الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي 17/ 3 / 1808 م، بينما كان الجيش الفرنسي يتقدم نحو بلدة أرانخويز الملكية، جنوب مجريط، قامت مظاهرة شعبية كبيرة وخلعت الملك كارلوس الرابع الذي كان يفكر في الفرار مع وزيره قودوي، ونصبت ابنه خلفًا له تحت اسم فراندو السابع. لم يعترف مورات، رئيس الجيش الفرنسي الغازي، بخلع كارلوس الرابع، بل أرسله هو وابنه إلى نابليون في بلدة بايون على حدود إسبانيا. الذي خلعهما ونصب أخاه جوزيف بونابارت ملكًا على إسبانيا. وفي 8/ 5 / 1808 م، ثار الإسبان ضد الجيش الفرنسي وبدؤوا حرب تحرير شعبية، فتمردت أشتورياش وأراغون وجليقية على السلطات المتعاونة مع الفرنسيين، ثم انضمت كل الولايات إلى الثورة.
وتكون مجلس للثورة (كورتس) برئاسة فلوريدا بلانكا اي جوفلانوس، واجتمع في قادس بالأندلس. لم يتصرف جوزيف بونابارت وقواده بحكمة أمام هذه الثورة، بل واجهوها بالنهب والسلب والقتل، فتعطلت الإدارة، وتشتتت السلطة، وعادت إسبانيا إلى عادتها من استقلال الولايات في مواجهة العدو الغازي. وأخذ الكورتس الثوري يخطط لمستقبل إسبانيا: تحرير إسبانيا من تسلط الكنيسة مع احترام الدين، إلغاء محاكم التفتيش؛ تحديد أملاك الكنيسة الكاثوليكية؛ إعلان السيادة الوطنية؛ تفريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ ضمان الحريات الأساسية؛ إنشاء مجلس بالانتخاب العام لمدة سنتين يوافق بالأكثرية على مشروعات الميزانية؛ إلغاء الملكية المطلقة وتعويضها بالملكية الدستورية مع حق النقض للملك؛ تنظيم الولايات. وفي 6/ 8 / 1811 م، اتخذ الكورتس الثوري قرارًا بإلغاء امتيازات النبلاء. وهكذا أدى الغزو الفرنسي إلى ثورة اجتماعية في إسبانيا غيرت طريقة تنظيم المجتمع الإسباني.
وفي سنة 1814 م، نجحت الثورة بانهزام فرنسا، ورجوع فراندو بن كارلوس الرابع إلى بلنسية ثم إلى مجريط، فاستقبلته الجماهير وأعادته ملكًا على إسبانيا تحت اسم فراندو السابع. وكان أول عمل قام به هو إلغاء الإصلاحات التي تقدمت بها كورتس قادس الثورية، ومتابعة المتعاونين مع فرنسا والطبقة المتحررة والمفكرة، فأعاد إسبانيا إلى تعصبها القديم.
7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين:
رأينا أن طرد المسلمين من إسبانيا سنة 1609 م لم يكن جماعيًّا، خاصة في الأندلس حيث بقي معظم سكانها ذوي أصول إسلامية أندلسية، منهم من لم
يخرج أصلاً من الأندلس، ومنهم من عاد إليها بعد خروجه منها. وفي سنة 1612 م، أعفي الكوندي دي سلازار، الرجل الذي كان وراء الطرد، من مناصبه، بعد أن تمت المرحلة الأساسية من إجراءات الطرد، وأسندت القضايا المتعلقة بالمورسكيين إلى مجلس قشتالة. لكن المتطرفين عارضوا هذا القرار، خوفًا من رجوع كثير من المورسكيين أو بقاءهم دون ملاحقة. لذا أصدر الملك لائحة بتاريخ 20/ 4 / 1613 م يقول فيها: "نظرًا لعودة كثير من المورسكيين إلى هذه الممالك، وعدم خروج أحد ممن تخلفوا، وبما أني أرى من المناسب، لخدمة الله وخدمتي ولمصلحة هذه الممالك، إتمام هذه المهمة (أي طرد المورسكيين)
…
فإنني قررت تكليف الكوندي دي سالازار من جديد بمتابعة كل ما يخص هذا الطرد، إلى جانب ما كان مكلفًا به". وكلف الملك الكوندي دي سالازار بحل كل القضايا المتعلقة بـ "استعجال وحسم"، كما أمر الملك السلطات المدنية بوضع هذه القضايا بين يدي سالازار، وسمح له بمراجعة التصاريح المعفية للطرد التي أعطيت لعدد من المورسكيين.
