المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م): - انبعاث الإسلام في الأندلس

[علي المنتصر الكتاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديم

- ‌مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني

- ‌مقدمة المؤلِّف

- ‌الفصل الأولنشأة وسقوط دولة الإسلام في الأندلس

- ‌1/ 1 - الأمة الأندلسية وتكوينها:

- ‌1/ 2 - قيام مملكة غرناطة:

- ‌1/ 3 - جهاد مملكة غرناطة المتواصل:

- ‌1/ 4 - اتحاد الممالك النصرانية:

- ‌1/ 5 - الحرب الأهلية وسقوط غرناطة:

- ‌مراجع الفصل الأول

- ‌الفصل الثانيالاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م

- ‌2/ 1 - بداية الغدر وتنصير مسلمي غرناطة (1492 - 1502 م):

- ‌2/ 2 - محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا:

- ‌2/ 3 - ذروة اضطهاد المسلمين 1502 - 1567 م:

- ‌2/ 4 - وضع المسلمين في مملكتي البرتغال وقشتالة:

- ‌2/ 5 - وضع المدجنين في مملكة أراغون:

- ‌مراجعالفصل الثاني

- ‌الفصل الثالثثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م)

- ‌3/ 1 - تهيىء الثورة:

- ‌3/ 2 - إعلان الثورة وبيعة ابن أمية:

- ‌3/ 3 - انتشار الثورة واستشهاد ابن أمية:

- ‌3/ 4 - مراحل الثورة تحت قيادة ابن عبو:

- ‌3/ 5 - الانهزام والاستسلام:

- ‌مراجعالفصل الثالث

- ‌الفصل الرابعالتشتيت وزيادة القهر (1570 - 1608 م)

- ‌4/ 1 - إخراج المورسكيين من مملكة غرناطة:

- ‌4/ 2 - أوضاع المسلمين في مملكة قشتالة من سنة 1570 م إلى سنة 1608 م:

- ‌4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون من سنة 1570 م إلي سنة 1608 م:

- ‌4/ 4 - علاقات مسلمي إسبانيا الخارجية من 1570 م إلى 1608 م:

- ‌4/ 5 - التفكير في الطرد:

- ‌مراجع الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامسطرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م)

- ‌5/ 1 - قرار الطرد سنة 1608 م:

- ‌5/ 2 - طرد مسلمي مملكة بلنسية:

- ‌5/ 3 - طرد مسلمي أراغون القديمة وباقي مملكة أراغون:

- ‌5/ 4 - مسلمي مملكة قشتالة:

- ‌5/ 5 - المورسكيون المطرودون في مناطق هجرتهم:

- ‌مراجعالفصل الخامس

- ‌الفصل السادسديموغرافية المورسكيين وحياتهم الاجتماعية

- ‌6/ 1 - ديموغرافية المورسكيين:

- ‌6/ 2 - حياة المورسكيين الدينية:

- ‌6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية:

- ‌6/ 4 - حياة المورسكيين الاقتصادية:

- ‌6/ 5 - الثقافة المورسكية:

- ‌مراجعالفصل السادس

- ‌الفصل السابعاستمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر

- ‌7/ 1 - إسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر:

- ‌7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين:

- ‌7/ 3 - معاملة محاكم التفتيش:

- ‌7/ 4 - مؤامرات وثورات:

- ‌7/ 5 - شواهد الرحالة:

- ‌مراجعالفصل السابع

- ‌الفصل الثامنتكوين القومية الأندلسية (في القرنين التاسع عشر والعشرين)

- ‌8/ 1 - إسبانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين:

- ‌8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية:

- ‌8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م):

- ‌8/ 4 - بروز الحركة الأندلسية ودور بلاس إنفانتي:

- ‌8/ 5 - تطور الحركة الأندلسية: إسلام بلاس إنفانتي واستشهاده:

- ‌مراجعالفصل الثامن

- ‌الفصل التاسعانبعاث القومية الأندلسية 1975 - 1990 م

- ‌9/ 1 - دكتاتورية فرانكو (1939 - 1975 م):

- ‌9/ 2 - رجوع الديموقراطية وانبعاث القومية الأندلسية:

- ‌9/ 3 - إنشاء منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

- ‌9/ 4 - رموز منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

- ‌9/ 5 - إحصائيات الأندلس المعاصرة:

