الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
الاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م
2/ 1 - بداية الغدر وتنصير مسلمي غرناطة (1492 - 1502 م):
بعد استيلائه على غرناطة وقضائه على آخر دولة إسلامية بالأندلس عين فراندو وزوجه إيسابيلا الكونت دي تانديا حاكمًا على غرناطة، وعينا إيرناندو دي طلبيرة مطرانًا لها وكان قبل ذلك مطرانًا لآبلة. وأوصاهما بالرفق بأهل غرناطة والتقريب بين العناصر واحترام بنود معاهدة الاستسلام، وبدأ الأمر وكأن الملكين الكاثوليكيين على نية احترام تعهدهما.
أما أهل غرناطة فقد اختلف مصيرهم حسب ثباتهم على الإسلام وإمكانياتهم.
وأما السلطان أبو عبد الله فقد استقر في أندرش مع أتباعه وأهله بعد تسليمه غرناطة، وكأنه في مملكة صغيرة. غير أن الملكين الكاثوليكيين لم يكونا مرتاحين لبقائه بالأندلس ويفضلان خروجه منها.
ففي مارس سنة 1493 م وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين السابقين أبي القاسم المليخ ويوسف ابن كماشة وبين فراندو دي صفراء أمين الملكين الكاثوليكيين على الشروط التي يغادر بها السلطان أبو عبد الله وحاشيته الأندلس إلى المغرب.
وتوصل الاتفاق بتعهد السلطان أبي عبد الله بالعبور إلى المغرب في موعد أقصاه أكتوبر سنة 1493 م، وتنازله عن جميع ضياعه في أندرش وباقي مناطق البشرات وجميع أملاكه في غرناطة وغيرها مقابل ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف دوقة قشتالية من الذهب الخالص، كما قبل التنازل عن جميع اختصاصاته، على أن يحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان الكاثوليكيان عربيتين لحمل متاعه وسفنًا ينتقل فيها مع أهله وحاشيته إلى المغرب. ووقع هذا الاتفاق بتاريخ 15/ 4 /
1492 م. كتب الاتفاق بالقشتالية وذيله بالموافقة السلطان أبو عبد الله بالعربية بخط يده بعبارات ذليلة مؤلمة. وكانت زوجة أبي عبد الله قد توفيت في أندرش، فغادر في أوائل أكتوبر سنة 1493 م بأهله وأتباعه من ثغر عذرة، كما غادر في الوقت نفسه عدد كبير من وزرائه وقواده ميناء المنكب إلى ميناء مليلة بالمغرب، ومنه إلى حاضرة فاس. كان عدد من هاجر مع السلطان أبي عبد الله إلى فاس 1132 شخص. وكان سلطان المغرب آنذاك أبو عبد الله الوطاسي.
وهاجر في السنين الأولى من احتلال القشتاليين لغرناطة عدد جم من كبار أهلها وقوادها وفقهائها وعلمائها وساداتها وأعيانها، وباعوا أملاكهم لكبار القشتاليين المحتلين. فعبر بنو سراج إلى فارس، وعبر أشراف المرية إلى وهران ومنها إلى تلمسان، وأشراف الجزيرة الخضراء إلى طنجة، وأعيان رندة وبسطة إلى أحواز تطوان، كما هاجر أعيان لوشة وبعض أهل غرناطة ومرشانة وجبال البشرات إلى قبيلة غمارة بالمغرب، وجاز أعيان بيرة وبرجة وأندرش إلى منطقة طنجة، وأعيان بليش إلى سلا، وأعيان طريف إلى آسفى وآزمور، كما هاجرت أعداد كبيرة إلى بجاية وتونس وقابس وصفاقص وسوسة والمشرق.
وهاجر أحد قواد الجيش الأندلسي الغرناطي أبو الحسن علي المنظري إلى جنوب سبتة واستأذن من سلطان المغرب إعادة تأسيس تطوان التي كانت خربة. فأذن له سنة 898 هـ (أواخر 1492 م). فأعاد تعميرها بعدد كبير من المهاجرين الغرناطيين الذين حصنوها حتى أصبحت ملاذًا للمهاجرين الأندلسيين ما يقرب من قرن ونصف وحصنًا ضد الغزو النصراني من حصون المغرب الثابتة.