واستعمل الكوندي دي سالازار السلطات التي حصل عليها من الملك أسوأ استعمال لتعصبه ضد المورسكيين وعداوته لهم، مما أدى بالملك إلى الرغبة في انتهاء الموضوع، فأصدر أمرًا بتاريخ 19/ 4 / 1614 م، وزعه دوق ليرما على نواب الملك في المقاطعات، جاء في أهم نقاطه ما يلي:"أ - لقد انتهت عملية الطرد (المورسكيين). فنظرًا لما حدث مؤخرًا في مملكة مرسية ولأسباب عدلية حدثت في لجنة الكوندي دي سالازار فإن الأمر قد وصل إلى نهايته".
"ب - لتؤمر محاكم هذه الممالك وأراضي النبلاء بألا يقبل، من اليوم فصاعدًا، أي موضوع للمورسكيين قديم أو جديد، عدا ملفات الذين رجعوا منهم بعد طردهم أو سيرجعون. فهؤلاء يبحث عنهم، ويعاقبون بكل صرامة وجدية. ولتقم كل محكمة في منطقتها بالبحث عن المورسكيين العائديين. وإن اكتشفت أحدهم، فإن كان عمره يسمح له بالخدمة بالتجذيف في السن فليحكم عليه بذلك، وإن كان امرأة أو عجوزًا أو لا يصلح للخدمة في السفن لسبب آخر، يجلد 200 جلدة وتصادر أملاكه ويطرد من جديد. ويعاقب نفس العقوبة (الجلد والمصادرة والطرد) الذين يحكم عليهم بالتجذيف في السفن بعد نهاية مدة خدمتهم. وإذا ما طبقت العقوبة على أحدهم
وطرد، ثم عاد إلى هذه الممالك أو إلى أراضي النبلاء، يحكم عليه بالإعدام وتصادر أمواله، ويطبق عليه ذلك بكل جد ودون تهاون".
"ج - ورغم الأمر بعدم قبول قضايا جديدة، فليطرد من البلاد الذين أنهوا عقوبتهم بعد أن حكمت عليهم المحاكم من قبل، كما يطرد من اشتهروا بأنهم مورسكيون وأدرجوا في لوائح المورسكيين، والذين خرج آباؤهم وإخوانهم ولم يخرجوا لأنهم اختفوا، لأنه لا يجوز أن يستفيد المتمردون بما لم يستفد به المطيعون".
يبين هذا القرار حرص الحكومة على إنهاء موضوع الطرد والتذكير على متابعة المورسكيين الذين رجعوا بعد طردهم والمشهور بكونه موريسكي دون سواهما من الفئات. وتدل عبارة "مشهور" على حرص الحكومة الإسبانية على طرد وجهاء المورسكيين المتخلفين دون غيرهم.
وفي نفس القرار، عين الملك الكوندي دي سالازار مفتشًا عامًا مكلفًا بتطبيقه.
وفي 27/ 6 / 1614 م، اتصل دوق ليرما بنواب الملك، بما فيهم القائم على أراغون القديمة، يخبرهم بتوصله بأوامر الكوندي دي سالازار، ويطلب منهم البقاء على صلة وثيقة به لإنهاء موضوع طرد المورسكيين.
وتجددت حملات مطاردة المورسكيين في إسبانيا، خاصة في منطقة طرطوشة بقطلونية، لدرجة أدت إلى تقديم شكوى من طرف نائب الملك إلى الملك من تصرفات الكوندي دي سالازار والماركيز دي المازان لأنهما حاولا طرد مورسكيي طرطوشة للاستيلاء على ممتلكاتهم.
فأجاب الملك فليبي الثالث كاتبًا: "لقد أمرت نائب الملك بألا يزعجوا، بل يتركوا ليستفيدوا بحرية من النعمة التي أنعمتها عليهم، ولتكتبوا إلى المطران ليستقصي وضعهم ويعطي رأيه في تركهم".
لا تدل الوثائق على تنفيذ حكم الإعدام على من قبض عليه من المورسكيين المتخلفين، لكن عوقبوا بما هو أصعب من الإعدام الفوري، وهو الخدمة في مناجم "المعدن" في ظروف قاسية كانت دائمًا تنتهي بالموت البطيء.
وفي 6/ 2 / 1615 م، أرسل الكوندي دي سالازار رسالة إلى دوق ليرما تظهر تفكيره جليًّا، إذ قال: "وأني حريص على الحرص بأن لا نتراجع فيما قمنا به أحسن
قيام، وهو طرد المورسكيين من إسبانيا، بتركهم يرجعون إليها، لذا أقوم بالإمكانيات البسيطة التي بقيت لي على تتميم هذا العمل تتميمًا جيدًا
…
فلقد كلمت نائب الملك في أراغون في أهمية طرد مورسكيي طركونة
…
وكذلك مورسكيي جزيرة ميورقة والذين التحقوا بهم من مملكة مرسية ومناطق أخرى بما مجموعه ستون بيتًا
…
ومورسكيي جزيرة سردانية
…
وكناريا.
