الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن فبراير سنة 1595 م إلى آخر سنة 1597 م، أخرجت من تحت أرض التلة الغرناطية المسماة بعد ذلك بـ "التلة المقدسة"(ساكرو مونتي) مجموعة من الصفائح الرصاصية نقشت عليها كتابات مجهولة، منها ما هو بالعربية وما هو باللاتينية، كونت مكتبة كاملة تعود إلى القرون النصرانية الأولى. أما النصوص اللاتينية، فهي تقص استشهاد "القديس هيسكيوس"، رفيق "القديس شنت ياقو" من طرف "القديس سيسيل" في غرناطة. أما النصوص العربية فهي كتابات دينية مفادها أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وتكرر فيها عبارة "لا إله إلا الله عيسى روح الله" وبها أدعية "شنت ياقو" وقصة حياته ودراسة عن الملائكة وحياة سيدنا عيسى عليه السلام وحياة السيدة مريم
وتاريخ الإنجيل، الخ
…
وقد شكل دون بدرو دي كاسترو، لجنة كنسية كاثوليكية لدراسة الموضوع، فقررت أن الصفائح "رسائل إلهية"، وأنها "عقيدة سامية موحاة". لكن مجلس قشتالة طالب بنقل الصفائح إلى مجريط لترجمتها ودراستها من جديد. واتهمت الحكومة بعض الأطراف المورسكية بتزييف هذه الصفائح لإظهار باطل المسيحية الحالية، واتهم بذلك بصفة خاصة الموريسكيان "ألونسو دي قشتيليو" و"ميغال دي لونا".
وقد أشار الشهاب الحجري إلى رق غرناطة الذي قام بترجمته عند اكتشافه، إذ قال:"ففرح القسيس فرحًا عظيمًا بما ترجمت، وعلى أنه الحق، وأعطاني ثلاثمائة ريال وأيضًا كتابًا بالإذن بالترجمة من العربي إلى العجمي وبالعكس، وامتد الخبر عند النصارى، حين كانوا يشيرون عليّ ويقولون: هذا هو الذي فهم الرق الذي وجد في الصومعة". ولا شك أن الاكتشافين يدخلان في الحرب العقائدية التي كانت قائمة في إسبانيا بين المسلمين والنصارى.
وملخص القول ما قاله الشهاب الحجري، أحد رجالهم: كان المورسكيون "يعبدون دينين: دين النصارى جهرًا، ودين المسلمين في خفاء من الناس. وإذا ظهر على أحد شيء من عمل المسلمين يحكمون فيهم الكفار الحكم القوي، يحرقون بعضهم كما شاهدت".
6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية:
لم يكن المورسكيون يختلفون كثيرًا في عاداتهم عن المجتمعات الإسلامية الأخرى، رغم ضروريات التقية التي كانوا يمارسونها. فيقوم الفقيه بواجبه الإسلامي
سرًّا، ويظهر بين الناس في شكل عامل من العمال. ويتظاهر رئيس الجماعة بضعف الحيلة، والغني بالفقر، ويخفي التقي المسلم تقواه الإسلامية بمظاهر نصرانية. وكانت للمورسكيين، خاصة الغرناطيين منهم، عصبية عائلية قوية، فكان كل واحد منهم ينتمي إلى عائلة يعرف اسمها الإسلامي السري رغم تظاهره بالاسم النصراني المرغم عليه. وكان لشباب المورسكيين احترام كبير لشيوخهم، والأبناء لآبائهم. وكان لكل عائلة شيخها الذي يجمع شملها، فيطيعونه ويحترمون أوامره. وكانت تجتمع العائلات المختلفة في قبائل ينظم شؤونها مجلس مكون من شيوخ العائلات المختلفة. وكان لهذه المجالس دور كبير في أخذ القرارات الهامة، كالقيام بثورة غرناطة الكبرى وغيرها.
وكان أهل البشرات من أشد الأندلسيين ارتباطًا بالإسلام، وأحسنهم تنظيمًا.
وكانت "الطاعة" في البشرات تقوم مقام القبيلة في المدينة، يترأسها قائد يقوم بأمور الدنيا، وفقيه يقوم بأمور الدين. وكانت تتجزأ كل طاعة إلى عدة قرى، وكل قرية إلى عدة حارات. ولما استعمر النصارى جبال البشرات أقاموا نصرانيًّا قائدًا أعلى للبشرات ونصارى قوادًا للطاعات، بينما تركوا رئاسة القرى لـ "وزراء" مورسكيين.
كان المورسكيون يحتفلون بالعقيقة والختان والزواج والجنازة، ويعطون لاحتفالاتهم طابعًا إسلاميًّا. وكانت لهم أسماء إسلامية سرية يعرفون بها بعضهم البعض، بينما يُعرفون في الشارع بالأسماء النصرانية المجبورة عليهم. ومع الأيام، اختلطت الأسماء عليهم فمحمد بن أمية مثلاً كان يعرف كذلك بفراندو البالوري (نسبة إلى بالور بلدة في البشرات)، كما اختلطت الأسماء الإسلامية والأعجمية بين المدجنين خارج مملكة غرناطة قبل سنة 1492 م.
