المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المقدمة السابعة:-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها: - الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية

[محمد صدقي آل بورنو]

فهرس الكتاب

- ‌ القسم الأول:-- المقدمات والمبادئ

- ‌ المقدمة الأولى:-- معنى القواعد الفقهية والتعريف بها:

- ‌ المقدمة الثانية:-- الفروع بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:

- ‌ المقدمة الثالثة:-- ميزة القواعد الفقهية ومكانتها في الشريعة وفوائد دراستها:

- ‌ المقدمة الرابعة:-- أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:

- ‌ المقدمة الخامسة:-- مصادر القواعد الفقهية:

- ‌ المقدمة السادسة:-- حكم الاستدلال بالقواعد الفقهية على الأحكام:

- ‌ المقدمة السابعة:-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها:

- ‌المقدمة الثامنة:وتحتها مسألتان:

- ‌ المقدمة التاسعة:-- أشهر المؤلفات في القواعد الفقهية عبر القرون:

- ‌القسم الثاني:المقاصد:

- ‌القاعدة الأولى:قاعدة الأمور بمقاصدها:

- ‌أدلة القاعدة وأصلها:

- ‌معنى القاعدة:

- ‌أمثلة القاعدة:

- ‌مباحث النيَّة:

- ‌ معنى النية في اللغة:

- ‌ ما لا يشترط فيه النية

- ‌تعيين النية

- ‌ نية العبادة في المباحات

- ‌ انفراد النية عن الفعل

- ‌ شروط صحة النية:

- ‌ محل النية:

- ‌ وقت النية:

- ‌ القواعد المندرجة تحت قاعدة (الأمور بمقاصدها)

- ‌ القاعدة الأولى: قاعدة العقود:

- ‌ ثانياً: قواعد في الأيمان:

- ‌قاعدة: هل اليمين على نية الحالف أو على نية المستحلف

- ‌ القواعد المستثناة من قاعدة (الأمور بمقاصدها) :

- ‌ قاعدة: (من استعجل ما أخره الشرع يجازى برده)

- ‌استدراك على قاعدة (الأمور بمقاصدها) :

- ‌طريقة معرفة حكم الجزئيات من القاعدة الكلية:

- ‌المدركات العقلية:

- ‌ القواعد الكلية المندرجة تحت قاعدة: (اليقين

- ‌ القاعدة الأولى:قاعدة (الأصل بقاء ما كان على ما كان)

- ‌معنى القاعدة:

- ‌معنى الاستصحاب وأنواعه:

- ‌أقسام الاستصحاب عند الفقهاء الحنفية:

- ‌حكم الاستصحاب:

- ‌معنى القاعدة:

- ‌متى يظهر أثر الخلاف

- ‌ القاعدة الثالثة من القواعد الكلية الكبرى:

- ‌قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) :

- ‌أنواع المشاق والمشقة الميسرة:

- ‌عوامل المشقة الميسرة وأسباب التخفيف:

- ‌أنواع رخص الشرع التي ورد فيها التخفيف:

- ‌ القواعد الكلية الفرعية المندرجة تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير

- ‌القاعدة الأولى: (إذا ضاق الأمر اتسع

- ‌القاعدة الثانية: (إذا اتسع الأمر ضاق)

- ‌أصل هذه القاعدة ودليلها:

- ‌أنواع الرخص التي تتخرَّج على قاعدة الضرورة:

- ‌ خاصة) :

- ‌أدلة هذه القاعدة:

- ‌ القاعدة الرابعة من القواعد الكلية الكبرى:قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)

- ‌ شرح القاعدة

- ‌ القواعد المتفرعة على قاعدة لا ضرر ولا ضرار

- ‌اختلاط الواجب بالمحرم:

- ‌أنواع العادة والعرف وأقسامها:

- ‌العرف والعادة أمام النصوص الشرعية:

- ‌فروع على القاعدة:

- ‌ تعارض اللفظ بين اللغة والعرف:

- ‌معنى القاعدة

- ‌استثناء

- ‌معنى القاعدة:

- ‌ النوع الثاني:-- القواعد الكلية غير الكبرى:

- ‌ القاعدة الأولى:قاعدة: (التابع تابع) :

- ‌استثناء من القاعدة:

- ‌قاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) :

- ‌ القاعدة الخامسة:قاعدة: (المرء مؤاخذ بإقراره) :أو: (إقرار الإنسان على نفسه مقبول) :

- ‌ القاعدة السادسة:قاعدة: (الإقرار حجة قاصرة) :

- ‌ القاعدة السابعة:قاعدة: (الإقرار لا يرتد بالرد)

- ‌ القاعدة الثامنة:قاعدة: (من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه) :

- ‌ القاعدة التاسعة:قاعدة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان) :

- ‌استثناء:

- ‌ القاعدة الثانية عشرة:قاعدة: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) :

- ‌ القاعدة الثالثة عشرة:قاعدة: (ليس لعرق ظالم حق) :

- ‌ القاعدة الرابعة عشرة:قاعدة: (لا يتم التبرع إلا بالقبض) :أو (التبرع لا يتم إلا بالقبض) :

- ‌استثناء:

- ‌استثناءات:

- ‌ القاعدة: السابعة عشرة:قاعدة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص) :

- ‌أنواع الاجتهاد:

- ‌ القاعدة: الثامنة عشرة:قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بمثله أو بالاجتهاد) :

- ‌استثناء:

- ‌استثناء

- ‌ القاعدة: العشرون:قاعدة: لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير أو حقه بلا إذن:

- ‌استثناءات:

- ‌ القاعدة: الحادية والعشرون:قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:

- ‌ القاعدة: الثانية والعشرون:قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور:

- ‌استثناءات

- ‌ القاعدة الرابعة والعشرون:قاعدة: (المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط) :

- ‌ القاعدة: الخامسة والعشرون:قاعدة: يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان:

الفصل: ‌ المقدمة السابعة:-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها:

--‌

‌ المقدمة السابعة:

-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها:

عند الحديث عن مصادر القواعد الفقهية تبين أن من القواعد الفقهية ما أصله من نصوص الكتاب العزيز، أو من نصوص السنة النبوية المطهرة حيث جرى كثير منها مجرى القواعد كما جرى كثير مننها مجرى الأمثال.

وإلى جانب ذلك أثر عن فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمة التابعين ومن جاء بعدهم من كبار أتباعهم عبارات وردت إما عند تأصيل مبدأ وإما عند تعليل أحكام، وهذه العبارات كانت أساساً لما سمي فيما بعد بالقواعد الفقهية.

ولما كان ما عدا ذلك ناتجاً عن اجتهادات للفقهاء في تعليل الأحكام وتأصيلها فإنه لا يعرف لكل قاعدة فقية معروف وقائل لها؛ لأن هذه القواعد لم توضع كلها جملة واحدة على يد هيئة واحدة أو لجنة واحدة كما توضع النصوص القانونية في وقت معين على أيدي أناس معلومين.

ولكن هذه القواعد تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدريج في عصر ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح استنباطاً من دلالات النصوص الشرعية، وعلل الأحكام وأسرار التشريع والمقررات العقلية، والمعاني الفقهية لهذه القواعد كانت مقررة في أذهان الأئمة المجتهدين يعللون بها ويقيسون عليها، وقد كانت تسمى عندهم أصولاً.

ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث في هذا المجال هو

ص: 44

(كتاب الخراج) الذي ألَّفه الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة وحامل لواء المذاهب بعده ورئيس قضاة الدولة الإسلامية في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد ألف أبو يوسف كتابه هذا للخليفة هارون الرشيد ليجعل نظاماً وقانوناً تسير عليه الدولة في تنظيم الخراج ومعاملة أهل الذمة، وقد اشتمل هذا الكتاب على عدد من العبارات التي جرت مجرى القواعد بل كانت أساساً بنى عليه من جاء بعده.