- ‌مراجعالفصل التاسع

- ‌الفصل العاشرالانبعاث الإسلامي على مفترق الطرق (منذ سنة 1970 م)

- ‌10/ 1 - الجمعيات الإسلامية للوافدين:

- ‌10/ 2 - الطريقة الدرقاوية في غرناطة:

- ‌10/ 3 - جمعية قرطبة الإسلامية:

- ‌10/ 4 - محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس:

- ‌10/ 5 - محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس:

- ‌مراجعالفصل العاشر

- ‌الفصل الحادي عشرالجماعة الإسلامية في الأندلس

- ‌11/ 1 - الأيام الأولى في إشبيلية:

- ‌11/ 2 - الإنطلاقة من إشبيلية:

- ‌11/ 3 - النكسة والانطلاقة الجديدة:

- ‌11/ 4 - العودة إلى قرطبة:

- ‌11/ 5 - العلاقة مع الشتات الأندلسي:

- ‌مراجعالفصل الحادي عشر

- ‌الفصل الثاني عشرالشتات الأندلسي اليوم

- ‌12/ 1 - الأندلسيون في المغرب:

- ‌12/ 2 - الأندلسيون في تونس:

- ‌12/ 3 - الأندلسيون في باقي القارة الإفريقية:

- ‌12/ 5 - الأندلسيون في باقي أوروبا وأمريكا:

- ‌مراجعالفصل الثاني عشر

- ‌خاتمة

- ‌ملحق معاهدة تسليم غرناطة المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين

- ‌المادة الأولى:

- ‌المادة الثانية:

- ‌المادة الثالثة:

- ‌المادة الرابعة:

- ‌المادة الخامسة:

- ‌المادة السادسة:

- ‌المادة السابعة:

- ‌المادة الثامنة:

- ‌المادة التاسعة:

- ‌المادة العاشرة:

- ‌المادة الحادية عشر:

- ‌المادة الثانية عشر:

- ‌المادة الثالثة عشر:

- ‌المادة الرابعة عشر:

- ‌المادة الخامسة عشر:

- ‌المادة السادسة عشر:

- ‌المادة السابعة عشر:

- ‌المادة الثامنة عشر:

- ‌المادة التاسعة عشر:

- ‌المادة العشرون:

- ‌المادة الحادية والعشرون:

- ‌المادة الثانية والعشرون:

- ‌المادة الثالثة والعشرون:

- ‌المادة الرابعة والعشرون:

- ‌المادة الخامسة والعشرون:

- ‌المادة السادسة والعشرون:

- ‌المادة السابعة والعشرون:

- ‌المادة الثامنة والعشرون:

- ‌المادة التاسعة والعشرون:

- ‌المادة الثلاثون:

- ‌المادة الحادية والثلاثون:

- ‌المادة الثانية والثلاثون:

- ‌المادة الثالثة والثلاثون:

- ‌المادة الرابعة والثلاثون:

- ‌المادة الخامسة والثلاثون:

- ‌المادة السادسة والثلاثون:

- ‌المادة السابعة والثلاثون:

- ‌المادة الثامنة والثلاثون:

- ‌المادة التاسعة والثلاثون:

- ‌المادة الأربعون:

- ‌المادة الحادية والأربعون:

- ‌المادة الثانية والأربعون:

- ‌المادة الثالثة والأربعون:

- ‌المادة الرابعة والأربعون:

- ‌المادة الخامسة والأربعون:

- ‌المادة السادسة والأربعون:

- ‌المادة السابعة والأربعون:

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م):

أراضي الأهالي ووزعت على طبقتين من المستفيدين: الكنيسة والنبلاء، وكلاهما من الشمال النصراني. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وزعت أراضي شاسعة على أجانب فرنسيين وإنكليز. فأصبحت أرض الأندلس في يد عدد صغير من الملاك الأجانب عن الأندلس، بينما ظلت الجماهير الأندلسية، المنحدرة من أصول إسلامية، تعمل دون أرض، وتعيش مآسي الاستغلال والحرمان. ففي أوائل القرن العشرين، كان واحد في المائة من أصحاب الأرض في الأندلس يملكون 42 في المائة منها.

وفي شريش، يملك ثلاثة في المائة من أصحاب الأرض 67 في المائة منها. وتتوزع 45 إلى 81 في المائة من المزارع الغنية بمناطق إشبيلية وأطريرة وأستجة وقرمونة على الملاك الغرباء.