ويعلم الآباء أبناءهم، منذ نعومة أظفارهم، الحذر من النصارى، ويلقنونهم مبادىء الإسلام، ويؤكدون عليهم التستر والتقية. ويعلمونهم تاريخ أمتهم الأندلسية، والإهانات التي ذاقوها على يد النصارى المحيطين بهم، ويزرعون في نفوسهم الافتخار بعقيدتهم وأخلاقهم وعاداتهم، وأنها أفضل مما لدى النصارى.
وكانت العلاقة القائمة بين المورسكيين والنصارى تتلخص في ثلاثة مشاعر، وهي: الاحتقار والخوف والكراهية، تشعر بها كل طائفة نحو الطائفة الأخرى، فالثقة كانت منعدمة تمامًا بين أفراد الطائفتين، حيث إن أي كلمة فاه بها المورسكي سرًّا لنصراني أو رأي عابر عبر به له، يمكن أن يؤدي بالمورسكي إلى محاكم التفتيش.
فمثلاً، زار بلنسية خيرومينو قربون، وهو نجار مورسكي من برغش، فمكث بها عدة أشهر، وقبل عودته لبلده دعاه صديق له نصراني إلى حفلة عشاء تكريمًا له، وقدم له لحم الخنزير. فلما رفض المورسكي أكله فضحه "الصديق" النصراني لمحاكم التفتيش، مما أوصله إلى أتعس المهالك. ومثال آخر، أسرّت مورسكية لجارتها النصرانية بأن النصارى لا يحبونها ولا يحبون ابنتها لأنهما مورسكيتين، فأدى ذلك بها إلى محاكم التفتيش كذلك.
وكان النصارى يتهمون المورسكيين بحب المال وبالبخل وبالحرص على العمل، ويغارون منهم. وكانت العائلة المورسكية أكثر تماسكًا من العائلة النصرانية، والأمة المورسكية في مجملها أمة مجاهدة، نظيفة الملبس والعادات، لا يشرب أفرادها خمرًا ولا يتعاطون قمارًا، ولا يهجرون زوجاتهم ولا يتركون أطفالهم كما كان يفعل عامة النصارى في ذلك الوقت.
كان عامة النصارى يهابون المسلمين، خاصة بعد ثورة غرناطة الكبرى، ويتهمونهم بالتعاون مع مجاهدي البحر المغاربة والأتراك، ويخافون من ثوراتهم ومنفييهم في الجبال. وفي أواخر القرن السادس عشر الميلادي وأوائل القرن السابع عشر، أخذت تنتشر بين النصارى الإشاعات المتواصلة بأغرب الأخبار. ففي أوائل القرن السابع عشر، انتشرت إشاعة في بلنسية مفادها أن المورسكيين يسرقون أطفال النصارى لإرسالهم إلى شمال إفريقيا وتربيتهم على الإسلام، وأنهم يرسلونهم ليلاً في البواخر بعد تكميم أفواههم. وتبين بعد ذلك أن الإشاعة ليس لها أساس.
وفي أوائل القرن السادس عشر الميلادي، كان معظم المورسكيين يتكلمون العربية بلهجات تختلف باختلاف المدن والمناطق. وكان لكل طاعة من طاعات البشرات لهجة خاصة بها. وتحت الضغط الصليبي، أخذت اللغة العربية تضعف بين المورسكيين، خاصة في مملكة أراغون القديمة. أما في جبال البشرات، فقد ظلت اللغة العربية منتشرة إلى قيام ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م. وبقي كثير من المورسكيين يعرفون اللغة العربية إلى سنة 1609 م إبان الطرد الجماعي. وكان المورسكيون يتكلمون كذلك اللغة "الأعجمية"، ويكتبونها بالحروف العربية. واللغة الأعجمية هي اللغة الدارجة بين المورسكيين حينذاك، القشتالية أو الأراغونية أو القطلانية. وكان المورسكيون يتكلمون هذه اللغات بلكنة خاصة بهم تدل على تأثير
اللغة العربية عليها. وقد أثرت هذه اللكنة على اللهجة الأندلسية التي يُتكلم بها اليوم.
أما اللباس المورسكي، فقد تغير كثيرًا منذ سقوط غرناطة سنة 1492 م إلى الطرد الجماعي سنة 1609 م. وقد وصف أحدهم لباس المورسكيات في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل القرن السادس عشر الميلادي قائلاً:"كلهن يلبسن سراويل من الكتان مرخاة ومثنية تصل إلى الخاصرة على مستوى السرة حيث تربط برباط يشبه رباط الكهان، ويلبس فوق السراويل قميصًا واسعًا من الكتان، وفوقه "بدعية" من الصوف أو الحرير، كل واحدة وإمكاناتها المالية. وعندما تخرجن إلى الشارع، تغطين أجسامهن بغطاء أبيض ناصع من الكتان أو القطن أو الحرير، ويغطين به وجههن ورأسهن لدرجة لا يرى منها إلا عيناهن". وكانت المورسكيات تتزين بدماليج وأطواق وأخراس من الذهب والفضة ذات صنع خاص، وبالمجوهرات.