ولما كان المقصود من تأليف هذا الكتاب تيسير علم القواعد على العلماء والفقهاء وطلاب العلم، ولما كان وضع هذه المقدمات لتعطي الدارس صورة واضحة عن هذا العلم ومبادئه، ولما كان المقصد وجه الله سبحانه وابتغاء مرضاته رأيت أن أوفى بحث في هذا الجانب وهذه المقدمة هو ما كتبه الأخ الفاضل الدكتور علي بن أحمد الندوي في كتابه القواعد الفقهية: نشأتها، تطورها، دراسة مؤلفاتها، وهو الكتاب الذي قدمه لجامعة أم القرى للحصول على درجة الماجستير، وليس وراء هذا البحث زيادة لمستزيد رأيت أن أعتمد عليه في بيان هذه المقدمة لما اشتمل عليه من أبحاث جليلة مفيدة نافعة والحكمة ضالة المؤمن، قال حفظه الله: ولما توغلت في بحوث الكتاب (يعني كتاب الخراج) وقفت على عبارات

ص: 45

رشيقة تتسم بسمات وشارات تتسق بموضوع القواعد من حيث شمول معانيها وفيما يلي أورد طرفاً منها:

1.

التعزيز إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَرهِ.

يقول عند تعرّضه لمسائل تتعلق بالتعزيز: (وقد اختلف أصحابنا في التعزيز قال بعضهم: لا يبلغ به أدنى الحدود أربعين سوطاً، وقال بعضهم: أبلغ بالتعزيز خمسة وسبعين سوطاً، أنقص من حد الحُرِّ وقال بعضهم: أبلغ به أكثر. وكان أحسن ما رأينا في ذلك والله أعلم: أن التعزيز إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَره) .

فهنا بعد أن سجَّل الخلاف القائم بين فقهاء ذلك العصر في موضوع التعزيز نحا الإمام أبو يوسف منحى جديداً، وهو أن وضع أصلاً في هذا الباب بتفويض الأمر إلى الحاكم، بحيث سوَّغ له أن يُقدِّر التعزيز في ضوء الملابسات المحيطة بالجرم وصاحبه.

2.

(كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال) . لا شك أن هذه العبارة كسابقتها تقرر قاعدة قضائية مهمَّة، وهي بمثابة شاهد على وجود قواعد جرت على أقلام الأقدمين مصوغة بصياغات مُحكمة.

3.

(ليس للإمام أن يُخرج شيئاً من يد أحدٍ إلا بحق ثابت معروف) هذه العبارة نظيرة للقاعدة المشهورة المتداولة (القديم يترك على قِدَمِه) .

ص: 46

ويمكن أن تكتسب العبارة سِمة القاعدة بعد تعديل طفيف فيها على النحو التالي: (لا يُنزَع شيء من يد أحد إلا بحقٍ ثابتٍ معروف) .

4.

(ليس لأحد أن يُحدِث مرجاً في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يُحدث ذلك كله) .

إذا نظرت في هذه العبارة ثم سرَّحت طرفك في القواعد المتداولة في الحِقبة الأخيرة، لمحت فيها شبيهاً للكلام المذكور.

وذلك الشبيه ما جاء في قواعد مجلة الأحكام العدلية أنه: (لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغيرة أو حقه بلا إذنه) .

وبجانب آخر يظهر عند الموازنة بين النصين أن عبارة كتاب الخراج تفيد الحظر على التصرف الفعلي في ملك الغير في حين أن قاعدة المجلة يتسع نطاقها إلى منع التصرف القولي مع التصرف الفعلي.

وكل ذلك يساعد على فهم التطور المثمر المتواصل في مجال هذا العلم.

5.

(لا ينبغي لأحد أن يُحْدِث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرّهم، ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم ولا يسعه ذلك) .

هذه العبارة يتحقق فيها معنى القاعدة باعتبار أن الشطر الأول منها تعلق

ص: 47

بقواعد رفع الضرر، والشطر الثاني يتمثل فيه مفهوم القاعدة الشهيرة: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.

6.

وإن أقرَّ بحق من حقوق الناس من قذف، أو قصاص في نفس، أو دونها أو مال، ثم رجال عن ذلك نُفذ عليه الحكم فيما كان أقرَّ به، ولم يبطل شيء من ذلك برجوعه.

هذه العبارة كسابقتها وردت في صيغة مطولة، لكنها تصوِّر في معنى الكلمة مدلول القاعدة المتداولة:(المرء مؤاخذ بإقراره) .

7.

(كل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أراضيهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم) .

وبعد التأمل في تلك العبارات وأشباهها يمكن القول بأن فكرة التأصيل كانت مركوزة في أذهان المتقدمين، وإن لم تظهر في صورة جليّة لعدم الحاجة إليها كثيراً.

وكذلك من أقدم ما وصل إلينا من تلك المصادر بعض كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189 هـ) .

فإذا أمعنا النظر في كتاب الأصل ألْفيناه يعلل المسائل وهذا التعليل كثيراً ما يقوم

ص: 48

مقام التقعيد.

وإليك مقتبسات من الكتاب المذكور، حتى يتبين كيف يوصل الأحكام ويقرنها بقواعدها.

ويقول في مبحث (الاستحسان) : ولو أن رجلاً كان متوضئاً، فوقع في قلبه أنه أحدث وكان ذلك أكبر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن لم يفعل وصلى على وضوئه الأول، كان عندنا في سعة، لأنه عندنا على وضوء حتى يستيقن بالحدث.

وإن أخبره أحد مسلم ثقة، أو امرأة ثقة مسلمة حرة أو مملوكة: أنك أحدثت أو نمت مضطجعاً، أو رعفت، لم ينبغ له أن يصلي هكذا، ولا يشبه هذا ما وصفت لك قبله من الحقوق، لأن هذا أمر الدين، الواحد فيه حجة إذا

ص: 49

كان عدلاً، والحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم.

فإذا تأملنا في هذا النص وجدناه يعلل الحكم، بأكبر الرأي، وهو الظن الغالب وبناء عليه يفضل إعادة الوضوء في الصورة المذكورة ثم يفتي بجواز الصلاة إن لم يعد الوضوء بناء على القاعدة المقررة (اليقين لا يزول بالشك) .

هذا في الفقرة الأولى، أما الفقرة الثانية فهو ينص فيها على أصلين:

أولاً: كون خبر الواحد حجة في أمر الدين إذا كان عدلاً، ولقد ذكر هذه القاعدة في موضع آخر فقال:(ما كان من أمر الدين، الواحد فيه حجة، إذا كان عدلا) .

ثانياً: الحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم، أي لا يكفي فيها قول واحد ولو كان عدلاً، كما في أمر الدين، بل لا بد من شاهدين كما في الحكم، والله أعلم.

ولا شك أن مثل هذا المنهج في التعليل أقرب ما يكون إلى منهج التقعيد الذي وجد في القرون المتأخرة.

وأحياناً نجده يسلك طريق البدء بالقاعدة ويفرِّع بعض المسائل عليها كما يتمثل ذلك في النص التالي.

3.

وكل أمر لا يحل إلا بملك أو نكاح فإنه لا يحرم بشيء، حتى ينتقض النكاح والملك، ولا يكون الرجل الواحد المسلم ولا المرأة في لك حجة، إنه إنما حل من وجه الحكم ولا يحرم إلا من الوجه الذي حل به منه.

ألا ترى أن عقدة النكاح وعقدة الملك لا ينقضهما في الحكم إلا رجلان أو رجل وامرأتان، فإن كان الذي يحل بذلك لا يحل إلا به لم يحرم حتى ينتقض الذي حل، وكل أمر يحل بغير نكاح ولا ملك إنما يحل بالإذن فيه، فأخبر رجل مسلم ثقة أنه حرام فهو عندنا حجة في ذلك، ولا ينبغي أن يؤكل ولا يشرب ولا يتوضأ منه.

وقد وجدت هناك قواعد جامعة أخرى جرت على لسانه عند التعليل والتوجيه لبعض الأحكام، وإليك نماذج منها.

ص: 50

4.

كل من له حق فهو له على حاله حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك.

واليقين أن يعلم أو يشهد عنده الشهود العدول.

5.

التحري يجوز في كل ما جازت فيه الضرورة.