وأدى هذا الوضع إلى مشكلة أخرى، وهو أن الملاك، الكنيسة والنبلاء، الذين يملكون أراضي الأندلس ومزارعها ومناجمها، لا تربطهم بها رابطة، فينقلون ما يستثمرونه من أرضها إلى مناطق أخرى في إسبانيا لبناء المصانع واستثمار الأموال. لذا نرى حتى اليوم أن اقتصاد منطقة الأندلس اقتصادًا استعماريًّا، تصدر فيه الأندلس المواد الأولية المعدنية والزراعية إلى باقي إسبانيا، ثم تعود إلى شرائها منها مصنوعة بأغلى الأثمان. فتصدِّر بذلك عمل أبنائها، الذين يضطرون إلى الهجرة إلى قطلونية وأوسكادي ومجريط للعمل في أحطِّ المِهَن، لدرجة أصبح يكوِّن فيها الأندلسيون اليوم النصف الأكثر فقرًا من سكان قطلونية، ونسبة كبيرة من سكان أوسكادي ومجريط، وأصبح عدد الأندلسيين في إسبانيا، خارج الأندلس يساوي عددهم في الأندلس (سبعة ملايين). كما اضطر عدد كبير من الأندلسيين إلى الهجرة إلى غرب أوروبا، يشاركون إخوانهم المغاربة مرارة الغربة وصعوبة العيش، وكذلك العنصرية والاضطهاد. وأصبحت من أهم أنشطة الأندلس السياحة الجماعية التي غيرت شكل سواحلها وثقافة أبنائها، والصناعة الملوثة التي نشرت الخراب والمرض في كثير من مناطقها كمنطقة ولبة.

رأينا إذن أن جميع المعالم الجغرافية والإثنية واللغوية والحضارية والأخلاقية والاقتصادية المعاصرة للشعب الأندلسي كلها ذات جذور إسلامية، فمتى شعر الأندلسيون المعاصرون بهوية خاصة بسببها؟

‌8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م):

ظل الشعور بالانتماء الأندلسي دفينًا في نفوس أهل الأندلس دون تعبير واضح إلى أن غزت، سنة 1808 م، جيوش نابليون الفرنسية إسبانيا، بما فيها الأندلس،

ص: 269

وعاثت فيها فسادًا، فانهارت أمامها مقاومة الملك والنبلاء والحكومة والدولة في مجريط، وتركوا البلاد لمصيرها. فقامت الشعوب الإسبانية تدافع عن نفسها، كل شعب من جهته يعود في نضاله إلى أصالته. وثار أهل الأندلس ضد الغزو الفرنسي كأندلسيين. وفي 14/ 7 / 1808 م، استسلمت لهم البحرية الفرنسية في قادس. وفي 19/ 7 / 1808 م، كسبت المقاومة الأندلسية معركة مصيرية في بايلن (مقاطعة جيان) ضد الجيش الفرنسي. وفي 17/ 12 / 1808 م، تكونت حكومة سرية في إشبيلية تحت اسم "المجلس الأعلى المركزي" اعترفت بها كل قوى المقاومة في البلاد كممثل عنها. وبعد سنتين من المقاومة المتواصلة، عمت المجاعة مقاطعات الأندلس.

واستطاعت مدينة قادس تحرير نفسها رغم الحصار الذي فرضه الفرنسيون عليها ورغم غاراتهم البحرية والبرية المتواصلة. وصمد سكان قادس بمساعدة إنكلترا، فخططوا مع المقاومين الأندلسيين الآخرين لبناء إسبانيا جديدة بعد خروج الفرنسيين، وذلك بكتابة دستور جديد للبلاد، عرف فيما بعد بدستور قادس، أعلن في 19/ 3 / 1812 م. جعل هذا الدستور إسبانيا مملكة دستورية، وحدّ من سلطات الملك والكنيسة، وقرر الديموقراطية في المعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسبانية، واعترف، لأول مرة، بالأندلسيين كإحدى الشعوب الإسبانية ذات الشخصية المميزة. ظل دستور قادس مطلب الحركات التصحيحية في إسبانيا طوال القرن التاسع عشر.

