الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
طرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م)
5/ 1 - قرار الطرد سنة 1608 م:
في 30/ 1 / 1608 م اجتمع مجلس الدولة بكامل أفراده، ووافق بالإجماع على طرد المورسكيين جميعًا من الأراضي الإسبانية. ووافق على هذا القرار هذه المرة أعضاء المجلس الذين ترددوا في اتخاذه من قبل، فرجعوا في رأيهم وساندوه. وكان دوق ليرما رئيس المتحمسين في اتخاذ قرار الطرد بحجة فشل كل حملات التنصير في مملكة بلنسية، وساند رأي ريبرا في إرسال الشباب المورسكي للتجديف فوق السفن، والنساء إلى شمال إفريقيا، والأطفال لبيوت النصارى القدامى. وظهر له أن الوقت أصبح مناسبًا لإنجاز هذا الطرد بسبب أوضاع الدولة العثمانية والمغرب. واقترح جمع السفن التي تنقل المطرودين في مختلف الموانىء، دون إعلان السبب. وقال:"بما أن محاكم التفتيش متعودة على القبض على كثير من المورسكيين، فيمكنها بهذه المناسبة القبض على زعمائهم لإزالة حمايتهم للجماهير المورسكية ورجاحة رأيهم".
وبقي على المجلس النظر في حل مشكلة الخسارة المادية التي ستلحق بالنبلاء بسبب طرد خدامهم المورسكيين في مملكة بلنسية. ففكر المجلس في ضرورة تعويضهم بسخاء بأموال المورسكيين المطرودين. ولم يتكلم بتفصيل في جلسات المجلس هذه إلا عن طرد مورسكيي بلنسية. وأما مورسكيي مملكة أراغون القديمة (سرقسطة)، فقد قرر المجلس إرسال كتب في الوقت الراهن إلى نبلائها لإخبارهم بعدم حدوث أي قرار جديد في أمرهم. أما فيما يخص مورسكيي مملكة قشتالة (بما فيها الأندلس)، فقد رأى المجلس أن "إخراجهم من جبال البشرات كان خطأ كبيرًا، وكان الضرر أقل لو تركوا هناك عوضًا عن توزيعهم على كل أنحاء المملكة. وعند الانتهاء من طرد مورسكيي بلنسية يمكن النظر في إمكانية إرجاعهم إلى البشرات أو
توزيعهم على النصارى القدامى، مع منعهم من الحصول على أملاك ثابتة أو الاتجار أو الحصول على وظائف تساعدهم على إلحاق الضرر بالدولة".
ولم تطبق الدولة هذا القرار إلا بعد مضي سنة كاملة على اتخاذه، لأنها أرادت تهيىء الجو وترتيب الوضع قبل تطبيق قرار في هذه الأهمية. ومع أنه من حق ملوك إسبانيا اتخاذ أي قرار يؤثر على أملاك وأرواح رعاياهم، في إطار نظام الملكية المطلقة حينذاك، فإنهم لم يستعملوا في الماضي هذا الحق إلا في حالات فردية. لذا فضل الملك فليبي الثالث، لأسباب انتهازية، أن يكون قراره في طرد طائفة بكاملها من رعاياه مبنيًّا على حكم قضائي، على الأقل ظاهرًا، ناتج عن دولة يسودها العدل، حتى يبين للجميع أن الأندلسيين طردوا من إسبانيا نتيجة حكم "عادل" لكونهم "كفرة" بالدين النصراني و"خونة" للدولة الإسبانية.
أما "كفرهم" فلا يمكن أن تشهد به إلا الكنيسة الكاثوليكية وبما أن بابا روما رفض إصدار قرار بتكفير جماعي لكل المورسكيين، رفع الملك الموضوع إلى لجنة كنسية. وفي 22/ 11 / 1608 م، اجتمعت اللجنة في بلنسية برئاسة نائب الملك لمملكة بلنسية وعضوية ماركيز قرسينة وأساقفة سقربة وبلنسية وأريولة وطرطوشة.
وتتابعت اجتماعات اللجنة حتى مارس سنة 1609 م. ولم توافق اللجنة على قرارات مجلس الدولة الأعلى ولا على رأي رئيس الأساقفة، بل أوصت بمتابعة مجهودات التنصير باللين، ومطالبة البابا بفترة عفو جديدة تدوم عدة سنوات تتوقف إبانها محاكم التفتيش عن متابعة المورسكيين. ولم يعجب الملك رأي المجلس الكنسي الذي عينه إذ لم يتماشى مع ميله إلى الطرد، لهذا "فإن الملك الكاثوليكي، وقد رأى أنه من أجل الوصول إلى نتيجة غير أكيدة وجب عليه المرور بكل هذه الأتعاب، وإذا لم يطبق قراره المقدس في طرد المورسكيين فسيكتسبون الوقت اللازم لإنجاز خياناتهم وقراراتهم في القضاء على إسبانيا، ولإنجاز أمر الطرد فقد أمر بالإسراع بتنفيذ رأي دوق ليرما".