وبناء على ذلك إذا اشتبه عليه الطاهر بالنجس لم يجب عليه أن يتحرى في أحدهما للوضوء وينتقل إلى البدل وهو التيمم بخلاف الشرب.

6.

(لا يجتمع الأجر والضمان) فانظر إلى هذه القواعد كيف أُحكم نسجها وصقلت صياغتها وإن منها ما يماثل تماماً الأسلوب الذي راج وشاع في كتب المتأخرين عند التقعيد على سبيل المثال قوله: (لا يجتمع الأجر والضمان) فقد عبرت عنه (المجلة) بالصيغة نفسها تقريباً وهي: (الأجر والضمان لا يجتمعان) .

وعلى ذلك المنوال جرى الإمام المذكور في مواضع من كتابه (الحجة)

ص: 51

أيضاً فعلى سبيل المثال نجده في كتاب البيوع من الكتاب المذكور يتطرق إلى مسائل كثيرة ثم في الختام يضع قاعدة مهمة فيقول:

7.

(كل شيء كره أكله والانتفاع به على وجه من الوجوه فشراؤه وبيعه مكروه، وكل شيء لا بأس بالانتفاع به فلا بأس ببيعه) . وعلى غرار ما سبق لما قلبنا النظر في كتاب (الأم) الذي أملاه الإمام الشافعي رحمه الله (204 هـ) ، على بعض أصحابه وجدناه أحياناً يقرن الفروع بأصولها، وتلك الأصول في الغالب لا تعدو أن تكون ضوابط فقهية ومن الخليق بأن نسميها (كُلّيات) باعتبار بدايتها ب (كلّ) .

ويجانب ذلك هناك قواعد فقهية يمكن إجراؤها وتطبيق الفروع عليها في كثير من الأبواب، وهي آية بيّنة على رواسب هذا العلم في أقدم المصادر الفقهية، ورسوخ فكرة التعليل والتأصيل للأحكام عند الأئمة الأولين.

وإليك نماذج متنوعة من الكتاب المذكور:

1.

(الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه) :

هذه القاعدة جرت على لسان الإمام الشافعي عند تعليل بعض الأحكام المتعلقة بالإكراه كما جاء في الكتاب المذكور تحت عنوان: (الإكراه وما في معناه) . قال الشافعي رحمه الله، قال الله عز وجل:(إلا مَن أُكرِهَ وقلبه مطمئِنُّ بالإيمانِ) . النحل، آية (106) .

ص: 52

ثم أضاف إلى ذلك قائلاً: (وللكفر أحكام كفراق الزوجة وأن يقتل الكافر ويغنم ماله، فلما وضع الله عنه، سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبوته عليه) .

2.

(الرخص لا يُتعدَّى بها مواضعها) : نص على هذه القاعدة عند بيان مسائل تتصل بصلاة العذر، إذ يقول معلّلاً لبعض الأحكام:(إن الفرض استقبال القبلة والصلاة قائماً، فلا يجوز غير هذا إلا في المواضع التي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها، ولا يكون شيء قياساً عليه، وتكون الأشياء كلها مردودة إلى أصولها، والرخص لا يتعدى بها مواضعها) .

ونجده يوحي إلى معنى هذه القاعدة في موضع آخر من ضرب المثال لها فيقول: (ولم نُعَدِّ بالرخصة موضعه كما لم نُعَدِّ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياساً على الخفين) .

ويبدو عند التأمل أن هذه القاعدة قريبة مما تقرره القاعدة المشهورة: (ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه) .

3.

(ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل إنما ينسب إلى كل قوله وعمله) .

ص: 53

هذه القاعدة أفصح عنها عند نقاش موضوع الاجتماع على مسائل فقهية، ثم تداولها الفقهاء وطبقوها في كثير من الأحكام، ولا شك أن القاعدة في موضعها جرت حسب مقتضى الموضوع، وربما لم تكن هناك حاجة إلى مزيد من الكلام لكن الفقهاء لم يقفوا عندها بل أتبعوها باستثناء يُكمل الموضوع فأضافوا إليها:(ولكن السكوت في موضع الحاجة بيان) وهذا المثال خير شاهد على التطور المستمر المتواصل في صيغ القواعد على امتداد الزمان.

4.

(ا) يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها.

(ب) قد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات.

(ج) كل ما أحل من مُحرَّم في معنى لا يحل إلا في ذلك المعنى خاصة، فإذا زايل ذلك المعنى عاد إلى أصل التحريم، مثلاً: الميتَة المُحرَّمة في الأصل المُحلة للمضطر، فإذا زايلت الضرورة عادت إلى أصل التحريم) . فهذه القواعد الثلاث التي تباينت صيغها ومظاهرها نجدها متحدة في مغزاها، فإنها تفضى إلى مفهوم واحد وهو بيان حكم الضرورة.

ثم القاعدة الأخيرة بجانب بيان الحكم تضيف قيداً إلى القاعدة، وهو: فإذا زايلت الضرورة عادت إلى أصل التحريم، ومما لا غبار عليه أن هذه القواعد جرت على نسق قويم ورصين، ثم هي وأشباهها ربما ساعدت الفقهاء على سبْك القاعدة وصهرها في قالب أضبط وأركز، فقد شاهدنا هذا التطور، ووجدنا الفقهاء يعبرون عما سبق بقولهم: الضرورات تبيح المحظورات، وكذا: الضرورة تُقدر بقدرها.

ص: 54

5.

(الحاجة لا تُحق لأحد أن يأخذ مال غيره) .

هذه القاعدة يتبين فيها مدى احترام حقوق العباد في أموالهم والحفاظ عليها، إذ الحاجة لا تبرر أخذ مال الغير، فلو أخذه أحد لكان آثماً وضامناً، بخلاف الضرورة التي تسقط الإثم وتفرض الضمان إذ الاضطرار لا يُبطل حق الغير.

وقد أشار الإمام الشافعي أيضاً إلى ذلك الفرق بين الضرورة والحاجة في القاعدة التالية:

6.

(وليس بالحاجة محرَّم إلا في الضرورات) .

وما سوى تلك القواعد هناك عبارات مذهبية تحمل سمة القواعد كما ورد في النص التالي: (والرخصة عندنا لا تكون إلا لمطيع، فأما العاصي فلا) .

فهذه العبارة وأمثالها لما تكررت على ألسنة الفقهاء اكتسبت صيغة مركزة، فقد عبر عنها الفقهاء المتأخرون في المذهب بقولهم:(الرخص لا تناط بالمعاصي) .

أما (الكليات) التي أشرت إلى وجودها في مستهل الكلام هنا فهي كثيرة، وبعضها قريب من مفهوم القواعد، ومعظمها ضوابط فقهية، وفيما يلي نقدم نماذج منها ونختم بها موضوع القواعد عند الإمام الشافعي.

1.

(كل ما له مثل يرد مثله، فإن فات يردّ قيمته) .

2.

(كل من جُعل له شيء فهو إليه إن شاء أخذه وإن شاء تركه) .

ص: 55

3.

(كل حق وجب عليه فلا يبرئه منه إلا أداؤه) .

وفيما يبدو أن هذه الأمثلة يتحقق فيها مفهوم القاعدة وتصلح أن تدرج في سلكها من حيث المظهر والمعنى.

أما الكليات التي ينطبق عليها مفهوم الضابط فهي مثل قوله: (كل ثوب جهل من ينسجه، أنسجه مسلم، أو مشرك، أو وثني، أو مجوسي، أو كتابي، أو لبسه واحد من هؤلاء أو صبي، فهو على الطهارة حتى يعلم أن فيه نجاسة) .

وكذلك قوله: (كل حالٍ قدر المصلي فيها على تأدية فرض الصلاة كما فرض الله تعالى عليه صلاها، وصلى ما لا يقدر عليه كما يطيق) .

فإن هذين المثالين لا يسري عليهما حكم القاعدة، فإنهما من الضوابط، ولكن يمكن أن نعد كلا المثالين ضابطاً في ميدان القواعد، من حيث إن المثال الأول يتضمن فروعاً تتعلق بالقاعدة الأساسية الشهيرة (اليقين لا يزول الشك) .