أرجو من معاليكم أن تأمروا بتطبيق القرار الذي اتخذه".
وفي 24/ 9 / 1616 م، كتب دوق ليرما إلى نواب الملك في مملكة أراغون يأمرهم بطرد ما تبقى من المورسكيين بالاتصال بالكوندي دي سلازار:"حتى تبقى جميع هذه الممالك نظيفة من هؤلاء الناس كما يجب".
وخلف فليبي الثالث ابنه فليبي الرابع (1621 - 1665 م)، فلم يهتم بموضوع المورسكيين كثيرًا. وفي 22/ 10 / 1621 م، توصل مجلس أراغون بتقرير أرسله إلى الملك بدرو آلوس، مفتش الأملاك الملكية في قطلونية وتوابعها، اشتكى فيه آلوس للملك من وجود أعداد كبيرة من المورسكيين في كل ممالك أراغون، بلنسية وأراغون القديمة وقطلونية: بعضهم لم يخرج أصلاً، والبعض رجع، وأنهم يعيشون في سلام وطمأنينة، تحميهم شخصيات كثيرة ذات نفوذ، "مما يضر بجلالتكم ويضر بممتلكاتكم التي يقدر ثمنها بأكثر من مائتي ألف دوقة ذهبية، معظمها على شكل
أموال جارية يصلح استعمالها من طرف جلالتكم في الحملات العسكرية. وحيث يوجد هؤلاء المورسكيون بأعداد كبيرة، يكون من الأفضل استخدامهم في التجذيف على السفن، فتنتهي بذلك البطالة بين الأهالي (النصارى) الذين يدافعون عنهم لمصلحتهم، إذ يعمل المورسكيون في الزراعة ويتركونهم (أي النصارى) يقومون بأعمال أخرى". كما ادعى آلوس أن لهؤلاء المورسكيين علاقات وثيقة بالأتراك والمغاربة.
ولم يأبه فليبي الرابع بهذه الشكوى ولا بغيرها من الشكاوي التي قدمت إليه في هذا الشأن. وكان يعتقد، هو وحاشيته، أن قرار الطرد كان خاطئًا ومضرًّا بإسبانيا، فاتسم بالواقعية، ولم يعد يرى فيمن تخلف من المورسكيين أي خطر يستحق الذكر.
وساد الكورتس نفس الشعور، إذ أعلن سنة 1623 م بأنه "ارتكبت عدة تجاوزات بحجة عودة بعض المورسكيين؛ لذا يرجى من صاحب الجلالة بأن يأمر بألا يعاد إلى ارتكاب هذه الأمور من الآن فصاعدًا، وأن تنتهي كل التحقيقات التي لا زالت متعلقة
بهذه المواضيع، ولا تقبل أية شكاوي جديدة لا بشأن الموجودين الآن في هذه الممالك ولا بشأن من يقال إنهم رجعوا، باستثناء الذين يعيشون أقل من عشرة فراسخ من موانىء البحر". وكتب الملك مجيبًا على هامش هذا الطلب:"ليس من المناسب أن يتم هذا بقانون. وأمر صاحب الجلالة المجلس بأن يكتب رسائل للولاة يطالبونهم بالتساهل في هذه الأمور".
وفي سنة 1624 م، ألح مجلس الكورتس على نفس الطلب، فأجاب الملك
مرة أخرى بأنه من غير المناسب إجراء قانون خاص بهذا الموضوع، ولكن الأنسب أن تُأمر المحاكم بعدم قبول اتهامات جديدة في شأن المورسكيين، وبأن تتابع المتهمين لا كمورسكيين ولكن كمتسكعين.