وفي سبتمبر سنة 1812 م، اضطر الفرنسيون إلى الرحيل تاركين وراءهم الفقر والخراب. لكن الملك فراندو السابع سرق ثورة الأهالي بعد رجوعه، وخيب آمالهم، فألغى دستور قادس الذي لم ير نور التطبيق قط، وعاد إلى النظام المركزي والاستبدادي البالي من تحكم الكنيسة وقشتالة في البلاد بأكملها.

وفي 1/ 1 / 1820 م، اندلعت الثورة من "لاس كبساس دي سان خوان"(مقاطعة إشبيلية) بقيادة رفائيل دل رييغو، طالب الثوار فها بالعودة إلى دستور قادس. فانضمت إليهم القوات العسكرية في إشبيلية وقادس وشريش وباقي الأندلس. ثم انضمت إلى الأندلس مناطق إسبانيا الأخرى. وفي 7/ 3 / 1820 م، اضطر الملك فراندو السابع ومجلس الكورتس إلى قبول دستور قادس على مضض.

وفي سنة 1821 م، حاول خوزي مورينو كيرا إعلان جمهورية قادس، وتحويل الأندلس إلى جمهورية مستقلة.

ص: 270

ولم يكن فراندو السابع مخلصًا في قبوله لدستور قادس، فاستغاث بالكنيسة وبالفرنسيين فاتحدا وكونا قوة غزت إسبانيا من بلدة "بايون" تحت صرخات:"عاش الملك المستبد عاش الدين (يعني الكاثوليكي) عاشت محاكم التفتيش". واجتمع جيش من اليمينيين قوامه أربعون ألف رجل استطاع أن يطرد مساندي دستور قادس والقبض على رييغو، قائد الثورة. وفي 3/ 10 / 1823 م، أصدر الملك أمرًا بالعودة إلى ما قبل 7/ 3 / 1820 م، وألغى بذلك دستور قادس. فثار الأهالي في إشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية، وهجموا على محكمة التفتيش وحطموا آلات التعذيب بها.

وفي 28/ 2 / 1831 م، قام الجنرال طريخوس بحركة عسكرية للمطالبة بدستور قادس، فأنزل قواتًا بحرية قرب الجزيرة الخضراء. لكنه اضطر إلى الالتجاء إلى جبل طارق حيث اتصل به حاكم مالقة العسكري، ووعده بالمساندة شرط قدومه إلى مالقة.

فصدقه طريخوس وأبحر في خمسين من مسانديه قرب ميناء سهيل. ولكن حاكم مالقة غدر به عند اقترابه منها، فقبض عليه وأعدمه.

وتتابعت محاولات العودة إلى دستور قادس كالإنزال البحري الذي قام به الجنرال مانزنارس على شواطىء قادس، وثورة استانسلو فرناندس وأهل بلدة لوس باريوس (مقاطعة قادس). وثورة أهل قادس ضد حاكمها العسكري وإعدامهم له، وغيرها من ثورات الأفراد والجماعات، كمريانة دي بنيدا التي أعدمت لرفعها للعلم الأخضر، الذي يمثل الأندلس الإسلامية، والذي أصبح شعارًا للأندلسيين. تابعت وصية إيسابيلا الثانية سياسة زوجها، وعينت سيا برمودس وزيرًا لها.

فثارت عليه الأندلس وطالبت بطرده وإجراء إصلاحات سياسية. فأقصته الوصية وأحلت محله مرتينز دي لا روزا الذي لم يرض هو الآخر المطالبين بالإصلاح، فخلفه الكوندي دي تورينو دون أي تغيير في السياسة.

وفي مارس سنة 1835 م، انطلقت الثورة من مالقة، فتكوّنت قوة شعبية طردت ممثلي الحكومة، وانتخبت مجلسًا ثوريًّا لإدارة مقاطعة مالقة حسب دستور قادس، ومطالبة الحكومة المركزية بتطبيقه كذلك. وتبعت المدن الأندلسية الأخرى مثال مالقة، المدينة تلو الأخرى: إشبيلية (مقاطعة إشبيلية)، وقادس والجزيرة الخضراء وشنت رخ وميناء شنتمرية وشريش وشلوقة (مقاطعة قادس)، ورندة وأندوجر (مقاطعة مالقة)، وجيان (مقاطعة جيان)، والمرية (مقاطعة المرية)، وقرطبة (مقاطعة قرطبة)، وغرناطة

ص: 271

(مقاطعة غرناطة). وهكذا ثارت معظم مقاطعات الأندلس ضد الحكومة المركزية في مجريط. ولم يصل شهر غشت عام 1835 م، حتى عمت ثورة الأندلس جميع مناطق إسبانيا الأخرى، عدا قشتالة القديمة التي بقيت موالية للحكومة، فتكونت فيها مجالس ثورية محلية.