والمثال الثاني بمثابة فرع لما تقرره القاعدة المتداولة بين الفقهاء: (الميسور لا يسقط بالمعسور) .

ومن القواعد المنسوبة إلى الإمام الشافعي رحمه الله، القاعدة المشهورة:(إذا ضاق الأمر اتسع) فقد ذكر العلامة الزركشي نقلاً عن أئمة الشافعية أن هذه القاعدة من عبارات الشافعي الرشيقة، وقد أجاب بها في عدة مواضع منها: ما

ص: 56

إذا فقدت المرأة وليها في سفر فولت أمرها رجلاً يجوز، قيل له: كيف هذا؟ فقال: إذا ضاق الأمر اتسع.

هناك عبارات مروية عن الإمام أحمد رحمه الله (241 هـ) ، أوردها الإمام أبو داود في كتاب (المسائل) تتسم بطابع القواعد.

وهي قواعد مفيدة في أبوابها منها: ما جاء في باب الهبة عنه قال: سمعت أحمد يقول: (كل ما جاز فيه البيع تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن) . وفي باب بيع الطعام بكيله ورد عن طريقه قول أحمد أنه قال: كل شيء يشتريه الرجل مما يكال أو يوزن فلا يبعه حتى يقبض، وأما غير ذلك فرخص فيه.

ومن هذا الباب ما روى عن القاضي سوَّار بن عبد الله (245 هـ)، قوله:

ص: 57

(كل أمر خالف أمر العامة فهو عيب يرد به) .

ومن خلال هذا العرض الوجيز لبعض ما وصل إلينا من الأحاديث والآثار والأقوال في معنى القواعد ممكن أن نخلص إلى الأمور التالية:

1.

وجدت القواعد الفقهية ورسخت فكرتها عند الأقدمين في غضون هذه المراحل كلها، قبل أن تعرف العبارات باعتبارها قواعد وتصطبغ بصبغة العلم.

2.

إذا أردنا أن نرسم صورة واضحة لتطور حكرة التأليف في مجال القواعد، فإن علينا أولاً أن نعتمد علة مثل تلك النصوص المعبثرة هنا وهناك فهي مصدر الانطلاق لنا في هذا الباب.

3.

لقد جرت على ألسنة المتقدمين من القواعد ما تضارع القواعد المتداولة في القرون المتأخرة ولا سيما بعض ما ذكرناه عن الإمام محمد والإمام الشافعي رحمهما الله فهي تقريباً نفس القواعد المعهودة لدينا في أساليب وصيغها.

4.

فيما يظهر أن تلك الآثار والأقوال كانت حافزاً للمتأخرين على استنباط القواعد وجمعها وتدوينها، والتقدم نحو هذا الاتجاه.

وعلى أقل التقدير يمكن القول بناء على هذه النماذج المأثورة أنه قامت اللبنة الأولى للقواعد في غضون القرون الثلاثة الأولى، بحيث شاع فيها استعمال تلك القواعد وتبلورت فكرتها في أذهانهم، وإن لم يتسع نطاقها، لعدم الحاجة إليها كثيراً في تلك العصور، وهو الطور الأول الذي أسميناه طور (النشوء والتكوين) للقواعد الفقهية.

ص: 58

-- الطور الثاني:

-- طور النمو والتدوين:

وأما بداية القواعد الفقهية باعتبارها فناً مستقلاً، فقد تأخرت عن العصور المبكرة إلى عصر الفقهاء في إبان القرن الرابع الهجري، وما بعده من القرون.

وتفصيلاً لهذا القول يمكن أن نقول إنه لما برزت ظاهرة التقليد في القرن الرابع الهجري، واضمحل الاجتهاد وتقاصرت الهمم في ذلك العصر مع وجود الثروة الفقهية العظيمة الوافية التي نشأت من تدوين الفقه مع ذكر أدلته وخلاف المذاهب وترجيح الراجح منها، وهو الذي عرف أخيراً بالموازنة أو المقارنة بين المذاهب، وبما خلفه الفقهاء من أحكام اجتهادية معَلَّلة، لم يبق للذين أتوا بعدهم إلا أن يخرجوا من فقه المذاهب أحكاماً للأحداث الجديدة كما أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون بقوله: (ولما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريقها عند

ص: 59

الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذاهب إمامهم) .

وعن طريق هذا التخريج للمسائل على أصول المجتهدين نما الفقه واتسع نطاقه، وتمت مسائله، وبدأ الفقهاء يضعون أساليب جديدة للفقه، فهذه الأساليب يذكرونها مرة بعنوان القواعد والضوابط، وتارة بعنوان الفروق، وتارة أخرى بعنوان الألغاز، والمطارحات، ومعرفة الأفراد، والحيل، وغيرها

ص: 60

من الفنون الأخرى في الفقه، وتوسعوا في بيان بعضها، منها الفروق والقواعد والضوابط.

وأما الفروق فقد وجدوا أن من المسائل الفقهية ما يتشابه في الظاهر مما قد يظن أن له حكماً واحداً، ولكنه في الحقيقة مختلف، وبين المسألة والأخرى المشابهة لها فرقاً يجعل لكل مسألة حكماً خاصاً بها، فألفوا (الفروق) كما سلفت الإشارة إلى ذلك في الفصل الأول.

وأما القواعد والضوابط فحينما كثرت الفروع والفتاوى بكثرة الوقائع والنوازل توسعوا في وضعها على هديٍ من سلفهم تدور في أبواب مختلفة من الفقه تضبط كثرة الفروع، وتجمعها في قالب متسق، لصيانتها من الضياع والتشتت كما فعل العلامتان أبو الحسن الكرخي في رسالته، وأبو زيد الدبوسي في تأسيس النظر تحت عنوان الأصول، غير أنها إذا كانت في موضوعات مختلفة سميناها قواعد؛ وإذا كانت في موضوع واحد سميناها ضوابط، حسب ما استقر عليه الاصطلاح في القرون التالية.

ومما يشهد له التاريخ ويظهر ذلك بالتتبع والنظر، أن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسبق من غيرهم في هذا المضمار، ولعل ذلك للتوسع عندهم في الفروع، وأخذ بعض الأصول عن فروع أئمة مذهبهم، ومن ثم ترى الإمام محمد رحمه الله، في كتاب الأصل يذكر مسألة فيفرع عليها فروعاً قد يعجز الإنسان عن وعيها والإحاطة بها.

وكل ذلك جعل الطبقات العليا من فقهاء المذهب يصوغون القواعد والضوابط التي تسيطر على الفروع الكثيرة المتناثرة وتحكمها.

ص: 61

ولعل أقدم خبر يروي في جمع القواعد الفقهية في الفقه الحنفي مصوغة بصيغها الفقهية المأثورة، ما رواه الإمام العلائي الشافعي (761 هـ) ، والعلامتان السيوطي (911 هـ) وابن نجيم (970 هـ)، في كتبهم في القواعد: أن الإمام أبا طاهر الدبَّاس من فقهاء القرن الرابع الهجري قد جمع أهم قواعد مذهب الإمام أبي حنيفة في سبع عشرة قاعدة كلية، وكان أبو طاهر رحمه الله ضريراً يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد انصراف الناس، وذكروا أن أبا سعد الهروي الشافعي قد رحل إلى أبي طاهر، ونقل عنه بعض هذه القواعد، ومن جملتها القواعد الأساسية المشهورة وهي:

ص: 62

1.

الأمور بمقاصدها.

2.

اليقين لا يزول بالشك.

3.

المشقة تجلب التيسير.

4.

الضرر يزال.

5.

العادة محكَّمة.

وإنه ليس من الميسور تحديد القواعد التي جمعها الإمام أبو طاهر، أو الوقوف عليها ما عدا هذه القواعد المشهورة الأساسية، إلا أنه يمكن أن الإمام الكرخي (340 هـ) الذي هو من أقران الإمام الدباس اقتبس منه بعض تلك القواعد، وضمَّها إلى رسالته المشهورة التي تحتوي على تسع وثلاثين قاعدة، ولعلها أو نواة للتأليف في هذا الفن.