ويتبين من هذا أن دوق ليرما هو الرجل القوي وراء قرار الطرد، وأن الملك لم تعد تهمه المجادلات الدينية، فهو قرر أن المورسكيين مسلمين وأنهم خطر على الدين والدولة. ويتلخص خطرهم على الدولة في علاقاتهم مع ثلاث دول، هي فرنسا والمغرب والدولة العثمانية. ومما يزيد تخوف الدولة الإسبانية من المورسكيين إظهار عواطفهم نحو المسلمين في الخارج، فكانوا يحتفلون لانتصارات الدولة العثمانية على
النصارى ويحزنون لنكساتها، كما كانوا يفرحون لانهزامات إسبانيا على يد أعدائها، كانهزام بحريتها على يد الإنجليز، ويتعاطفون مع بروتستانت جنوب فرنسا الذين كانوا كذلك ضحايا القمع الكاثوليكي.
أما علاقة المورسكيين مع فرنسا، فقد رأينا تخوف فليبي الثاني من مسلمي مملكة أراغون القديمة، خاصة بعد سنة 1580 م، ففي سنة 1588 م، أمر بتحصين الحدود بين أراغون القديمة وبيارن الفرنسية، وبين مملكة أراغون القديمة ومملكة بلنسية، حتى يعزل مسلمي أراغون القديمة عن البرتستانت الفرنسيين (الهوكونو) وعن المسلمين البلنسيين. ورغم تحول هنري دي بوربون، زعيم الهوكونو، إلى الدين الكاثوليكي عندما أصبح ملكًا على فرنسا تحت اسم هنري الرابع، فقد بقي على عدائه لإسبانيا، وتابع علاقته بالمورسكيين، وأصبحت الدولة الإسبانية تنظر إلى علاقة هنري الرابع بالمورسكيين بتخوف أكبر، إذ أصبحت سياسة لدولة مجاورة ومنافسة.
وفي سنة 1602 م، فكر الهوكونو في مساعدة مسلمي أراغون على الثورة، فأرسل دوق دي لافورس، حاكم البيارن الفرنسية، مرسولاً اسمه سانسيستبان إلى بلنسية للاتصال بفرنسي يسكنها اسمه مرتين دي إيريوندو بصفته وسيطًا بين الهوكونو والمورسكيين. وشكل المورسكيون لجنة مكونة من خمسة ممثلين لتمثيلهم في المفاوضة مع الفرنسيين بهدف تهيىء ثورة مورسكية شاملة. ثم أرسلت اللجنة ميغيل ابن الأمين، أحد أفرادها، إلى الملك هنري الرابع. وأخذ ابن الأمين معه للملك الفرنسي تقريرًا يشتكي فيه المورسكيون من سوء معاملة محاكم التفتيش التي تضاعف ضرائبها على المورسكيين بأخذ ريالين من كل رب بيت، وتستولي على أموالهم.
وبيّن التقرير ضعف الوجود العسكري الإسباني في مملكة بلنسية وسهولة تنظيم ثورة إسلامية شاملة بكل سرية، لقلة الوجود النصراني في القرى الإسلامية. لذا، يؤكد المورسكيون في تقريرهم إلى الملك الفرنسي، إذا وصلت البحرية الفرنسية إلى مرفأ دانية وزودت المورسكيين بالسلاح، فسيمكنهم تسليح 60.000 رجل، ويصبح بذلك تحرير بلنسية من الإسبان شيئًا مؤكدًا. كما أكدوا في التقرير مقدرتهم على تسليح 40.000 رجل من مسلمي أراغون القديمة. وأكد التقرير أنه في حالة إبحار فرنسي، فسيجد الفرنسيون مساندة ليس من المسلمين فقط، بل حتى من اليهود والبروتستانت والكاثوليك غير الراضين على الأوضاع.