ثم اتحدت المجالس الثورية المختلفة في الأندلس، وكونت جيشًا شعبيًّا أندلسيًّا بقيادة بيلاباديرنا لإزاحة الحكومة المركزية في مجريط بالقوة. فأرسلت الحكومة لملاقاته، ومنعه من الوصول إلى العاصمة، جيشًا بقيادة الجنرال لاستر.

والتقى الطرفان في وادي دسبينيا بروس (مرمى الكلاب)، على حدود الأندلس مع قشتالة الجديدة. وسمي هذا الوادي بهذا الاسم أيام اضطهاد المسلمين حيث كان النصارى يرمون جثثهم في هذا الوادي. فانضم عدد كبير من جنود الحكومة إلى الجيش الأندلسي، مما ساعده على إلحاق هزيمة ساحقة بجيش الحكومة. فرجع الجنرال لاستر إلى مجريط في ثلة من أتباعه، وقرر الجيش الأندلسي عدم ملاحقته.

وأدى انهزام الحكومة إلى إحلال منذيزابال محل دي تورينو في رئاسة الحكومة في سبتمبر سنة 1835 م، وكان رجلاً تقدميًّا، له حنكة سياسية كبيرة وسمعة طيبة، وكان قد قضى على الثورة الكارلية سنة 1833 م. فنجح في إقناع المجالس الثورية قبول تعيين الحكومة لها. كما قرر إلغاء أفضلية الابن الأكبر في الوراثة، ومصادرة أراضي الكنيسة وذلك لإرضاء الطبقة البورجوازية الصاعدة التي كانت عمود الثورة الفقري.

وفي 2/ 9 / 1835 م، رفضت المدن الأندلسية أن ترضخ لمطالب منديزابال، بل توحدت عبر "مجلس أعلى للثورة" مقره بلدة أندوجر (مقاطعة جيان) يمثل جميع الأندلس عبر ممثلين من جميع مقاطعاتها. وانتخب المجلس الكوندي دي دوناديو، ممثل مدينة جيان، رئيسًا له، وأرسل إنذارًا للحكومة في مجريط يعبر فيه عن رغبة الأندلسيين في حكم ديموقراطي على أساس دستور أندوجر وجعل الحكومة مسؤولة أمام الإرادة الشعبية. ثم كون المجلس جيشًا أندلسيًّا للدفاع عن الأندلس. لكن منديزابال نجح ببراعته السياسية في إقناع المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى بالرجوع للحكومة. وفي 19/ 10 / 1835 م، اضطر مجلس الثورة الأعلى الأندلسي في أندوجر أن يحل نفسه.

ص: 272

كانت أحداث سنة 1835 م مهمة في تكوين القومية الأندلسية المعاصرة، إذ تحركت فيها الأندلس لأول مرة منذ ثورات المورسكيين كأمة واحدة أمام الحكم المركزي في مجريط، وكانت الثورات قبل ذلك إسبانية في الأندلس وليست أندلسية.

وخير تقدير لأهمية ثورة 1835 م ما قاله بلاس انفانتي، مؤسّس القومية الأندلسية المعاصرة، إذ قال:"لقد أعطت الأندلس سنة 1835 م برهانًا واضحًا عن وجود شعور وحدة مصيرية في منطقتها، تنبض فيه رغبتها في المساهمة، كوحدة تشعر بنفسها، في سيادة الدولة المركزية. وقد كونت الولايات الأندلسية الموحدة أكبر وأقوى مقاومة لمنديزابال، وأنشأت أمام القوى المركزية قوة جهوية فاعلة، لها جيشها الخاص، تعاملت ندًّا لند مع كرستينا (الوصية على العرش). وأعلنت أسس الحكم الشعبي، وتصرفت بشرف وأخلاق".