وممن أضاف إلى ثروة هذه المجموعة المتناقلة عن الإمام الكرخي هو الإمام أبو زيد الدَّبوسي (430 هـ) في القرن الخامس الهجري، إذا يمكن أن يقال إن القرن الرابع الهجري هو المرحلة الثانية في نشأة القواعد الفقهية وتدوينها، حيث وجد أول كتاب في هذا الفن وهو يمثل بداية هذا العلم من ناحية التدوين.

أما بعد كتاب (تأسيس النظر) للدبوسي فلم أعثر على أي كتاب في هذا

ص: 63

العصر وكذلك في القرن السادس الهجري، اللهم إلا كتاب الإمام علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي (540 هـ) بعنوان (إيضاح القواعد) الذي ذكره صاحب هدية العارفين فإنه من المحتمل أن يكون ذلك الكتاب من قبيل هذا الموضوع.

ولا شك أن عدم العثور على المؤلفات لا يدل على انقطاع الجهود في هذه الحقبة المديدة، بل ينبغي أن يقال إنها طويت في لجة التاريخ أو ضاعت كما هو الشأن في كثير من الموضوعات.

أما في القرن السابع الهجري فقد برز فيه هذا العلم إلى حد كبير، وإن لم يبلغ مرحلة النضوج، وعلى رأس المؤلفين في ذلك العصر: العلامة محمد بن إبراهيم الجاجرمي السّهلكي (613 هـ)، فألف كتاباً بعنوان:(القواعد في فروع الشافعية) ثم الإمام عز الدين بن عبد السلام (660 هـ) ألف كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) الذي طبَّق صِيتُه الآفاق.

ومن فقهاء المالكية ألف العلامة محمد بن عبد الله بن راشد البكري

ص: 64

القفصي (685 هـ) كتاباً بعنوان: (المُذهب في ضبط قواعد المذهب) .

فهذه المؤلفات تعطينا فكرة عامة عن القواعد الفقهية في القرن السابع الهجري، وأنها بدأت تختمر وتتبلور يوماً فيوماً.

أما القرن الثامن الهجري فهو يعتبر العصر الذهبي لتدوين القواعد الفقهية ونمو التأليف فيها، تفوقت فيها عناية الشافعية لإبراز هذا الفن، ثم تتابعت هذه السلسلة في المذاهب الفقهية المشهورة.

ومن أهم وأشهر ما ألف في ذلك العصر الكتب التالية:

1.

الأشباه والنظائر: لابن الوكيل الشافعي (716 هـ) .

2.

كتاب القواعد: للمقرَّي المالكي (758 هـ) .

3.

المجموع المذهب في ضبط قواعد المذهب: للعلائي الشافعي (761 هـ) .

4.

الأشباه والنظائر: لتاج الدين السبكي (771 هـ) .

5.

الأشباه والنظائر: لجمال الدين الإسنوي (772 هـ) .

6.

المنثور في القواعد: لبدر الدين الزركشي (794 هـ) .

ص: 65

7.

القواعد في الفقه: لابن رجب الحنبلي (795 هـ) .

8.

القواعد في الفروع لعلي بن عثمان الغزّي (799 هـ) .

ومعظم هذه المؤلفات (على اختلاف مناهجها ومناحيها) حملت ثروة كبيرة من القواعد والضوابط، والأحكام الأساسية الأخرى، وفيها إرهاص على نضوج هذا الفن إلى حد كبير ذلك العصر.

وفي القرن التاسع الهجري أيضاً جدت مؤلفات أخرى على المنهاج السابق، فتجد في مطلع هذا القرن العلامة ابن الملقِّن (804 هـ) ، صنَّف كتاباً في القواعد اعتماداً على كتاب الإمام السبكي، وما سواه من الكتب التي نسجلها كما يلي:

1.

أسنى المقاصد في تحرير القواعد: لمحمد بن محمد الزبيري (808 هـ) .

2.

القواعد لمنظومة: لابن الهائم المقدسي (815 هـ) ، وأيضاً قام بتحرير (المجموع المُذهب في قواعد المذهب) للعلائي، وأسماه (تحرير القواعد العلائية وتمهيد المسالك الفقهية) .

ص: 66

3.

كتاب القواعد: لتقي الدين الحصني (829 هـ) .

4.

نظم الذخائر في الأشباه والنظائر: لعبد الرحمن بن علي المقدسي المعروف بشُقير. (876 هـ) .

5.

الكليات الفقهية والقواعد: لابن غازي المالكي (901 هـ) .

6.

القواعد والضوابط لابن عبد الهادي (909 هـ) ، يوسف بن حسن.

ص: 67

ونستطيع أن نقول من خلال النظر في بعض تلك المؤلفات التي عثرنا عليها: إن الجهود في هذا الفن تتالت على مرور الأيام، وإن ظل بعضها مقصوراً وعالة على ما سبقها من الجهود في القرن الثامن الهجري، خاصة عند الشافعية، وإنما قام العلماء في هذا العصر بتكميل أو تنسيق لما جمعه الأوائل، كما تجد هذه الظاهرة واضحة في كتابي ابن الملقن وتقي الدين الحصني.

ويبدوا أنه رقي النشاط التدويني لهذا العلم في القرن العاشر الهاجري حيث جاء العلامة السيوطي (910 هـ) ، وقام باستخلاص أهم القواعد الفقهية المتناثرة المبدَّدة عند العلائي والسبكي والزركشي، وجمعهما في كتابه (الأشباه والنظائر) في حين أن تلك الكتب تناولت بعض القواعد الأصولية مع الفقهية ما عدا كتاب الزركشي كما سيأتي بيان ذلك بشيء من التفصيل.

وفي هذا العصر قام العلامة أبو الحسن الزقاق التجيي المالكي (912 هـ) ، بنظم القواعد الفقهية بعد استخلاصها وإقرارها من كتب السابقين مثل الفروق للقرافي وكتاب القواعد للمقرَّى.

واحتل الكتاب مكاناً رفيعاً عند فقهاء المالكية كما يظهر ذلك من الأعمال التي تتابعت على المنظومة.

وكذلك العلامة ابن نجيم الحنفي (970 هـ) ألف على طراز ابن السبكي والسيوطي كتابه (الأشباه والنظائر) وهو يعتبر خطوة متقدمة، لأنه بعد انقطاع مديد ظهر مثل هذا الكتاب في الفقه الحنفي، وتهافت عليه علماء الحنفية تدريساً وشرحاً.

وهكذا أخذ هذا العلم في الاتساع مع تعاقب الزمان دون انقطاع في القرن الحادي عشر وما بعده من قرون، ومن هنا يمكن القول بأن الطور الثاني وهو طور

ص: 68

النمو والتدوين (للقواعد الفقهية) الذي بدأ على أيدي الإمامين الكرخي والدبوسي، أوشك أن يتم ويتنسق بتلك المحاولات المتتالية الرائعة على امتداد القرون.

بعد هذا الاستعراض الوجيز لما تم ونضج في المرحلة الثانية لا بد من الوقوف وقفة إزاء تلك الجهود العلمية البناءة.

فيا تُرى هل جرى وضع القواعد الموجودة في المؤلفات المستقلة على أيدي مصنفيها، أو إنما هي مرحلة تدوينية فحسب استتبعت جهوداً سابقة في هذا المجال؟ فالذي يتبادر إلى الذهن وما يشهده له الواقع أن المدونين للقواعد اقتبسوها بصفة عامة من المصادر الفقهية الرئيسية الأصلية، كل من كتب مذهبه، كما نتلمح ذلك عند تقليب النظر في مصادر الفقه القديمة، حيث وردت القواعد فيها بصورة متناثرة في أماكن مختلفة.

لا يتنافى ذلك مع كون بعض المؤلفين الذين كانوا يتمتعون بملكة ورسوخ في الفقه مثل ابن الوكيل وابن السبكي والعلائي ربما تمكنوا من وضع بعض القواعد التي لم ترد في كتب السابقين كما تبدو هذه الظاهرة من خلال المدونات الموجودة بين أيدينا وأحياناً صاغوا بعض عبارات الأقدمين التي حملت سمة القواعد صياغة متقنة جديدة.

