الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
--
المقدمة السادسة:
-- حكم الاستدلال بالقواعد الفقهية على الأحكام:
هذه المسألة على جانب كبير من الأهمية حيث تتعلق بأمر عظيم وهو مصادر الأحكام وأدلتها، وهل تعتبر القواعد الفقهية أحد أدلة الأحكام فيستند إليها عند عدم وجود نص أو إجماع أو قياس في المسألة؟
وبعبارة أخرى: هل يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً شرعياً يستنبط منه حكم شرعي؟
وفي التقرير الذي صدرت به مجلة الأحكام العدلية قالوا: (فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد، إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل، فمن اطلع عليها من المطالعين يضبط المسائل بأدلتها، وسائر المأمورين يرجعون إليها في كل خصوص.
وبهذه القواعد يمكن للإنسان تطبيق معاملاته على الشرع الشريف أو في الأقل التقريب.
وقالوا: أيضاً في المقالة الأولى من المقدمة وهي المادة الأولى من مواد المجلة: إن المحققين من الفقهاء قد أرجعوا المسائل الفقهية إلى قواعد كلية، كل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة، وتلك القواعد مُسلمة معتبرة في الكتب الفقهية تتخذ أدلة إثبات المسائل وتفهمها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب الاستئناس بالمسائل ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان.
وقال ابن نجيم في الفوائد الزينية كما نقله عنه الحموي في غمز عيون البصائر: لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية، خصوصاً وهي لم تثبت عن الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه.
وقال استاذنا الجليل الشيخ مصطفى الزرقا:
ولذلك كانت تلك القواعد الفقهية قلما تخلو إحداهما من مستنيات في فروع الأحكام التطبيقية خارجة عنها، إذ يرى الفقهاء أن تلك الفروع المستثناة من القاعدة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، أو أنها تستدعي أحكاماً استحسانية خاصة، ومن ثم لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضي فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة واعتبار هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه لا نصوص للقضاء.
فهذه النقول وأمثالها تفيد أنه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:
الأول: أن هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها، وليس من المعقول أن يجعل ما هو ثمرة وجامع دليلاً لاستنباط أحكام الفروع.
الثاني: أن معظم هذه القواعد لا تخلو عن المستثنيات، فقد تكون المسألة المبحوث عن حكمها من المسائل والفروع المستثناة، ولذلك لا يجوز بناء الحكم على أساس هذه القواعد، ولا يسوغ تخريج أحكام الفروع عليها، ولكنها
تعتبر شواهد مصاحبة للأدلة يستأنس بها في تخريج الأحكام للوقائع الجديدة قياساً على المسائل الفقهية الدوَّنة، هكذا قالوا:
وأقول: هذا الذي قالوه لا يؤخذ على إطلاقه حيث إن القواعد الفقهية تختلف من حيث أصولها ومصادرها أولاً، ثم من حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها ثانياً، فمن حيث أصول القواعد ومصادرها فقد عرفنا في المقدمة السابقة أن من القواعد الفقهية ما كان أصله ومصدره من كتاب الله سبحانه وتعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أو يكون مبنياً على أدلة واضحة من الكتاب والسنة المطهرة، أو مبنياً على دليل شرعي من الأدلة المعتبرة عند العلماء، أو تكون القاعدة مبنية على الاستدلال القياسي وتعليل الأحكام.
فإذا كانت القاعدة نصاً قرآنياً كريماً فهي قبل أن تكون قاعدة أو تجري مجرى القواعد فهي دليل شرعي بالاتفاق فهل إذا جرى النص القرآني مجرى القاعدة خرج عن كونه دليلاً شرعياً معمولاً به، ولا يجوز تقديم غيره عليه؟
من أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وأحل اللهُ البيعَ وحرَّم الربا) . البقرة، آية (275) .
فهذا النص الكريم دليل شرعي يفيد حل البيع وحرمة الربا، وهو في نفس الوقت يصلح قاعدة فقهية تشمل أنواع البيوع المختلفة ومسائل الربا المتعددة، كما يستثنى منها بعض أنواع البيوع المحرمة، وبعض مسائل الربا إما بالنص وإما بالتخريج.
ومن السنة حديث (لا ضرر ولا ضرار) وحديث (الخراج بالضمان) .
وحديث: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) وغيرها كثير.
فهذه أدلة شرعية وقواعد فقهية يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى وإلزام القضاء بها.