واعتنق النصرانية طواعية بعد الاحتلال جماعة من الأمراء والأعيان. فقد تنصر الأميران سعد ونصر ابنا السلطان أبي الحسن كما رجعت أمهما ثريا إلى دينها النصراني فأصبحت تعرف باليزابيث دي سوليس، وغير اسم الأمير سعد إلى"دوق فراندو دي غرناطة" وعمل قائدًا في الجيش القشتالي، وأصبح الأمير نصر"دون خوان دي غرناطة". وتنصر الأمير يحيى النيار ابن عم أبي عبد الله الزغل وقائد المرية عقب تسليمه المرية وتسمى بـ"دون بدرو دي غرناطة"، وتنصرت زوجته وتنصر ابنه علي تحت اسم "دون ألونسو دي غرناطة بنيغش" وتزوج وصيفة الملكة الكاثوليكية. وتنصر معظم آل بنيغش بما فيهم الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش. وتنصر الوزير يوسف بن كماشة وأصبح راهبًا، وغيرهم كثير.
لكن الكنيسة الكاثوليكية حاربت بقوة سياسة الاعتدال الأولى. وكان لها في إسبانيا آنذاك نفوذ عظيم على الدولة، كما كانت توجه من طرف البابا إسكندر السادس. وكان الرهبان يتأججون حقدًا على الإسلام والمسلمين، وأكبر آمالهم هو سحق دين الإسلام. فعملوا على إقناع الدولة بأن لا خلاص لها إلا بتنصير المسلمين عن رضى أو قهر. وكان الملكان الكاثوليكيان يشاركان الكنيسة هذا الرأي، وما كانت العهود التي قطعاها لتعوقهما عن الغدر. وهكذا لم تمر على احتلال غرناطة أكثر من بضع سنين حتى بدت أهداف الدولة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية واضحة جلية.
كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كتدرائية. ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقًا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية. وكان ظنهم أول الأمر أن المسلمين سيعتنقون النصرانية بسهولة، خاصة عندما هاجر زعماؤهم وارتد الكثير من كبارهم.
ولما مرت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة تلو الأخرى.
وهكذا تغيرت سياسة الدولة فجأة، إذ استدعى الملك فراندو الكاردينال فرانسيسكو خيمنس دي سيسنيروس سنة 1499 م، مطران طليطلة، ليعمل على تنصير المسلمين بصرامة أكبر. فوفد على غرناطة في شهر يوليوز من السنة نفسها، ودعا مطرانها الدون إيرناندو دي طلبيرة إلى اتخاذ وسائل فعالة لتنصير المسلمين.
فأمر بجمع فقهاء مدينة غرناطة والمدن الأخرى ودعاهم إلى ترك الإسلام واعتناق النصرانية ليكونوا أسوة لغيرهم، وأغدق المنح على من قبل ذلك وهدد بالوعيد والعقوبة لمن رفض. فضعف بعضهم وقبل التنصير وتبعهم بعض العامة. وتمركز التنصير في حي البيازين من أحياء غرناطة الشعبية، وحول جامعها الأكبر إلى كنيسة "سان سلباطور".
ثم ركّز سيسنيروس على المسلمين من أصول نصرانية (ويسميهم البعض العلوج) وقرر أن كل من ارتد عن النصرانية يعامل هو وأبناؤه وأحفاده وسلالته معاملة المرتدين، فاحتج المسلمون من أصل نصراني بأن معاهدة غرناطة صريحة نحوهم وأنهم مسلمون لا فرق بينهم وبين غيرهم من المسلمين. فبدأ أعوان سيسنيروس بملاحقة العائلات المسلمة من أصل نصراني والزج بها في السجون
رجالاً ونساء وأطفالاً إن رفضوا التنصير. وكان الفتيل الذي أشعل الثورة في حي البيازين في 18/ 12 / 1499 م انتهاك شرطة سيسنيروس لحرمة إحدى المسلمات من حي البيازين التي اعتنق والدها الإسلام، فسيقت للسجن هي وأولادها. فتجمع المسلمون لحمايتها وقتلوا الشرطي وحرروا المرأة وهرب القسس. ثم انطلق المسلمون ينادون بالثورة للحفاظ على عقيدتهم، فاحتلوا أبراج البيازين وأقاموا المتاريس. وفي الليل هاجم الثوار قصر سيسنيروس قرب الحمراء فلم يكن فيه إذ فر قبل ذلك إلى الحمراء. ثم نظم الثوار أنفسهم وانتخبوا حكومة من أربعين ممثلاً.