ولاستجلاء تلك الحقيقة لما دققنا النظر في بعض المصادر الفقهية من المذاهب المختلفة، وجدنا أن الفقهاء يتعرضون للقواعد عند تعليل الأحكام وترجيح الأقوال، مثل الكاساني وقاضيخان وجمال الدين الحصيري من الحنفية، والقرافي من المالكية والجويني والنووي من الشافعية، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة.

فتراهم يذكرون القواعد الفقهية ويقرنون بها الفروع والأحكام، وهذا أمر

ص: 69

مهم وذو شأن في إطار هذا المبحث.

ونقدم هنا تفصيل ذلك بذكر بعض الأمثلة والنماذج للقواعد من المصادر الفقهية مع اختيار الترتيب الزمني دون المذهبي.

ففي القرن الخامس الهجري وجدنا إمام الحرمين الجويني (478 هـ) رحمه الله شأمة بين فقهاء المذهب الشافعي في هذا الباب حيث قام بتأصيل هذه القواعد في آخر كتابه (الغياثي) فعقد فيه فصلاً مستقلا مُحكماً يتعلق بموضوعنا في أسلوبه الحواري الخاص.

يقول في المرتبة الثالثة من هذا الكتاب: (إن المقصود الكلي في هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحا والأس من المبنى، ونوضح أنها منشأ التفاريغ وإليها انصراف الجميع) .

وبدأ هذه الفصل بكتاب الطهارة:

1.

ومن ضمن القواعد التي بحث مسائل الطهارة على أساسها (قاعدة استصحاب الحكم بيقين طهارة الأشياء إلى أن يطرأ عليها يقين النجاسة) .

وجاء في فصل الأواني: (إن كل ما يشك في نجاسته فحكم الأصل الأخذ بالطهارة) .

2.

ذكر في مطلع كتاب الصالة قاعدة مهمة بعنوان: (إن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه) .

3.

وفي الفصل نفسه عقد باباً بعنوان: (باب في الأمور الكلية

ص: 70

والقضايا التكليفية) ورمز فيه إلى قاعدة (الضرورة) مع بيان بعض تفاصيلها وذكر فروعها، يقول وفق طريقته الافتراضية الحوارية: (إن الحرام إذا طبَّق الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، وضبط ذلك بقوله: فالمرعي إذاً رفع الضرار واستمرار الناس على ما يقيم قواهم.

4.

وفي معرض هذا المبحث أورد القاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) بصيغة: (ما لا يعلم فيه تحريم يجري عليه حكم الحل) ، وساق الأدلة في إثباتها وترجيحها، ثم فصلها بقواعد فرعية أخرى مثلاً يقول:(أما القول في المعاملات) .

فالأصل المقطوع به فيها اتباع تراضي المُلاك، والقاعدة المعتبرة:(أن المُلاك يختصون بأملاكهم، لا يزاحم أحد مالكاً في ملكه من غير حق مستحق) .

5.

ذكر في نفس الفصل مسائل قاعدتي الإباحة وبراءة الذمة، ثم ختمها بقاعدة مشهورة: إن التحريم مُغَلَّبٌ في الأبضاع.

6.

وتعرض لقاعدة البراءة الأصلية بعنوان: (كل ما أشكل وجوبه فالأصل براءة

ص: 71

الذمة فيه) .

7.

وركز على القاعدة العامة المتعلقة برفع الحرج في عديد من المواضيع، مثلاً يقول في نهاية هذا الفصل إنه:(من الأصول التي آل إليها مجامع الكلام أنه إذا لم يستيقن حجر أو حظر من الشارع في شيء فلا يثبت فيه تحريم) . وأورد في موضع آخر ما يشبه ذلك تماماً: (إن التحريم إذا لم يقدم عليه دليل فالأمر يجري على رفع الحرج) .

فالناظر في هذه الأمثلة المذكورة يقف على بعض القواعد المهمة الجديدة في صياغتها، ما عدا بعض القواعد المشهورة على سبيل المثال تأمل قاعدتين وهما:

1.

(إن المقدور لا يسقط بالمعجوز عنه) .

2.

(الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر) .

فلعل الجويني رحمه الله أول قائل لهما بهذه الصيغة، ثم عم ذكرهما عند المتأخرين من الشافعية وغيرهم لا سيما عند المدونين للقواعد.

وفي القرن السادس الهجري لما شُرح بعض المصادر الفقهية الأصلية، أخذت القواعد في الاتساع، ونالت اهتمام الشارحين، ومنهم الإمام الكاساني (587 هـ) في (بدائع الصنائع) ، فقد سار في هذا الشرح على نهج قويم في ربط الفروع بأصولها وظهرت براعته في إبراز القواعد في مواطن كثيرة من الكتاب، ونجتزئ هنا ببعض الأمثلة فيما يلي:

ص: 72

1.

(النادر ملحق بالعدم) .

2.

(الإشارة تقوم مقام العبارة) .

3.

(ذكر البعض فيما لا يتبعَّض ذكر لكله) .

4.

(العجز حُكماً كالعجز حقيقة) .

5.

(إن البقاء أسهل) .

6.

(الأمين يُصدق ما أمكن) .

7.

(إن كل ما لا يباح عند الضرورة لا يجوز فيه التحري) .

8.

(التعليق بشرط كائن تنجيز) .

فانظر إلى هذه القواعد كيف تنسقت صياغتها عند الكاساني، وليس ببعيد ولا غريب أن يكون بعضها عريقة في صياغتها عند السابقين مثل الإمام محمد وغيره كما سلفت الإشارة إلى بعض الأمثلة من هذا القبيل في بداية هذا الفصل، وكل ذلك يدل على مدى تطور مستمر في صياغة القواعد وعناية الفقهاء بها عند تعليل الأحكام، وترجيح رأي من الآراء، وتوجيه أفكار أئمة المذاهب بتلك القواعد.

ص: 73

وفي نفس الفترة من الزمن تقريباً نلاحظ أن الإمام فخر الدين الفرغاني الشهير بقاضي خان (592 هـ) أولى القواعد عناية كبيرة، وهو يكاد ينفرد بين الفقهاء في هذا المجال، حيث في شرحه (الزيادات) و (الجامع الكبير) للإمام محمد، افتتح معظم الأبواب والفصول بذكر القواعد والضوابط، وافتنَّ في عرضها وقام بجهد جبار في ربط الفروع بأصولها.

ثم تابعه في ذلك تلميذه العلامة جمال الدين الحصيري (636 هـ) حيث صدَّر كل باب في (التحرير شرح الجامع الكبير) بالقواعد والضوابط وبطبيعة الحال بعضها أساسية مهمة ومعظمها فرعية ومذهبية، ولكنها لا تخلو عن الطرافة وجودة الصياغة في كثير من المواضع، وتوثيقاً للكلام نقدم هنا بعض النماذج من شرح الزيادات لقاضي خان وشرح الجامع الكبير للحصيري، وهي كما يلي:

1.

(الجمع بين البدل والمبدل محال) : قال قاضي خان في الفصل الثالث من كتاب الطهارة: (إنه ينبني على أصل واحد: وهو أن الجمع بين الغسل والمسح على الخف لا يجوز لأن المسح بدل الغسل، والجمع بين

ص: 74

البدل والمبدل محال، فإذا غسل إحدى الرِّجلين أو غسل بعض الرِّجل لا يمسح على الأخرى كيلا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل) .

2.

(إنالمبتلى من أمرين يختار أهونهما) : قال في (بابا الصلاة التي يكون العذران) : (بنى الباب: على أن المبتلى من أمرين يختار أهونهما لأن مباشرة الحران لا تباح إلا لضرورة، ولا ضرورة في الزيادة) ، ثم فرع المسائل بناء على هذه القاعدة.

3.

قال في باب الإقرار بالرق، بنى الباب على أصلين: أحدهما: (إن إقرار الإنسان يقتصر عليه، ولا يتعدى إلى غيره، إلا ما كان من ضرورات المُقرّ به، لقيام ولايته على نفسه، وعدم ولايته على غيره) .

والثاني: (إن الثابت بحكم الظاهر يجوز إبطاله بدليل أقوى منه) .

4.

