَّاهِرِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ الْمَذْهَبَ (1) .
تَعَارُضُ الْعِبَارَةِ (اللَّفْظِ) وَالإِِْشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:
22 -
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الإِِْشَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ. . . إِلَخْ (2) . وَأَحَال شَرْحَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَقَال: هَذَا وَاحِدٌ فَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ الأَْصْل، وَالسُّجُودَ عَلَى الأَْنْفِ تَبَعٌ.
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيل: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِِلَاّ لَكَانَتِ الأَْعْضَاءُ ثَمَانِيَةً. قَال: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ. قَال: وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْل هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ، وَإِِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَذَاكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ، لَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْمْرُ بِالسُّجُودِ.
(1) الأشباه للسيوطي ص 64، والقواعد الفقهية لابن رجب القاعدة (159) ص 339 - 343.
(2)
حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 297 ط السلفية) .
وَأَيْضًا فَإِِنَّ الإِِْشَارَةَ قَدْ لَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، فَإِِنَّهَا إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ لأَِجْل الْعِبَارَةِ، فَإِِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجَبْهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُعَيَّنَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ تَعْيِينًا. وَأَمَّا الْعِبَارَةُ: فَإِِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِمَا وُصِفَتْ لَهُ، فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ قَال بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ قَال: وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ وَحْدَهُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا.
وَعَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِِسْحَاقَ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِذَا اجْتَمَعَتِ الإِِْشَارَةُ إِِلَى شَيْءٍ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ - فَالأَْصْل أَنَّ الْمُسَمَّى إِِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ، وَإِِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى؛ لأَِنَّ الْمُسَمَّى مِثْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ. وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالإِِْشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ. فَمَنِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ، فَإِِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لاِخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِِذَا هُوَ أَخْضَرُ، انْعَقَدَ الْعَقْدُ لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ.
وَقَال الشَّارِحُونَ: إِنَّ هَذَا الأَْصْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالإِِْجَارَةِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّ الإِِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَل الْخَل وَالْخَمْرَ جِنْسًا، فَتَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل، فِيمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَل، وَأَشَارَ إِِلَى خَمْرٍ. وَلَوْ سَمَّى حَرَامًا، وَأَشَارَ إِِلَى حَلَالٍ فَلَهَا الْحَلَال فِي الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَقَال فِي الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ: فَقَال الأَْبُ وَقْتَ الْعَقْدِ: زَوَّجْتُ مِنْكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ، لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً فَقَال الأَْبُ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِِلَى عَائِشَةَ وَغَلِطَ فِي اسْمِهَا، فَقَال الزَّوْجُ: قَبِلْتُ، جَازَ (1) .
23 -
وَمِمَّا سَبَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِإِِجْزَاءِ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ وَحْدَهُ، تَقْدِيمًا لِلإِِْشَارَةِ عَلَى الْعِبَارَةِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الأَْنْفِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ عِنْدَهُمْ تُقَدَّمُ عَلَى الإِِْشَارَةِ لأَِنَّهَا تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَالإِِْشَارَةُ قَدْ لَا تُعَيِّنُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا اجْتَمَعَتِ الإِِْشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا، غُلِّبَتِ الإِِْشَارَةُ. فَلَوْ قَال: أُصَلِّي خَلْفَ زَيْدٍ هَذَا، أَوْ قَال: أُصَلِّي عَلَى زَيْدٍ هَذَا، فَبَانَ عَمْرًا فَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ. وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 138.
(2)
فتح الباري 2 / 296 ط السلفية.
صَحَّ قَطْعًا، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ. وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكِ هَذَا الْغُلَامَ، وَأَشَارَ إِِلَى بِنْتِهِ، نَقَل الرُّويَانِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ صِحَّةَ النِّكَاحِ. تَعْوِيلاً عَلَى الإِِْشَارَةِ. وَهَذَا يَتَّفِقُ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً. أَوْ: هَذِهِ الْعَجُوزَ، فَكَانَتْ شَابَّةً. أَوْ: هَذِهِ الْبَيْضَاءَ، فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسُهُ - وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُول - فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَالأَْصَحُّ: الصِّحَّةُ.
وَلَوْ قَال: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ فِي حُدُودِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَال: بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ؛ لأَِنَّ التَّعْوِيل هُنَاكَ عَلَى الإِِْشَارَةِ.
وَلَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلاً أَوْ عَكْسُهُ، فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ هُنَا الْبُطْلَانُ. وَإِِنَّمَا صُحِّحَ الْبُطْلَانُ هُنَا تَغْلِيبًا لاِخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَالِيَّةِ. وَصَحَّحَ الصِّحَّةَ فِي الْبَاقِي تَغْلِيبًا لِلإِِْشَارَةِ. وَحِينَئِذٍ يُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ.
وَيُضَمُّ إِِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ صُوَرٌ، مِنْهَا: مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا، أَوْ لَا يَأْكُل هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ تَمْرًا، أَوْ لَا يَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا عَرْصَةً، فَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْكَتَّانِ فَبَانَ قُطْنًا،
أَوْ عَكْسُهُ، فَالأَْصَحُّ فَسَادُ الْخُلْعِ، وَيُرْجَعُ بِمَهْرِ الْمِثْل.
وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (1) .
هَذِهِ جُمْلَةُ قَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ فِي التَّعَارُضِ، ذُكِرَتْ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 314، 315.