ودرس أكوستا سانشس دستور أندوجر لسنة 1835 م، فوجده "أكثر الأنظمة أصالة للتفكير الكنفدرالي". تكون مجلس الثورة الأعلى في أندوجر من ممثلين عن كل واحدة من المقاطعات الأندلسية الثمانية، وأعطى الدستور لكل مقاطعة حكمها الذاتي. فأساس دستور أندوجر هو تمثيل المدن الأندلسية المشترك أمام العالم الخارجي دون التدخل في شؤونها الداخلية. لذا كان لكل مجلس ثوري محلي شعور كامل بسيادته المحلية، وبانتمائه في نفس الوقت للأندلس في وحدة متكاملة. وقال أكوستا: فقد كان مجلس أندوجر الأعلى "أول بداية حكومة أندلسية، بل الوحيدة، في القرون الأخيرة".

وبعد ثورة عام 1835 م، رجعت إسبانيا إلى فسادها الأول: سيطرة الكنيسة عبر رهبان متعصبين وجهلة، وفساد الإدارة، وانتشار الرشوة. وأخذت الحكومة تحشد الفقراء في جيشها لقتلهم في حروب خاسرة، وتتخذ قرارات بإصلاح زراعي لا يستفيد منه إلا الأغنياء. وظلت الأندلس أفقر مناطق إسبانيا، يرزح مزارعوها تحت تجاوزات النبلاء الشماليين الذين يملكون الأرض، أو من مآسي البطالة حيث كانت الحكومة تفضل تنمية قطلونية كمركز لصناعات النسيج، وأوسكادي للصناعات الثقيلة. وإذا كان تأسيس "مجلس أعلى للثورة" الأندلسية سنة 1835 م تعبيرًا عن انبعاث الهوية الأندلسية في المدن، فقد بقي الفلاح الأندلسي جاهلاً، جائعًا، غير قادر على التعبير عن آرائه.

وفي 30/ 6 / 1857 م، توجه عدد من الفلاحين الأندلسيين بقيادة مانويل كارو، إلى بلدتي الرحى وأطريرة (مقاطعة إشبيلية) يطالبون بأرض أجدادهم. فاحتلوا

ص: 273

البلدتين، وأحرقوا سجلاتهما العقارية. فلاحقهم الجيش إلى جبال بني عوجان (مقاطعة مالقة)، وقتل منهم 25 فلاحًا، وسجن الباقين. وفي 12/ 7 / 1857 م، أعدم الجيش منهم 25 فلاحًا آخرين. وأدى هذا الحدث الدامي إلى تغير في موقف الفلاح الأندلسي الذي أخذ يتغلب على عقدة الخوف المسيطرة عليه، ويطالب بحقوقه المهضومة.

وفي أواخر سنة 1861 م، اشتعلت اضطرابات جديدة بين فلاحي الأندلس، ابتدأت في ملينة (مقاطعة مالقة) حيث جمع رفائيل بيريز دل ألامو، وهو من مواليد بلدة أركش (مقاطعة قادس) يعمل بيطريًّا في بلدة لوشة (مقاطعة غرناطة)، عددًا من الفلاحين، واحتلوا بلدة حصن آشر (مقاطعة غرناطة) حيث انضم إليهم أهلها، ثم لوشة. فانضم إليهم عدد من فلاحي الحامة وحصن آشر وأنتقيرة وما جاورها من مقاطعتي غرناطة ومالقة. فأرسل بيريز منشورًا إلى الحكومة يقول فيه:"لتعرفوا أن هدفنا هو الدفاع عن حقوق الإنسان واحترام أرضه وسكنه وأفكاره".

ونظم بيريز حكومة شعبية، مقرها لوشة، وجيشًا مكونًا من 10.000 فلاح أندلسي للدفاع عنها. فلاحقه جيش الحكومة من لوشة إلى الحامة، حيث اضطر إلى الاستسلام خوفًا على الأهالي. وفي سنة 1911 م، توفي بيريز فقيرًا منسيًّا في أركش، جاهلاً دوره الأساسي في تقوية الهوية الأندلسية لدى الفلاحين.

وفي سنة 1857 م، أسس في إشبيلية فرانسسكو مارية دي توبينو، وهو أندلسي من قادس، جريدة "الأندلس"، وهي "جريدة السياسة والتجارة والزراعة والمعادن والفنون والآداب والخطوط الحديدية والأهداف الاتحادية" كما وصفت نفسها. ثم تابعت الجريدة بقيادة خوان، أخي مؤسسها، نشاطها في نشر التوعية الأندلسية إلى سنة 1899 م. وفي سنة 1869 م، ظهرت جريدة "الفدرالية الأندلسية" في قادس، ثم جريدة "الدولة الأندلسية".