وفي سنة 1603 م، افتضحت المحاولة المورسكية عند موت الملكة إيسابيلا، ملكة إنكلترا، التي حاولت فرنسا الحصول على مساندتها في غزو إسبانيا. وخلف إيسابيلا على الملك جاكوب الأول الذي وقع معاهدة صداقة مع إسبانيا، وقدم للملك فليبي الثالث جميع الوثائق الخاصة بعلاقته مع المسلمين البلنسيين، كعلامة على حسن نيته. وكان المطلوب من إنكلترا أن تهجم ببحريتها على جليقية، بينما يثور مسلمو بلنسية وأراغون القديمة، وتغزو فرنسا إسبانيا عبر الحدود المشتركة بحجة حمايتهم.
لكن هذا المخطط فشل بموت الملكة إيسابيلا.
عاد ميغيل بن الأمين من فرنسا بعد انتهاء مهمته، مصحوبًا برسول من دوق دي لافورس، اسمه دي بانيسو، وتوجها إلى بلنسية مختفين في زي تاجرين. وفي ديسمبر عام 1605 م، عقد زعماء المورسكيين اجتماعًا في بلدة توغة حضره 66 ممثلاً عنهم وعشرة جزائريين وميغيل بن الأمين ودي بانيسو. انتخب المورسكيون في ذلك الاجتماع لويس عسكر رئيسًا عليهم، وهو مسلم من بلدة الأقواس بمملكة بلنسية، وخططوا للثورة يوم الخميس المقدس من سنة 1605 م حيث يثور عشرة آلاف مسلم يساندهم الفرنسيون المقيمون في بلنسية، فيحرقون الكنائس ويستولون على مدينة بلنسية، وفي نفس الوقت تصل ميناء الغراو أربع سفن فرنسية محملة في الظاهر بالقمح وفي الحقيقة بالأسلحة للثوار. وعند سقوط مدينة بلنسية، يحتل الثوار باقي مملكتها، ثم إسبانيا كلها. هكذا رجع بانيسو بهذا المخطط إلى فرنسا. لكن أحد المشتركين في الاجتماع أوصل الخبر إلى السلطات الإسبانية، فقبضت على أكثر زعماء المورسكيين الذين حضروا الاجتماع، وعذبتهم حتى اعترفوا، ثم أعدمتهم.
يبدو أن هنري الرابع لم يكن جادًا في مساعدة مسلمي بلنسية على الثورة، بل أراد فقط الاحتفاظ بعلاقته معهم في حالة قيام حرب بينه وبين إسبانيا. أما الدولة الإسبانية، فقد كانت تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، لكن رغبة الوزير دوق دي ليرما في طرد المورسكيين كانت بدافع طمعه في مالهم أكثر من مصلحة الدولة الإسبانية أو الكنيسة.
أما العلاقة مع المغرب، فقد رأينا معاملة أحمد المنصور للمجاهدين الأندلسيين الذين انتصر المغاربة بفضلهم على الجيوش البرتغالية (مع المتطوعين الإسبان) في معركة وادي المخازن، وكيف أعدم زعماءهم مباشرة بعد الانتصار وبيعته، وأرسل بآلاف الأندلسيين عبر الصحراء عوضًا عن الدفاع عن الأندلس، وكيف تحالف مع
الإسبان ضد الدولة العثمانية والمصالح العليا للمسلمين في المغرب والأندلس. لذا لم يكن الأندلسيون في إسبانيا والمغرب يأملون منه خيرًا.
وإثر وفاة السلطان أحمد المنصور سنة 1603 م، تقاتل أبناؤه الثلاثة (أبو محمد الشيخ المأمون، وأبو المعالي زيدان الناصر، وأبو فارس عبد الله الواثق) على خلافته، فأدخلوا المغرب في محن لا توصف من الحروب الأهلية والتجزئة مما جعله ضحية سهلة للأطماع النصرانية.
كان المأمون ولي عهد أحمد المنصور، لكن بعد وفاة المنصور، بايع أعيان فاس وعلماؤها ولده زيدان، بينما بايع أهل مراكش ولده أبا فارس. فاندلعت الحرب بين زيدان والمأمون وانتهت بهزيمة زيدان واستيلاء المأمون على فاس. ثم توالت الحروب بين الأخوة الثلاثة وانتهت في آخر المطاف سنة 1608 م بانتصار زيدان على أخويه واستيلائه على المغرب بأجمعه. وقتل في هذه الحروب أبو فارس. وفر المأمون بأهله وولده إلى إسبانيا مستنصرًا بها ضد زيدان. فوعده فليبي الثالث بالمساندة على استرجاع ملكه مقابل تنازله لإسبانيا عن ثغر العرائش المغربي. وفعلاً استرجع المأمون ملكه بمساعدة إسبانيا وسلم لها العرائش بعد أن أجلى أهلها عنها بالقوة، وكان ثغر العرائش قد أصبح مركزًا للجهاد البحري الأندلسي ضد إسبانيا. كما غدر المأمون بالأندلسيين عندما طلبوا معونته في الثورة، فأوصل الخبر إلى فليبي الثالث، وكان مصيره أن قتله الأندلسيون قرب تطوان في رجب سنة 1022 هـ (1613 م).