وركز الوشاة بصفة خاصة على أهالي منطقة قلعة رباح التي تعد تابعة للأندلس الطبيعية. وقد عاد إلى هذه المنطقة معظم المورسكيين الذين هجروا منها، غير عابثين بالعقوبات القاسية التي تهددتهم، ومنهم من رفع قضايا أمام المحاكم محتجين بالامتيازات التي مُنحوها في السابق. ففي عام 1625 م، تقدم بدرو دي جبينس، عن نفسه وعن جماعة من مورسكيي منطقة قلعة رباح، برسالة إلى الملك يشتكي فيها من طريقة طرده وتجريده من ممتلكاته دون سماع ما عساه أن يقول، ودون إعطائه الوقت الكافي للدفاع عن نفسه. وجاء في الرسالة:
"وأخيرًا، يا صاحب الجلالة، أمرتم في رسالتكم من مجريط بتاريخ 25/ 6 / 1624 م بعدم طرد المتأصلين من المدن الخمسة (التابعة لقلعة رباح) لأنهم من سلالة أشخاص منحوا امتيازات خاصة. وعوضًا عن أن تنفذ لهم تلك الامتيازات، فإنهم يُشتمون ويُسخر منهم وتُلغى شهاداتهم بحجة أنهم طردوا فحُسبوا ممن شملهم أمر الطرد، كل ذلك بهدف إهانتهم". ثم طلب بدرو دي جبينس من الملك في الرسالة إعادة امتيازاته وامتيازات من وكله من المورسكيين، وقبولهم في الوظائف العامة دون تحيز، كما نبه جبينس الملك بأن عددًا كبيرًا من مورسكيي قلعة رباح يخدم في الجيش:"ويوجد الآن منهم في المليشيات عدد كبير، كقبطان الفلاندرس دييكو لوبيز صارميانتو وأخيه القبطان ألونسو، ومن بينهم خمسون عسكريًّا (أي من مورسكيي قلعة رباح)، ومنهم قساوسة وقانونيون وراهبات حافيات". وأعطى مجلس قشتالة، التي تتبعها منطقة قلعة رباح، بعد دراسة هذه الشكوى، رأيه كالتالي: "نظرًا لقلة سكان تلك الممالك، يرجى من صاحب الجلالة أن يُبقي
على الامتيازات التي أعطيت للنصارى الجدد (أي المورسكيين) الذين يسكنونها".
وصدرت موافقة ملكية بذلك، ولم يعد أحد يزعج مورسكيي قلعة رباح.
وفي سنة 1625 م، نشرت بلدية إشبيلية تقريرًا حول مسلمي منطقتها، الأحرار والعبيد. يشير التقرير إلى وجود "عدد كبير" من المسلمين والمسلمات الذين انتقلوا إلى داخل البلاد حيث منعوا من الإقامة على الشواطىء، وأنهم يجتمعون في جماعات عديدة ويعيشون في المزارع المجاورة لإشبيلية، ويتجرون بالمواد التي تحتاج إليها المدينة. ويتهم التقرير المورسكيين بسرقة الأطفال لتعليمهم العقيدة الإسلامية، ويقول إنه توجد في إشبيلية أعداد كبيرة من المورسكيين الأحرار الذين اندمجوا بين أهاليها دون أن يزعجهم أحد.
وفعلاً تركزت سياسة الحكومة حينذاك على عدم إزعاج المورسكيين. ففي سنة 1626 م، صدر بيان واضح بذلك في مجريط يقول:"لقد صدر من المجلس الملكي في الأيام الأخيرة قرار يأمر بأن لا يتجرأ أحد على الإساءة للمورسكيين الذين بقوا في البلاد وأن لا يسبب لهم أي ضرر ما داموا يعيشون في مناطق تبعد عشرين فرسخًا عن السواحل البحرية".
وفي سنة 1626 م، اشتكى فرانسسكو مالدونادو، وهو مسؤول في غرناطة، من كثرة العبيد المسلمين في غرناطة قائلاً:"إنه من المزعج جدًّا ترك هذا العدد الكبير من المسلمين في الأندلس، ومنهم من هو منصر، وكلهم "كرتادو" (أي عبيد يعملون بحرية ويدفعون مغرمًا دوريًّا لأسيادهم)، ويدفعون أجورًا (لأسيادهم)، ويقومون بأعمال البلدة الدنيئة كنقل القمح والخمر، والإتيان بكراسي الجلوس، وكحمالين، والاتجار بالأشياء الصغيرة، كلها أعمال تأتي بمال كثير دون جهد كبير. وهم لا يعملون في الحقول، ولا يربون المواشي، وهي أعمال تحتاج أيدي عاملة كثيرة.
وهذا يجعلهم يحصلون على مكاسب كبيرة تمكنهم في ظرف سنين قليلة من عتق أنفسهم بما لا يزيد عن 200 دوقة، ويتركون قدرًا يسيرًا لكي لا يطردوا حسب القانون". وقد نبّه التقرير بأن المشكلة كبيرة بصفة خاصة في بلدة لوشة (مقاطعة غرناطة) مما جعل الكورتس يوافق على إخراج العبيد المسلمين المحررين من لوشة.
وفي سنة 1628 م، عندما لخصت كالعادة الشروط المطلوبة لتأجيل دفع الضرائب، اشترط على منطقة الأندلس بأن لا يكون فيها مسلمون "كورتادو"، منصرين كانوا أم لا. ولكن لم تأخذ الأندلس هذا الشرط بعين الاعتبار.