الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الثامنة:
وتحتها مسألتان:
المسألة الأولى:
يلاحظ الدارس للقواعد الفقهية أنها من حيث الأسلوب الذي صيغت به تلك القواعد ووردت به أنه إما أن يكون أسلوباً خبرياً، وإما أن يكون أسلوباً إنشائياً. وقد تجد قاعدة واحدة صاغها فقهاء مذهب ما بالأسلوب الخبري، وصاغها فقهاء مذهب آخر بأسلوب إنشائي، فعلام يدل ذلك الاختلاف في صيغ هذه القواعد؟
من خلال الدراسة لعدد من هذه القواعد تبين أن القاعدة الفقهية إذا وردت بصيغة الأسلوب الخبري فيكون ذلك إشارة إلى أن هذه القاعدة متفق على مضمونها بين العلماء، فمثلاً قاعدة:(الأمور بمقاصدها) وقاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) .
وأمثالها متفق على مضمونها بين علماء مختلف المذاهب، وقد يكون الاتفاق على مضمون القاعدة بين علماء مذهب معين، فمثلاً قاعدة:(العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني) وردت عند الحنفية بهذا الأسلوب الخيري، فدل ذلك على أن مضمونها متفق عليه بينهم، وقد أوردها الشافعية بهذا النص (هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟) كما أوردها الحنابلة بهذه الصيغة (إذا وصِل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها فهل يفسد العقد بذلك أو يجعل
كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه؟ فيه خلاف يلتفت إلى أن المغلب هل هو اللفظ أو المعنى؟) ثم من خلال المسائل التي أوردوها تمثيلاً رأينا أن مضمون هذه القاعدة ليس متفقاً عليه بينهم، بخلاف الحنفية والمالكية.
ولهذا نقول: إن القاعدة إذا وردت بالأسلوب الخبري فيكون ذلك دليلاً على أن مضمون هذه القاعدة ومدلولها متفق عليه بين العلماء سواء أكانوا علماء مذهب واحد أم أكثر. وأن القاعدة إذا وردت بالأسلوب الإنشائي فيكون ذلك دليلاً على أن مضمون القاعدة ليس متفقاً عليه بين العلماء سواء أكانوا علماء مذهب واحد أم أكثر.
وهذه المسألة كما ترد في القواعد ترد في الضوابط الفقهية، فمنها ما هو متفق على مدلوله فورد بالأسلوب الخبري، ومنه ما هو مختلف فيه فورد بالأسلوب الإنشائي.
المسألة الثانية:
من المؤلفين المُحدثين من يطلق لفظ (نظرية) إما على القاعدة الفقهية ذاتها كما قرر ذلك الأستاذ أبو زهرة رحمه الله في كتابه (أصول الفقه) حيث قال: (وإنه يجب التفرقة بين علم أصول الفقه وبين القواعد الجامعة للأحكام الجزئية، وهي التي في مضمونها يصح أن يطلق عليها: النظريات العامة للفقه الإسلامي) .
وقال الشيخ أحمد أبو طاهر الخطابي في مقدمة تحقيقه لقواعد الونشريسي متابعاً له في هذا:
(ا) النوع العام وهي تلك القواعد الجامعة لأحكام عدة من أبواب مختلفة
غالبا (يصح في مضمونها أن يطلق عليها بلغة العصر) النظريات العامة للفقه الإسلامي لاستيعابها أحكاماً لا تحصى في أقصر عبارة وأوسع دلالة.
ومنهم من يعتبر النظريات غير القواعد فهي (أي النظريات) أشمل موضوعاً وأوسع دلالة، ويدرج القواعد ضمن تلك النظريات.
قال أستاذنا الجليل الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا مد الله في عمره في الخير ونفع به ويعلمه قال في كتابه القيِّم (المدخل الفقهي العام) : نريد من النظريات الفقهية (تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى التي يؤلف كل منها على حدة نظاماً حقوقياً موضوعياً، وذلك كفكرة الملكية وأسبابها، وفكرة العقد ونتائجه) .
إلى أن يقول: إلى غير ذلك من النظريات الكبرى التي يقوم على أساسها صرح الفقه بكامله، ثم يقول: وهذه النظريات هي غير القواعد الكلية التي صدِّرت مجلة الأحكام العدلية الشرعية بتسع وتسعين قاعدة، فإن تلك القواعد إنما هي ضوابط وأصول فقهية تراعى في تخريج الحوادث ضمن حدود تلك النظريات الكبرى فقاعدة (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني) مثلا ليست سوى ضابط في ناحية مخصوصة من ميدان أصل نظرية العقد.
وتابعه في ذلك الدكتور محمد وهبة الزحيلي الأستاذ بكلية الشريعة، جامعة دمشق حيث ألف كتاباً تحت عنوان النظريات الفقهية ضمنه الحديث عن نظرية المؤيدات التأديبية ونظرية المؤيدات المدنية، ونظرية الأهلية والولاية، ونظرية العرف، وختم بالقواعد التي اعتبرها مرحلة ممهدة لجمع القواعد المتشابهة والمبادئ
العامة لإقامة نظرية عامة في جانب من الجوانب الأساسية في الفقه.