وفي بداية هذه الأحداث أرسل مورسكيو بلنسية رسلهم إلى زيدان يخبرونه بعلاقات المأمون بفليبي الثالث، ويطلبون منه تحرير الأندلس، ويحاولون إقناعه بسهولة ذلك، ويؤكدون استعدادهم لتقديم ستين ألف مقاتل متى أبحر جنوده في أحد الثغور الإسبانية. لكن السلطان زيدان لم يهتم بهذا العرض، ولم يحرك ساكنًا. ولما علمت الدولة الإسبانية بالخبر، ازدادت حقدًا على مسلمي الأندلس عامة ومسلمي مملكة بلنسية خاصة.
وفي هذه الحقبة، اقتصرت علاقة الدولة العثمانية مع المورسكيين على الهجوم المتواصل على شواطىء الأندلس الشرقية ومملكة بلنسية لإنقاذ الراغبين فى الهجرة إلى الجزائر. وكانت الدولة العثمانية منشغلة بحروبها مع الدولة الصفوية في إيران شرقا.
وهذا هو ما رأته الدولة الإسبانية من الجو الدولي المناسب في طرد المورسكيين: فالمغرب مشغول في حروبه الداخلية، والدولة العثمانية مشغولة في حربها مع الصفويين في حدودها الشرقية، وإنكلترا عقدت معاهدة صداقة مع إسبانيا، وفرنسا لن تهاجم إسبانيا بمفردها.
إذا كان قرار إسبانيا المصرح به في طرد المورسكيين يعود لاتهامهم بعدم الإخلاص للديانة النصرانية والدولة الإسبانية، فهناك سبب ثالث لم يذكر إلا قليلاً، وذكره الشهاب الحجري، أحد المورسكيين المهاجرين إلى المغرب في هذه الحقبة، والذي كتب بلغة عربية تكاد تكون دارجة، إذ أجاب إبان سفارته لهولاندا عن سبب طرد المورسكيين بما يلي:"اعلم أن (أهل) الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى، ولكن يظهر عليهم الإسلام ويحكمونه فيهم. ولما تحقق منهم ذلك لم يأمن فيهم ولا كان يحمل منهم أحدًا إلى الحروب، وهي التي تفني كثيرًا من الناس. وكان أيضًا يمنعهم من ركوب البحر لئلا يهربوا إلى أهل ملتهم، والبحر يفني كثيرًا من الرجال. وأيضًا في النصارى كثيرون قسيسون ورهبان ومترهبات، وبتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل. وفي (أهل) الأندلس لم يكن فيهم قسيسون ولا رهبان ولا مترهبات، إلا جميعهم يتزوجون ويزداد عددهم بالأولاد وبترك الحروب وركوب البحر. وهذا الذي ظهر على إخراجهم لأنهم بطول الزمن يكثرون".
ومنذ سنة 1608 م، ابتدأت الإشاعات بقرب قرار الطرد تنتشر، وأخذ المورسكيون القادرون على الهجرة يبيعون ممتلكاتهم ويهاجرون في ظروف أفضل من الطرد القسري. وهكذا عبرت أعداد كبيرة من المورسكيين البحر إلى شمال إفريقيا، وعبرت أعداد أخرى جبال ألبرت إلى فرنسا. وأزعجت هذه الهجرة الدولة الإسبانية لأنها تود طرد المورسكيين دون أموالهم. لذا طلب مجلس الدولة بتاريخ 24/ 6 / 1608 م، من ممثله:"الكتابة إلى نائب الملك بقطلونية فيما يخص المورسكيين الذين يمرون عبر فرنسا، يجب التعرف عليهم إذا كان من بينهم أغنياء يختفون، فينبغي احتجازهم وحراستهم وأخذ ما لديهم من مال. أما الفقراء فيخلى سبيلهم، لأنه كلما قل عددهم بيننا كلما كان ذلك أفضل" ولكن عددًا كبيرًا من أغنياء المورسكيين نجحوا في الإفلات من جرائم الطرد المفاجىء الذي سيحدث للباقين.