قال في (باب ما يصدق الرجل إذا أقرَّ أنه استهلك من مال العبد والحربي وما

ص: 75

لا يصدق) : (بنى الباب على: إن كل من أنكر حقاً على نفسه، كان القول قوله، لأنه متمسك بالأصل وهو فراغ الذمة، ومن أقر بسبب الضمان وادعى ما يسقطه لا يُصدق إلا بحجة، لأن صاحبه متمسك بالأصل في إبقاء ما كان) .

ومن القواعد التي قد تكرر استعمالها في مواضع من الشرح كما يلي:

5.

(الظاهر يصلح حجة للدفع دون الاستحقاق) .

6.

(الحادث يحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات) .

7.

(إن البينة حجة يجب العمل بها ما أمكن) .

والملحوظ هنا أنه عبر عن القاعدة بكلمة الأصل باعتبار ما يتفرع عليه من فروع وجزئيات.

ومن نماذج تلك الأصول والقواعد عند الحصيري في (التحرير شرح الجامع الكبير) ما يلي:

1.

(باب من الطهر إلى الوضوء والثوب وغير ذلك) بدأه بقوله: (أصل الباب أن ترك القياس في موضع الحرج والضرورة جائز، لأن الحرج منفي ومواضع الضرورات مستثناة من قضيات الأصول) .

2.

باب صلاة العيدين: استهل الكلام فيه بقوله: (أصل الباب أن رأي

ص: 76

المجتهد حجة من حجج الشرع، وتبدل رأي المجتهد بمنزلة انتساخ البعض يعمل به في المستقبل، لا فيما مضى) .

3.

جاء في صدر (باب الصيام والاعتكاف) : (أصل الباب أن موجب اللفظ يثبت باللفظ ولا يفتقر إلى النية، ومحتمل اللفظ لا يثبت إلا بالنية، وما لا يحتمله لفظه لا يثبت وإن نوى) .

4.

جاء في مستهل: (باب المرأتين في العقد الذي يكون أوله جائزاً ثم يفسد) : (أصل الباب: أن الإجازة إذا لحقت العقد الموقوف كان لحالة الإجازة حكم الإنشاء، لأن العقد لم يتم قبل الإجازة، وإنما تم ونفذ بالإجازة، فكان لها حكم الإنشاء فيكون الطارئ على العقد الموقوف يجعل كالمقارن للعقد. لأنه سبق النفاذ الذي هو المقصود بالعقد، فيجعل في التقدير سابقا على ما هو وسيلة لاستتباع المقاصد) .

5.

قال في فاتحة (باب الإقرار في البيع في فساد وغير فساد) : (أصل الباب أن القاضي مأمور بالنظر والاحتياط لأنه نصب لدفع الظلم وإيصال الحقوق إلى أربابها، فيحتاط لإيفائها ويتحرز عن تعطيلها (الموهوم لا يعارض المتحقق) فلا يؤخر الحق الثابت بقيني لحق عسى يكون وعسى لا

ص: 77

يكون لأن التأخير إبطال من وجه فلا يجوز لحق موهوم) .

فهذه الأمثلة وما شابهها جرت وشاعت عند المتأخرين مع حسن الصياغة ووجازة التعبير.

وفي غضون تلك المراحل التي بدأ فيها تدوين القواعد ينشط نجد من الشافعية الإمام النووي (676 هـ) كثير الاعتداد بهذه القواعد، وقد أومأ إلى ذلك في مقدمة (المجموع شرح المهذب) عند بيان المنهج الذي سلكه في الشرح. يقول:(وأما الأحكام فمقصود الكتاب، فأبلغ في إيضاحها بأسهل العبارات، وأضم إلى ما في الأصل من الفروع والتتمات، والقواعد المحررات، والضوابط الممهدات) .

وحقاً إن القواعد نجدها متناثرة ومبددة في الشرح المذكور بحيث نيطت بها الفروع وعللت على أساسها الأحكام.

1.

ففي مواضع متعددة من الشرح أصَّل الفروع الكثيرة بناء على القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك) .

2.

ومن القواعد الشهيرة أيضاً: (الأصل في الأبضاع التحريم) فقد كثر فورعها في الكتاب في مواضع كثيرة مثلاً يقول: (إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا خلاف، سواء كن محصورات أو غير محصورات، لأن الأصل التحريم والأبضاع يحتاط لها، والاجتهاد خلاف الاحتياط) .

ص: 78

وأشار إلى نفس القاعدة، وقاعدة أخرى وهي ترجيح المحرم على المبيح عند اجتماعهما في قوله:(إن الأصول مقررة على أن كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه في المنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبية) .

3.

ومن أمثلة القواعد: ما ذكر نقلاً عن الإمام أبي محمد الجويني: (أنه إذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى) كما جاء في النص التالي:

(من فاته صلوات في زمن الجنون والحيض، فإنه لا يقضي النوافل الراتبة التابعة للفرائض، لأن سقوط القضاء عن المجنون رخصة مع إمكانه، فإذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى) .

4.

وكذلك القاعدة (الاستدامة أقوى من الابتداء) تناولها النووي في بعض المواضع من الشرح المذكور.

ومن فقهاء المالكية الإمام القرافي (684 هـ) رحمه الله فإنه كان ذا براعة فائقة وطراز نادر في ربط الفروع بأصولها، ومن المعلوم لدى الباحثين في الفقه الإسلامي أنه ألف الذخيرة في الفقه ثم استتبعه تأليف (الفروق) ولعل الثاني كان نتيجة للكتاب الأول حيث استصفى القواعد والضوابط والفروق التي عللت بها الفروع واستعملت كحجج فقهية في كثير من المواطن من (الذخيرة) مع التنقيح والزيادة وجمعت باسم الفروق بين القواعد.

ص: 79

فإن فكرة النزوع إلى التأليف على هذا الطراز استقرت عند القرافي بعد وضع لكتاب في فروع الفقه، وهذا مما يساند القول بأن المصادر الأولية الأصيلة للقواعد هي كتب الفقه ثم جرى الجمع والتدوين في مدونات مستقلة.

واستكمالاً لمسيرة الموضوع نسجل فيما يلي بعض النماذج من كتابه (الذخيرة) : جاء في بعض المواضع من كتاب الطهارة:

1.

ق: (الأصل ألا تبنى الأحكام إلا على العلم، لكن دعت الضرورة للعمل بالظن لتعذر العلم في أكثر الصور، فثبتت عليه الأحكام لندرة خطئه وغلبة إصابته، والغالب لا يترك للنادر وبقي الشك غير معتبر إجماعاً.

من الملاحظ في هذه القاعدة أنها تثبت العلم بغلبة الظن، وعدم الاعتبار بالشك مطلقاً، وأن النادر يُعد مغموراً لا عبرة به في جنب الغالب.

2.

ق: (إن كل مأمور يشق على العباد فعله سقط الأمر له، وكل منهي شق عليهم اجتنابه سقط النهي عنه) .

3.

ق: (إذا تعارض المحرم وغيره من الأحكام الأربعة قُدِّم المُحرَّم لوجهين: أحدهما: أن المحرم لا يكون إلا لمفسدة وعناية الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح) .

4.

ق: (الوسائل أبداً أخفض من المقاصد إجماعاً، فمهما تعارضتا تعين تقديم

ص: 80

المقاصد على الوسائل، ولذلك قدمنا الصلاة على التوجه إلى الكعبة لكونه شرطاً ووسيلة، والصلاة مقصد) .

وفي مطلع القرن الثامن الهجري برز على الساحة العلمية الإمامان ابن تيمية (728 هـ) ، وابن القيم (751 هـ) فظهر هذا اللون في كتبهما، ولا سيما ابن القيم فإنه كان يتمتع بعقلية تأتلف مع تقعيد القواعد كما يتبين ذلك في كل ما ألفه، وقد خلفت تلك الكتابات ثروة ثمينة في باب القواعد والظاهر أن من أتى بعدهما في هذا المذهب ودوَّن القواعد استقاها من كتبهما أو على أقل تقدير استفاد منها، وفيما يلي أقدم بعض النماذج التي ظفرت بها في كتب الإمامين.