وقد رسم بعض المعاصرين مورسكيات بألبستهن هاته، تشبه ألبسة مغربيات مدن الشمال القديمة، كسلا وتطوان وفاس ووجدة. والغطاء الأبيض هو ما يسمى في المغرب بالحايك، وكان في الأندلس أقصر مما كان عليه في المغرب. وكانت العائلات الأندلسية تحتفظ عبر الأجيال بالألبسة النسائية الفاخرة التي تستعمل في المناسبات، كالزواج والأعياد الكبرى.
أما الرجال، فكانوا يلبسون اللباس القشتالي، خاصة في المدن، ولم يرجعوا إلى اللباس الإسلامي إلا إبان الثورات، كثورة غرناطة الكبرى. وقد قاومت الدولة اللباس الإسلامي، خاصة بالنسبة للرجال.
كانت حالة المورسكيين الاجتماعية تختلف من مدينة لأخرى. فمدينة إشبيلية مثلاً أصبحت عاصمة الدولة القشتالية منذ احتلالها إلى سنة 1505 م، وكان مدجنوها يعيشون في حي خاص اسمه "الدريبغو"(أي الدرب الصغير). وفي سنة 1483 م تكونت "موريرية"(أي حي إسلامي) في ربض "سان ماركوس". وعندما أجبر المسلمون على النصرانية في سنة 1505 م، حول مسجد الدريبغو الكبير إلى كنيسة، وأصبح المسلمون أحرارًا في السكن في أي حي من أحياء المدينة، لكن ظل تجمعهم أكبر في الدريبغو وسان ماركوس طيلة القرن السادس عشر الميلادي.
وبعد ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م وطرد عدد كبير من الغرناطيين، استقر بعضهم في إشبيلية حتى كاثروا المدجنين الأصليين، ووصلت نسبة المورسكيين إلى
أكثر من عشرة في المائة من مجموع السكان، أي حوالي 7.500 مورسكي، أكثرهم أحرار، وقليل منهم عبيد، وكان معظمهم شبابًا متزوجين، رجالهم أكثر من نسائهم بقليل. وكانت نسبة الموالي مرتفعة، كما كانت نسبة الوفيات من بين الأطفال مرتفعة كذلك، بسبب سوء أحوالهم الصحية الناتجة عن الاضطهاد المتواصل وسوء التغذية.
كان المورسكيون في إشبيلية يقطنون بيوتًا غير صحية أو غرفًا مؤجرة في أحياء إشبيلية الفقيرة. أحيانًا تتكدس عدة عائلات مورسكية في بيت واحد. ففي سان ماركوس، كان يقطن البيت الواحد من 15 إلى 20 مورسكيًّا (خلاف نسبة 5 مورسكي للمسكن الواحد التي كنا اتخذناها سابقًا).
كانت عصبية الجماعة قوية جدًّا بين مورسكيي إشبيلية. فكان زواجهم مع النصارى نادرًا، وعندما يحدث يكون في غالب الأحيان زواج رجل نصراني بمورسكية، فيسكن معها ويندمج كلية في المجتمع المورسكي.
وكان معظم مورسكيي إشبيلية عمالاً فقراء، بعضهم يعمل كخدم في بيوت
النصارى، والبعض الآخر في المزارع القريبة من إشبيلية. واختصوا بمهنتي الخبازة والبستنة. وكان من بينهم بعض التجار المتجولين، كبائعي الخبز والزيت والخضر والبطاطس المقلية والكستنة المشوية، الخ
…
ونبغ بعض العمال المهرة، خاصة في طريانة حيث أقام بعض الغرناطيين صناعة الخزف. وبصفة عامة، فقد كان وضع المدجنين الأصليين في إشبيلية أفضل من وضع اللاجئين الغرناطيين.
وكان المورسكيون الإشبيليون يختلطون مع النصارى في النهار لدرجة توهم المراقب السطحي باندماجهم التام في المجتمع النصراني. غير أنهم كانوا في الحقيقة حريصين على الاحتفاظ بهويتهم الإسلامية، فكانوا يتكلمون فيما بينهم اللغة العربية، ويمتنعون عن أكل لحم الخنزير بل مآكل النصارى كلها، ويقيمون الشعائر الإسلامية.
وحاولت سلطات إشبيلية كسر عصبية الجماعة بتشتيتهم في أحياء المدينة، وذلك بتحديد عدد من يسكن منهم في الحي الواحد، وفي المسكن الواحد، وتلاحقهم دائمًا من أجل ذلك، وتتهمهم بالإخلال بالأمن في المدينة وضواحيها.
أما وضع المورسكيين في بلدة "دايميال" الواقعة في مقاطعة قلعة رباح بقشتالة الجديدة، فقد كان يختلف عن وضع مورسكيي إشبيلية. وكان يسكنها أوائل القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل حركة التنصير القسرية، حوالي 400 مدجن، أي 15 في المائة من مجموع سكان البلدة، يكونون جالية منظمة، لها عاداتها وفقهاؤها