ولعل هذا لم يفت الفقهاء الذين وضعوا المجلة حيث قالوا: (فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح) فلعلهم أشاروا بذلك إلى تلك القواعد التي هي في الأصل نصوص تشريعية، وكذلك ما أشار إليه الأستاذ الزرقا مد الله في عمره في الخير حين قال: ومن ثم لم تسوِّغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام.
ولكن الإجمال هنا موهم والتفصيل مطلوب.
وأما ما ذكر في المقالة الأولى من المقدمة وما نقله الحموي عن ابن نجيم في الفوائد الزينية فهو عام في عدم جواز الفتوى بما تقتضيه هذه القواعد، ومما ينبني على أدلة واضحة من الكتاب والسنة والإجماع.
قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) .
قاعدة: الضرر يزال.
قاعدة: الأمور بمقاصدها.
وقاعدة: المشقة تجلب التيسير.
وأمثال هذه القواعد فهي تشبه الأدلة وقوتها بقوة الأدلة المعتمدة عليها، فلا يمنع من الاحتكام إليها.
وأما إذا كانت القاعدة مبنية على دليل شرعي من الأدلة التي اختلف في اعتبارها فيجب الرجوع أولاً إلى الأدلة المتفق عليها فإذا وجد الحكم بأحدها يستأنس بالقاعدة ولا يحكم بها، وإلا نظر إلى الدليل الذي بنيت عليه القاعدة فإن أمكن إعطاء المسألة حكماً بموجبه (عن من يعتبرونه دليلاً) كان بها واعتبرت القاعدة دليلاً تابعاً يستأنس به.
وأما من حيث عدم وجود دليل شرعي لمسألة بعينها أو نص فقهي، أو دليل أصولي، ووجدت القاعدة الفقهية التي تشملها، فحينئذٍ هل تعتبر القاعدة الفقهية الاجتهادية دليلاً شرعياً يمكن استناد الفتوى والقضاء إليه؟
قلت سابقاً: إن القواعد الاجتهادية استنبطها العلماء المجتهدون من معقول النصوص والقواعد العامة للشريعة، أو بناء على مصلحة رأوها أو عرف اعتبروه، أو استقراء استقرأوه فعلى من تعرَّض لمثل هذه المسائل أن يكون على جانب كبير من الوعي والإدراك والأحاطة بالقواعد الفقهية وما بنيت عليه كل قاعدة أو استنبطت منه، وما يمكن أن يستثنى من كل قاعدة حتى لا يدرج تحت القاعدة مسألة يقطع أو يظن خروجها عنها.
وأما اعتلاهم بأن القواعد الفقهية ثمرة للأحكام الفرعية المختلفة وجامع لها ولذلك لا يصح أن تجعل دليلاً لاستنباط أحكام هذه الفروع، أقول: إن كل قواعد العلوم إنما بنيت على فروع هذه العلوم وكانت ثمرة لها، وأقرب مثال لذلك قواعد الأصول وخاصة عند الحنفية حيث استنبطت من خلال أحكام المسائل الفرعية المنقولة عن الأئمة الأقدمين، ولم يقل أحد إنه لا يجوز لنا أن نستند إلى تلك القواعد لتقرير الأحكام واستنباطها.
وكذلك قواعد اللغة العربية التي استنبطها علماء اللغة من خلال ما نطق به
العرب الفصحاء قبل أن تشوب ألسنتهم العجمة واللحن، وهي القواعد التي يستند إليها في استنباط أحكام اللغة والبناء عليها.
ولم يقل أحد إن هذه القواعد لا تصلح لاستنباط أحكام العربية لأنها ثمرة للفروع الجزئية.
وأما احتجاجهم بأن القواعد الفقهية كثيرة المستثنيات فيمكن أن يستنبط حكم المسألة من قاعدة وتكون هذه المسألة خارجة ومستثناة عن تلك القاعدة فهذا قد أجبنا عنه فيما سبق.
وقد قال القرافي رحمه الله في حديثه عن أدلة مشروعية الأحكام قال: الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوبة وفيه قاعدتان: قال: القاعدة الثانية: (إن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع) بأدلة السمع لا بأدلة العقل (خلافاً للمعتزلة) وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن، وقد تعظم المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها، فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة إلى أن قال: يعلم ما يصحبه الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة من الشريعة وما عهدناه من تلك المادة. (والله أعلم) .