وفي 18/ 9 / 1868 م، أعلنت البحرية الثورة في قادس (الأندلس) ضد إيسابيلا الثانية، بقيادة الجنرال بريم. فانضمت إليها إشبيلية ثم المدن الأندلسية الأخرى: قرطبة ومالقة وغرناطة وولبة وأنتقيرة وطريف وقرمونة وغيرها، وكونت مجلسًا للثورة. وفي 21/ 9 / 1868 م، أرسلت الحكومة الجيش للقضاء على الثورة، فالتقى مع جيش الثوار الأندلسيين أمام القليعة، قرب قرطبة، فانهزم جيش الحكومة. وفي 30/ 9 /

ص: 274

1868 م، توصل مجلس الثورة ببرقية من مجريط تقول "ذهبت دونيا إيسابيلا دي بوربون (الملكة) وكل عائلتها إلى فرنسا"، وبهذا انتصرت الثورة.

ولم يرضَ الجمهوريون عن انتخاب الجنرال سرانو رئيسًا للثورة. وفي 3/ 12 / 1968 م، اجتمع عدد منهم في البيارة (مقاطعة قرطبة) لنشر أفكارهم، وهي المطالبة بتأسيس جمهورية اتحادية في إسبانيا تعترف بالحكم الذاتي للأندلس، وإلغاء الدين الكاثوليكي كدين الدولة الرسمي، فمنعتهم السلطات بالقوة مما أدى إلى قتل اثنين منهم. وفي 4/ 12 / 1868 م، تمرد عمال ميناء شنتمرية (مقاطعة قادس)، فقضى الجيش عليهم في مذبحة كبيرة، هرب بعدها الناجون منها إلى الجبال لمتابعة المقاومة. وفي 6/ 12 / 1868 م، ثار أهل قادس وضواحيها، برئاسة فرمين سالبوشيا،

واحتلوا المدينة، ثم انتشر التمرد إلى مالقة وغرناطة وإشبيلية وشريش. فكونت الحكومة جيشًا خاصًّا لمقاومة التمرد في الأندلس، نجح في مهمته بعد قتل أكثر من ثلاثة آلاف أندلسي. وفي 1/ 1 / 1869 م، ثارت مالقة فاحتلتها الحكومة في اليوم التالي. وفي 3/ 1 / 1869 م، لحقتها شريش وإشبيلية.

وكان لهذه الأحداث دور كبير في تركيز الهوية الأندلسية بين جميع أهل الأندلس، إذ اجتمع فيها، لأول مرة، أهل المدن وأهل البادية لمطالب أندلسية واحدة. وأصبحت ذكرى 4 ديسمبر يومًا للأندلس يحييه سنويًّا الوطنيون الأندلسيون، بما فيهم المسلمون.

وفي 18/ 5 / 1869 م، وقع ممثلون عن أراغون وقطلونية وبلنسية والجزر الشرقية "حلف طرطوشة الاتحادي" الذي تبنى أفكار بلانتين آلميرال في إنشاء جمهورية إسبانية كنفدرالية، أو فدرالية، تدخل فيها "الدول" المذكورة أعلاه كوحدات ذات سيادة. وفي 12/ 6 / 1869 م، تبعت الأندلس مثال قطلونية باجتماع ممثليها مع ممثلي مرسية واسترمادورا وتوقيع "حلف قرطبة الاتحادي"، الذي انضمت إليه فيما بعد الجزر الخالدات، مساندين أفكار بي اي مارغال الجمهورية الاتحادية.

وتابعت حكومة الجمهورية، التي أعلنت سنة 1873 م، نفس السياسة المركزية. فثارت المدن الأندلسية مرة أخرى، وكونت كنتونات في مالقة وإشبيلية وقادس وقرطبة وغرناطة. وفي 21/ 7 / 1873 م، نشرت هذه الكنتونات منشورًا من دسبنيا بروس أعلنت فيه عدم ثقتها بحكومة مجريط، ونعتتها بأنها أكثر مركزية من سابقاتها، وطالبت "بالتأسيس الفوري للولايات الكنفدرالية". وانتهى المنشور قائلاً:

ص: 275