ما يراد بيانه هو ما هو موقع (نظرية) بالنسبة للفقه الإسلامي وقواعده وما صلتها به؟ وهل هي صادقة الدلالة على المراد منها بالنسبة للقواعد الفقهية والأحكام والأدلة الشرعية العامة؟ وهي يصح التعبير بها عما يراد لها أن تدل عليه من مفاهيم أو مدلولات فقهية؟
إن كلمة (نظرية) بالمعنى المراد لها عند من يطلقونها هي كلمة مستحدثة منقولة عن مصطلحات القانونين الوضعين الغربيين، ولم تطلق عند العلماء المسلمين على هذا المعنى الحادث، قال القاضي الباقلاني: النظر هو الفكر الذي يطلب به علم أو غلبة ظن. والمراد بالفكر انتقال النفس في المعاني انتقالاً بالقصد.
وقال في القاموس الوسيط: النظرية: قضية ثبتت ببرهان وقالوا: نظرية المعرفة: البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشخص والموضوع أو بين العارف والمعروف، وفي وسائل المعرفة فطرية أو مكتسبة. نظريات، وقالوا في اللغة أيضاً: الأمر النظري: هو ما كان وسائل بحثه الفكر والتخيل.
وعلوم نظرية: قل أن تعتمد على التجارب العملية ووسائلها.
والنظري عند العلماء المسلمين هو ما يحتاج إلى بحث ونظر وفكر، ويقابله الضروري وهو ما لا يحتاج إلى ذلك سواء التصور أم التصديق.
وقالوا عن معنى كلمة (نظرية) في علم الهندسة: هي مطلوب يبرهن على صحته (Proposition) أو هي القواعد الرياضية التي تنبني عليها دراسة الموضوع (Theory) وعند الفلاسفة: النظرية هي جملة تصورات مؤلفة تأليفاً عقلياً تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات.
وقالوا أيضاً: ÷ي فرض علمي يميل الحالة الراهنة للعلم ويشير إلى النتيجة التي تنتهي عندها جهود العلماء أجمعين في حقبة معينة.
وقالوا أيضاً: النظرية طائفة من الآراء تفسر بها بعض الوقائع العلمية أو الفنية.
فهل كلمة نظرية بهذه المعاني أو ببعضها تؤدي المعنى الذي تؤديه كلمة: القاعدة أو الأصل؟ وهل لنا أن نطلق على ما ثبت بطريق الشرع وبالأدلة الشرعية كلمة (نظرية) التي وضعها من وضعها للدلالة على ما توصلت إليه عقولهم وأفكارهم من مبادئ وقواعد؟
إن علماءنا السابقين رحمهم الله تعالى عندما قعدوا هذه القواعد وأصلوا هذه الأصول أرادوا بها أن تكوِّن أسساً وأصولاً وقواعد تبنى عليها أحكام ثابتة لمسائل واضحة، ولذلك أعطوها اسماً هو الأصول وآخر هو القواعد دلالة على رسوخها في معانيها ودلالتها كرسوخ أسس البناء وثباتها واعتماد ما يبنى عليها.
وأما النظرية (فكما عرفنا) هي مشتقة من النظر الذي يراد به هنا البحث العقلي ويعبر عنه بالنظري، وهو ما يتوقف حصوله على نظر واكتساب كتصور النفس والعقل، وقد يكون ما يتوصل إليه عن طريقه حقاً وصدقاً وقد يكون باطلاً وكذباً وخطأً.
أقول على سبيل التمثيل: نحن معشر المسلمين ما عرفنا الملكية عن طريق النظر والبحث العقليين، إنما عرفناها عن طريق الشرع الذي علمنا به أن الله سبحانه قد منح عباده حلق الملكية والتملك، وأنزل أسس ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أقرب الأدلة عل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرضِ جميعاً) . البقرة، آية (29) .
فالملكية حق لبني آدم منحة من عند الله سبحانه وتعالى وأدلة ثبوت ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جداً.
وكذلك ما يلق عليه (نظرية العرف) ، أليس العرف دليلاً شرعياً تبعياً عند أكثر الأصوليين والفقهاء وثبت اعتباره حجة في كثير من الأحكام بأدلة شرعية كثيرة من الكتاب والسنة؟
فلم لا يقال دليل العرف ولم يقل نظرية العرف؟
والعرف لم يعرف اعتباره حجة إلا عن طريق الشرع.
وكذلك حق العقد والتعاقد لا نظرية العقد، ومثل ذلك (واجب الالتزام) لا نظرية الالتزام.
لا يفهم من ذلك أن النزاع في ذات المصطلح لأن لكل أحد أن يضع مصطلحاً خاصاً به للدلالة على أمر مخصوص عنده، ولكن النزاع في أمرين:
الأول منهما: أن هذه المصطلحات وإن أُريد منها أن تدل على ما أرادوه هي مصطلحات مستوردة ليست نابعة من صلب فقهنا وشرعنا الذي يجب كما أعتقد أن يكون خالصاً من كل شائبة تقليد لغيرنا.
والأمر الثاني: هو دلالة هذه المصطلحات على موضوعاتها، فهل تدل كلمة نظرية على حقيقة المصطلح الفقهي التي وضعت عنواناً له، عدا عن أن تكون أدل على المقصد الفقهي، من الكلمة النابعة من صلب الفقه الإسلامي وأصوله؟ والله أعلم.