فأرسلت الحكومة جيشًا لإخماد الثورة، ففضل رئيسه المفاوضة مع الثوار ووعدهم بالوعود المعسولة. وعنف الملكان الكاثوليكيان سيسنيروس على عدم لباقته، وتركا المفاوضة في يد دي طلبيرة، كاردينال غرناطة. فتعامل مع الثوار باللين، وقدم لهم زوجته وعائلته رهائن ضمانًا على حسن نيته، ووعدهم بقبول كل مطالبهم وعدم متابعتهم. فهدأ الثوار واستسلموا، وذلك عشرة أيام بعد بداية الثورة. وقد نقضت تلك الاتفاقات كلها بعد هدوء الثورة.
ورفض الاستسلام عدد من قواد الثورة، فهرب منهم قرابة 1500 رجل، وتحصنوا بقلعة قولجر بجبال البشرات حيث أعلنوا من جديد الثورة في شهر يناير عام 1500 م، وانتخبوا إبراهيم بن أمية رئيسًا لهم. وبدؤوا يقومون بحملات ضد الحاميات الإسبانية في مرج غرناطة. فانضم إليهم كثير من المجاهدين. فأرسل لهم الملكان الكاثوليكيان جيشًا تحت رئاسة القائد تانديلا بعد أن استولى الثوار على عدة حصون جبلية وأخرى شاطئية. فحاصر الجيش بلدة قولجر وقتل جميع من وجد بها من نساء وأطفال وشيوخ. ودافع الثوار قدر جهدهم، ولما استسلموا استرقوا جميعًا. ثم تحركت قوة إسبانية من 5000 رجل نحو عذرة وكاستل فيرو وبنيول التي بقيت تحت يد الثوار على شاطىء البحر.
فلم يفلح الجيش في إزاحتهم. ثم استولى الثوار على معظم قرى ومدن البشرات، من أندرش شرقًا إلى لانجرون غربًا. فتوجه الملك بجيش ضخم مكون من 80.000 راجل و 15.000 فارس، فمر من وادي الإقليم وحاصر مدينة لانجرون، ثم احتل قرى البشرات الأخرى إلى أن وصل إلى مدينة أندرش التي استبسلت استبسالاً منقطع النظير قبل أن تستسلم. وأخيرًا خمدت ثورة البشرات في أواخر فبراير عام 1500 م، بعد أن تعهد الملكان الكاثوليكيان باحترام بعض شروط معاهدة تسليم غرناطة.
وعندما استعمل القسس مع أهل منطقة المرية لتنصيرهم نفس العنف الذي عاملوا به أهل غرناطة، قامت الثورة في جبال فلابرش شمال المرية. وبلغت الثورة أشدها في شهر نوفنبر عام 1500 م، فطرد الثوار القسس واحتلوا الحصون الجبلية وتمركزوا في مدينة بلفيق. فأرسل الملك جيشًا لقمع الثورة، قاتله الثوار المسلمون قتالاً شديدًا حتى اضطروا إلى الاستسلام. فقضى الملك الكاثوليكي بقتل جميع رجال بلفيق وسبي النساء والأطفال ومصادرة جميع الأموال. وهكذا عمد قهرًا ما تبقى من أهالي جبال فلابرش ونهر المنصورة المجاور. ثم ثار بعد ذلك سكان ثلاثة من قرى وادي المنصورة، فأُخضعوا بالقوة. ثم ثارت مدينة عذرة مرة أخرى، فهاجمها الجيش وحاصرها حصارًا طويلاً حتى دخلها، فاسترق جميع أهلها.
ثم توبعت سياسة التنصير القسري في منطقة رندة، فقامت الثورة في جبالها من يناير إلى أبريل عام 1501 م، وانتخب المجاهدون سليم الأزرق رئيسًا لهم. فأرسل الملكان جيشًا لإخماد الثورة، فهزم الثوار الجيش في بللونقا وقتلوا رئيس الحملة الدون الفونسو دي أغيلار، قتله مجاهد اسمه الفهري. فأرسل الملكان جيشًا أكبر لمفاوضة الثوار، فوقع الاتفاق في 14/ 4 / 1501 م بإنهاء الثورة على أن يهاجر القواد إلى المغرب ويعمد الباقون بالقوة.