أما الإمام ابن تيمية فالمصدر الأصيل من كتبه (مجموعة الفتاوى) التي تتضمن في طيَّاتها القواعد في موضوعات فقهية مختلفة، منها ما يلي:

1.

(الاستدامة أقوى من الابتداء) .

2.

(الإذن العرفي بطريق الوكالة كالإذن اللفظي) .

3.

(الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها) .

4.

(الحكم المقرر بالضرورة يقدر بقدرها) .

5.

(السؤال كالمعتاد في الجواب) .

6.

(العلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره للرضى) .

ص: 81

7.

(المجهول في الشريعة كالمعدوم، والمعجوز عنه) .

وقد قام بتتبع كثير من أمثال هذه القاعدة عند ابن تيمية الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في كتابيه (القواعد والأصول الجامعة، وطريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والأصول) انتقاها من المواضع المختلفة من عدة كتب، ولا يسعنا ذكرها في هذه العجالة القصيرة.

أما ابن القيم فمصدر القواعد عنده: (إعلام الموقعين) وبعض الكتب الأخرى: (كبدائع الفوائد) وبوجه عام ساقها في معرض الرد على المخالفين للقياس كما يظهر ذلك لمن مارس قراءة مباحث القياس في إعلام الموقعين، وفيما يلي نذكر بعض النماذج منها:

1.

(إذا زال الموجِب زال المُوجَب) ذكرها في فصل عنوانه: (طهارة الخمر بالاستحالة توافق القياس) . قال: (وعل هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس فإنها نجس لوصف الخبث، فإذا زال المُوجِب زال المُوجَب وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب) .

ص: 82

2.

(لا واجب مع عجزٍ ولا حرام مع ضرورةٍ) قال: (إن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر عليه الدخول في الصف ووقف معه فذاً، صحّت صلاته الحاجة، وهذا هو القياس المحض، فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها، وبالجملة ليست المصافة أوجب من غيرها، فإذا سقط ما هو أوجب منها للعذر، فهي أولى بالسقوط، ومن غيرها، فإذا سقط ما هو أجب منها للعذر، فهي أولى بالسقوط، ومن قواعد الشرع الكلية: أنه لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) .

3.

(إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع، كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) . قد ذكرها تحت (فصل) عنوانه: (إجارة الظئر توافق القياس) .

4.

(المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف) بناء على ذلك اتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزناً له فيه متاع لا ينقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة واحدة.

5.

(إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول) . وذلك كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل، وقد اطر هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث.

د الشرع الكلية: أنه لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) .

3.

(إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع، كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) . قد ذكرها تحت (فصل) عنوانه: (إجارة الظئر توافق القياس) .

4.

(المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف) بناء على ذلك اتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزناً له فيه متاع لا ينقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة واحدة.

5.

(إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول) . وذلك كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل، وقد اطر هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث.

د الشرع الكلية: أنه لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) .

3.

(إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع، كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) . قد ذكرها تحت (فصل) عنوانه: (إجارة الظئر توافق القياس) .

4.

(المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف) بناء على ذلك اتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزناً له فيه متاع لا ينقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة واحدة.

5.

(إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول) . وذلك كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل، وقد اطر هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث.

ص: 83

6.

(ما حُرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) كما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب من جملة النظر المُحرَّم.

7.

(إتلاف المتسبب كإتلاف المباشر في أصل الضمان) .

8.

(ما تبيحه الضرورة يجوز التحري فيه حالة الاشتباه، وما لا تبيحه الضرورة فلا) .

وعلى هذا المنوال ظل استعمال القواعد شائعاً ومُتبعاً في كثير من المصادر الفقهية الأصلية، وإلى هنا ينتهي الشوط الذي بدأناه بإمام الحرمين الجويني.

وفي نهاية المطاف يمكن أن نتوصل إلى النتائج التالية من خلال ما أسلفنا:

1.

إن القواعد الفقهية ثمرة اختمار الفقه ومسائله في الأذهان، فلا يخلو فقيه إلا ويتعرض للقواعد ويستأنس بها.

2.

قد بدت كلمات جامعة في كلام الأئمة الأقدمين، لها سمة القواعد في شمولها لأحكام فرعية عديدة، وهي تصلح أن تجري مجرى القواعد أو الضوابط بعد شيء من التعديل والتصقيل في الصياغة.

3.

تناثرت القواعد في المصادر الأولية من الحديث والفقه ثم تكثفت في الشروح أكثر من المتون لما فيها من كثرة الفروع.

4.

إن الكتب الفقهية هي المراجع الأولية التي استخلص منها المدونون تلك القواعد وجمعوها في كتب مستقلة، وذلك مما يدل أيضاً على رسوخهم في

ص: 84

الفقه واطلاع واسع على مصادره انتهى.

وإذا نظرنا إلى صيغ تلك القواعد وتتبعنا شيئاً عن تطورها التاريخي لرأينا أن عبارة القواعد الفقهية وصيغها في كتب المتقدمين تختلف عنها في كتب المتأخرين.

وذلك دليل واضح على تطور صيغ القواعد الفقهية وأساليبها والعبارات التي ورددت بها، ودليل على أن كثيراً من الصقل والتحوير طرأ على صيغ تلك القواعد وإضافة إلى ما سبق نقول:

أولاً: إن القواعد كانت تسمى عند المتقدمين أصولاً وأوضح مثال على ذلك ما أورده أبو الحسن الكرخي في رسالته المسماة بأصول الإمام الكرخي، حيث صدَّر كل قاعدة منها بلفظ:(الأصل) .

فمثلاً قال: الأصل أن من التزم شيئاً وله شرط لنفوذه فإن الذي هو شرط لنفوذ الآخر يكون في الحكم سابقاً، والثاني لاحقاً، والسابق يلزم للصحة والجواز.

وكذل ما أورده أبو زيد الدبوسي في كتابه تأسيس النظر حيث يصدر كل قاعدة بكلمة (الأصل) فمثلاً يقول: الأصل عند علمائنا الثلاثة أن الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الآحاد مقدم على القياس الصحيح، وعند مالك رضي الله عنه القياس الصحيح مقدم على خبر الآحاد. ح، وعند مالك رضي الله عنه القياس الصحيح مقدم على خبر الآحاد. ح، وعند مالك رضي الله عنه القياس الصحيح مقدم على خبر الآحاد. ح، وعند مالك رضي الله عنه القياس الصحيح مقدم على خبر الآحاد.

ص: 85

ثانياً: إن صيغ القواعد عند المتقدمين: في عبارتها طول وزيادة بيان بخلافها عند المتأخرين حيث امتازت بإيجاز عبارتها وقلة كلماتها مع استيعابها لمسائلها فهي من جوامع الكلم، ومن الأمثلة الدالة على ما دخل صيغ القواعد من تطور وصقل وتحوير (عدا ما هو من كتاب الله العزيز أو من سنة الرسول الكريم أو قول لصحابي أو تابعي أو أحد الأئمة مما جرى مجرى الأمثال) أقول من الأمثلة على ذلك: قول الإمام الكرخي: الأصل أن المرء يعامل في حق نفسه كما أقر به ولا يصدق على إبطال حق الغير أو إلزام الغير حقاً.

حيث عبَّر عنها المتأخرون بهذه العبارة الموجزة الجامعة وهي قولهم (الإقرار حجة قاصرة)، وكذلك ما أورده أيضاً الإمام الكرخي في تعبيره عن كون العادة أو العرف حجة قال: الأصل أن جواب السؤال يمضي على ما تعارف كل قوم في مكانهم، والأصل أن السؤال والخطاب يمضي على ما عمَّ وغلب لا على ما شذ وندر حيث جمع كل ذلك في عبارة في غاية الإيجاز وهي قولهم (العادة محكمة) .

ومثل هذه قوله أيضاً الأصل أنه إذا مضى بالاجتهاد لا يفسخ باجتهاد مثله ويفسخ بالنص. وعند المتأخرين قالوا (الاجتهاد لا ينقض بمثله) .

ص: 86