وفي هذه الأثناء تابعت الكنيسة والدولة سياستهما في التنصير القسري. وفي أواخر يوليوز ذهبت الملكة إيزابيلا إلى غرناطة لمتابعة عمليات التنصير والإشراف عليها. ووقعت الدولة مع جميع قرى ومدن مملكة غرناطة مراسيم تجبر الأهالي فيها على التنصير مقابل معاملتهم ماليَّا مثل معاملة النصارى القدامى. وهكذا تم تعميد أهالي طبرنش في 18/ 9 / 1500 م وبسطة في 30/ 9 / 1500 م وأشقر في 26/ 1 / 1501 م الخ
…
وفي نفس هذه المواثيق يمنع النصارى الجدد من ذبح الحيوانات على الطريقة الإسلامية ومن أن يلبس رجالهم أو نساؤهم اللباس الإسلامي، وأجبروا على تغيير أسمائهم الإسلامية وحتى تقاليدهم وعاداتهم بعادات وتقاليد نصرانية، وسمح لهم مؤقتًا باستعمال الحمام والاغتسال (ولم يكن النصارى يغتسلون). ولم تنته سنة 1500 م حتى عم التنصير جميع أنحاء مملكة غرناطة القديمة من رندة إلى المرية مرورًا بوادي آش وبسطة والبشرات. ثم صدر قرار بتحويل جميع المساجد إلى كنائس ومصادرة جميع الأوقاف الإسلامية، وفي 12/ 10 / 1501 م صدر مرسوم بحرق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة، أكبر ساحات
غرناطة، ثم تتابع حرق الكتب إلى أن وصل عدد ما حرق منها حوالي مليون كتاب.
فكانت هذه الجريمة من أكبر جرائم الكنيسة والدولة الإسبانية في الأندلس وفي حق الحضارة الإنسانية. وتتابعت في نفس السنة المراسيم التعسفية بمنع استعمال اللغة العربية. وصدر قرار في سبتمبر يمنع"المتنصرين الجدد" من حمل السلاح وامتلاكه، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة ولثاني مرة بالإعدام.
ثم استغاث الأندلسيون مرة أخرى بالعالم الإسلامي، فلا من يجيب! استغاثوا أولاً بسلطان المغرب أبي عبد الله محمد بن يحيى الوطاسي، ثم بسلطان مصر، الأشرف قانصو الغوري (المماليك البرجيون). فأرسل الأشرف رسولاً إلى الملكين
الكاثوليكيين يهددهم بإجبار النصارى الذين تحت حكمه على الإسلام إذا لم يعطوا الأندلسيين حرية بقائهم على دين الإسلام. فأرسل الملكان الكاثوليكيان سفيرهما له أقنعه بسهولة أن المسلمين بالأندلس بخير وأن حقوقهم مضمونة. ففضل الأشرف تصديق ادعاءات الملكين الكاثوليكيين عوضًا عن نصرة إخوانه المستضعفين، والاستيقاظ على الواقع الأليم الذي وضحه له المبعوثون الأندلسيون.
ثم استغاث الأندلسيون بالسلطان بايزيد العثماني في المرة الأولى سنة 1499 م.
لكن بايزيد كان مشغولاً بخلافات أسرته، فاكتفى بإرسال كتاب إلى الملكين الكاثوليكيين، لم يعملا به، واستغاث الأندلسيون بالسلطان بايزيد مرة ثانية سنة 1502 م، فلم تأت هذه الاستغاثة بنتيجة. وهذه الاستغاثة هي عبارة عن وثيقة شعرية من 103 بيت يصف فيها كاتبها المجهول وضع الأندلسيين وصفًا مؤثرًا، إذ يقول مستهلاًّ بعد بضعة أبيات:
سلام عليكم من عبيد تخلّفوا
…
بأندلس بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحر من الروم زاخر
…
وبحر عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم
…
مصاب عظيم يالها من مصيبة
ثم يقول:
غُدرنا ونصّرنا وبدّل ديننا
…
ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة
وكنّا على دين النبي محمد
…
نقاتل عمال الصليب بنيّة
ثم يقول:
فلما دخلنا تحت عقد ذِمامهم
…
بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة