الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما رفضته فئات كثيرة من الشعب الإسباني، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية طاحنة في البلاد بين الجيش والكنيسة التي أعلنتها حربًا صليبية من جهة، وبين التقدميين الجمهوريين من جهة أخرى، انتهت سنة 1939 م بانتصار اليمين بقيادة الجنرال فرنسسكو فرانكو الذي أصبح دكتاتور إسبانيا إلى وفاته سنة 1975 م.
وأدّت هذه الحرب الأهلية إلى مقتل حوالي 600.000 شخص، وهجرة حوالي 400.000 آخرين إلى فرنسا، وخراب كبير في البلاد بأجمعها. وكانت حربًا طاحنة بين الكنيسة وأعدائها قتل فيها أكثر من 20.000 راهب، كما قامت الكنيسة وحلفاؤها بمذابح مفجعة بين الأهالي.
اشتعلت الحرب العالمية الثانية بعد انتصار فرانكو بقليل، فاحتل طنجة، واجتمع بهتلر وموسوليني، لكنه بقي في الحياد إبان الحرب، رغم أن الكتائب التي ارتكز عليها في الحرب الأهلية، والتي جعلها بعد ذلك ركيزة نظامه، اقتبست نظامها من الحزب النازي الألماني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بقي نظام فرانكو منبوذًا من طرف أوروبا، فأغلقت فرنسا حدودها مع إسبانيا، ورُفضت إسبانيا من دخول الأمم المتحدة. وبعد مفاوضات مع دون خوان (كوندي دي برشلونة فيما بعد) ابن الفونسو الثالث عشر، أعلن فرانكو نفسه وصيًّا لعرش المملكة الإسبانية. وفي الخمسينات، ابتدأت عزلة النظام تضعف بعد توصله بمساعدات اقتصادية من الولايات المتحدة. وشهدت الستينات انطلاقة اقتصادية مهمة في إسبانيا. وفي يوليوز سنة 1970 م، عين فرانكو الأمير خوان كارلوس حفيد الفونسو الثالث عشر (ابن ابنه خوان) وليًّا للعهد. وفي 20/ 11 / 1975 م، توفي فرانكو بعد مرض طويل، فانفتح على إسبانيا والأندلس عهد جديد.
8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية:
قضى طرد سنة 1609 م للنخبة المورسكية على التنظيم المورسكي الذي حافظ على الإسلام في الأندلس لمدة مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة، فاندثر الإسلام ظاهرًا وبقي حيًّا في قلوب المجتمع الأندلسي، بل ظل كثير من الأندلسيين مسلمين سرًّا. ولم تنجح الكنيسة في تحويل الشعب الأندلسي إلى ما أرادته: كاثوليكي الديانة، إسباني الهوية، بل تكونت منه شخصية جديدة، هي القومية الأندلسية المعاصرة، ذات الجذور الإسلامية الواضحة. أما خرافة تبديل سكان الأندلس بآخرين من الشمال بعد طرد سنة 1609 م، بينت البراهين التاريخية، كما رأينا، والواقع المشاهد، أن لا
أساس لها من الصحة. ولنوضح فيما يلي أهم ما بقي من الآثار الإسلامية في المجتمع الأندلسي المعاصر.
أولاً، تنطق كل مظاهر الأندلس الخارجية، في المدن والقرى والقلاع، بالوجود الإسلامي. وبقي الفن المعماري الأندلسي حيًّا، يعتز به أهل الأندلس ويتذوقه غيرهم، كما حافظ البيت الأندلسي المعاصر على طابعه الإسلامي القديم. ويرى اليوم زائر حي البيازين بغرناطة على الشكل الذي وصفه به دي خرقيرا حيث قال بأنه عبارة عن شبكة من الأزقة، منها ما له مخرج ومنها ما لا يخرج منه "وببناءاته ذات الطابع المورسكي، وأزقته الضيقة لدرجة لا يمكن معها أن يمر بها أكثر من شخصين في آن واحد، ومنها ما لا يمكن أن يمر بها إلا شخص واحد".
وظلت الحديقة الأندلسية إلى اليوم، فنًّا قائمًا بنفسه، كما أصبحت الشرفة (البلكون) من علامات الهندسة المعمارية الأندلسية المعاصرة. وتشهد أسوار المدن القديمة والمساجد المحولة إلى كنائس، والكنائس المبنية على شكل مساجد، والقصور القديمة، والجديدة التي تحاكي شكل القديمة، كلها تشهد بتواصل الحضارة الأندلسية المعمارية. ولم تتغير قط قرى البشرات، والمنطقة الشرقية وجبال رندة بمقاطعة مالقة، ووادي المنصورة بمقاطعة المرية، منذ سقوطها في يد الجيوش القشتالية. ولكن كل تلك القصور والمساجد إنما هي، كما قال أحد المسلمين الأندلسيين المعاصرين، بقايا قافلة الأندلس التي مرت عبر التاريخ وتركت تلك الآثار، ولكن القافلة الحية هي التي لا زالت قائمة لم تندثر وبقيت الآثار الإسلامية في شخصية أفرادها وتكوين مجتمعها.
قام باحث سويدي بدراسة فصائل دم أهل الأندلس، فوجد أن نسب الفصائل المختلفة بينهم تختلف عن باقي إسبانيا وتشابه النسب الموجودة في شمال إفريقيا. ولا حاجة، في الحقيقة، لهذا البحث الدقيق، إذ يمكن لكل ملاحظ أن يرى أن أوصاف أهل الأندلس اليوم تتطابق مع أوصاف الأندلسيين القدامى المحررة في الكتب القديمة، مدينة مدينة ومنطقة منطقة.
قال أبو الفضل النيقاشي: "جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب (الموحدي)، بين الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأُريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطرب بقرطبة
فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية". وأهل إشبيلية هم كذلك اليوم يحبون الطرب والغناء، كما أن أهل قرطبة اليوم موسومون بالجد والنفور من اللهو.
وقال الحجاري عن مدينة شريش: "لأهلها همم وظرف في اللباس وإظهار الرفاهية وتخلق بالآداب، ولا تكاد ترى بها إلا عاشقًا ومعشوقًا". وهي كذلك اليوم، إذ تعد نسبة الشباب فيها من بين السكان أعلى نسبة في القطر الإسباني.
ووصف لسان الدين ابن الخطيب أهل غرناطة بأنهم بيض الوجوه، سود الشعور. وهم كذلك اليوم. كما تحدث القدامى عن التنافس القائم بين أهل إشبيلية وجيرانهم أهل طريانة. والحال كذلك اليوم. وبصفة عامة يمكن التعرف على أهل الأندلس بسهولة من بين غيرهم من أهل إسبانيا، لاختلاف سماتهم عن القشتاليين والقطلانيين وغيرهم.
وأهم ظاهرة في الهوية الأندلسية المعاصرة هو موقف أهلها من الإسلام. فبعد طرد سنة 1609 م، ظلت الذاكرة الجماعية الأندلسية تحن إليه وتكره الكاثوليكية التي أجبروا عليها وكل ما له صلة بها. وهذا الشعور هو الذي دفع أهل قرطبة إلى الدفاع عن مسجدها الأعظم عندما أراد ملك قشتالة هدمه لبناء كنيسة قوطية على أنقاضه.
وظهرت كراهية الأندلسيين للكنيسة إبان ثوراتهم الشعبية المتواصلة والحروب الأهلية في القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، التي كانوا يطالبون فيها بتحجيم سلطة الكنيسة وتحرير البلاد من هيمنتها، بل ذهب الكثير منهم إلى حرق الأديرة والكنائس وملاحقة الرهبان.
بل حتى التراث الصوفي الأندلسي المتظاهر بالنصرانية بعد سقوط غرناطة وإلى اليوم هو تراث إسلامي. فـ "سان خوان دي لا كروس" المتوفَّى سنة 1591 م في أبدة، والذي أعلن قديسًا من طرف البابا سنة 1726 م، و"دكتورًا للكنيسة" سنة 1926 م، إنما هو في كل أفكاره وأعماله من أتباع الشيخ ابن عباد صوفي رندة، المولود بها سنة 1371 م، والذي هو بدوره من أتباع الشيخ المربي أبي الحسن الشاذلي. وكذلك الوضع بالنسبة للصوفية الأندلسيين المسمين بالمتنورين (آلومبرادوس)، فهم في الحقيقة أتباع للطريقة الشاذلية.
وبعد سنة 1975 م، وحصول إسبانيا على الديموقراطية وفصل سلطة الكنيسة عن الدولة، أظهر الأندلسيون شعورهم الحقيقي بالنفور من الكنائس وهيمنة أية سلطة على ضمائرهم. وقد ظهر في بحث قامت به الكنيسة أن أقل نسب زوار الكنائس من
بين مجموع السكان في إسبانيا توجد في المقاطعات الأندلسية الثمانية، وأقلها على الإطلاق مقاطعة قادس حيث لا تزيد فيها هذه النسبة على الخمسة في المائة من مجموع سكانها. ومن جهة أخرى نفر الأندلسيون المعاصرون من الرهبنة، حتى أصبحت معظم كنائس الأندلس مقفلة أو مفتوحة للسيّاح.
ولا يعني هذا أن الأندلسيين المعاصرين لا يؤمنون بالله، بل عكس ذلك، هم شعب يؤمن، لكن تجربته التاريخية أدت إلى ذكرى جماعية لديه جعلته ينفر من الكنيسة ويقترب من الإسلام.
ففي العادات الشعبية المعاصرة في منطقة البشرات، تخيف الأم طفلها قائلة له:"سيأتيك رجل السمن"، وذلك لأن الرهبان في القرن السادس عشر الميلادي كانوا يأتون بشحم الخنزير للبيوت، ويجبرون أهلها على أكلها، ويعاقبونهم إذا رفضوا ذلك.
ومن مظاهر اعتزاز الأندلسيين المعاصرين بجذورهم الإسلامية ما قامت به بلدية فرجليانة بمنطقة الشرقية (مقاطعة مالقة). فقد أقامت في كل أزقة المدينة وشوارعها رسومًا من الزليج تحتها كتابات بالإسبانية تذكر المقاومة الإسلامية أيام ثورة غرناطة الكبرى. ومثال ذلك هذه الكتابة: "وعم السكوت الرهيب قرية فرجليانة. وظل المرتفع مهجورًا، والأجسام ميتة، وصوت مارتين الوزير (زعيم المقاومة الإسلامية المحلية) يقول: إذا متنا في سبيل الدفاع عن حريتنا ونحن نجاهد، فستستقبل أمنا الأرض ما أنتجته، ومن لم يغطه كفن فلن تبخل عليه السماء بغطاءها. لم يشأ الله أن يقال إن رجال بني طوميز (منطقة فرجليانة) هابوا الموت في سبيل الدفاع عن وطنهم". ومثال ذلك احتفال بعض المدن السنوي بانتصار المسلمين على النصارى كما تفعل بلدة قمارش (بالشرقية كذلك) يوم 25 مارس من كل سنة إلى اليوم، وقد حضر هذا الاحتفال بدعوة من البلدية كاتب هذه السطور سنة 1990 م. ومثال ذلك أيضًا الكتب التي تنتجها المدن الكبيرة والصغيرة تبين فيها أصولها الإسلامية، كما فعلت قمارش ومنطقة الشرقية وعذرة والمرية وغيرها من المدن والقرى والمناطق.
وأجبر الأ صلى الله عليه وسلم إلى تكوين لهجة أندلسية لها سمات خاصة ورثتها عن اللغة العربية. ولمدة
طويلة، كان الأندلسيون مزدوجي اللغة، يتكلمون الأعجمية الأندلسية واللهجة العربية الأندلسية في آن واحد، بينما كانت العربية الفصحى لغة حضارتهم. وقد أثرت الأعجمية الأندلسية في العربية الأندلسية، ثم اندثرت بانتشار اللغة العربية في مملكة غرناطة.
وفي القرن السادس عشر، عندما أرغم الأندلسيون على التكلم بالقشتالية، كانت لغتهم الدارجة العربية الأندلسية، وكانت اللغة القشتالية غريبة عنهم، فتأثرت مع الأيام بها. ويظهر هذا التأثير بالنسبة للحروف في نطق الهاء مثلاً، في اللهجة الأندلسية المعاصرة. ودخلت في اللهجة الأندلسية المعاصرة مفردات عربية أكثر مما دخل في اللغة القشتالية الفصحى، مثل "القفيقة" و"البطانة" و"البديل" و"شيشارو"، و"الكافر" و"المجاعة"، الخ
…
عدا الـ 4.000 كلمة عربية التي دخلت اللغة القشتالية نفسها كـ "القاضي" و"القائد" و"دار الصناعة" و" الضيعة" و" الفندق "و"البناء" و"السطيحة" و"القنديل "و"المعصرة" و"الجبلي" (أي الخنزير البري)، الخ
…
كما دخلت في اللهجة الأندلسية تراكيب نحوية عربية كعبارة "دوينيو دي" بمعنى "صاحب كذا" في عبارة "دينيو دي راثون"، أي "صاحب عقل"، التي جاءت من "ذو" في العربية الأندلسية، الخ
…
وأثرت العربية كذلك على معاني الكلمات القشتالية، ككلمة "كمبنيرو" بمعنى "صاحب" في اللهجة الأندلسية، وفعل "ببليكار" بمعنى "نشر" في اللهجة الأندلسية. ويعتقد أن تحريف اللام القشتالية إلى راء أندلسية هو من تأثير الدارجة العربية كنطق "أرما" عوضًا عن "ألما"(الروح) أو "سارتار" عوضًا عن "سالتار"(إخراج)، الخ
…
وكذلك نطق "الياء" القشتالية "جيمًا" في الأندلسية كـ"جو" عوضًا عن "يو"(أنا)، وإلغاء الدال في وسط الكلمات كنطق "غرنا" عوضًا عن "غرنادا"(غرناطة) و"ينايرو" عوضًا عن "بناديرو"(خباز)، أو في آخرها كـ "بردا" عوضًا عن "برداد"(حقيقة)، إلى آخر التأثيرات التي درستها الكتب المختصة.
ويمكن تلخيص التأثير العربي على اللهجة الأندلسية المعاصرة بما قاله أحد الأندلسيين المعاصرين عندما تكلم عن فرض اللغة القشتالية على الأمة الأندلسية: "كان ذلك كما لو أجبرنا على لبس حذاء غير متناسب مع قدمنا، وفوق ذلك كان صغيرًا عليها، مما ضيق علينا جدًّا. فتحول مع الأيام وتبدل إلى أن وصلنا من نظام تفاهم مفروض وعدم ملائم إلى نظام يتناسب أكثر مع خصاصيتنا".
وبرز الأندلسيون المعاصرون في نفس المهن التي برز فيها قبلهم أجدادهم المورسكيون. فالنجارة، مثلاً، كانت مجزأة عند الأندلسيين في العصر الإسلامي إلى ست حرف: النجارة الفنية، والنجارة الخارجية، والنجارة المتواضعة كإصلاح النواعير والطواحين، وما إلى ذلك. وبقي نفس الترتيب في الأندلس إبان القرن السابع عشر كما دل على ذلك كتاب "مختصر نجارة العارفين" الذي نشر سنة 1633 م وهو كتاب تعليمي للنجارة على الطريقة المتبعة أيام الدولة النصرية، وأعيد طبع الكتاب مرة ثانية سنة 1727 م، ومرة ثالثة سنة 1867 م. وقال الناشر في مقدمة هذا الكتاب إن فنون النجارة الموضحة فيه كانت منتشرة في غرناطة وسرقسطة إلى أواخر القرن الثامن عشر. فمن جعل هذا التراث حيًّا سوى أبناء المورسكيين وأحفادهم الذين مكثوا في الأندلس؟ وبقي طابع اللباس والصناعات المتصلة به إسلاميًّا في غرناطة وجبال البشرات إلى آخر القرن التاسع عشر. وبقيت صناعة الحرير حيّة في يد عائلات من أصول إسلامية رغم تأثرها السلبي الشديد بطرد سنة 1609 م. وبقيت صناعة الخزف التي كانت ببلدة فج اللوزة (مقاطعة غرناطة) أيام الدولة الأندلسية إلى ما هي عليه إلى اليوم. والأمثلة على ذلك كثيرة في مناطق أخرى من الأندلس.
وكانت الزراعة في الأندلس نتيجة عبقرية المسلمين الأندلسيين في خدمة الأرض وتجميلها، فاشتهروا ببراعتهم في إنشاء الحدائق وتزيينها، وزراعة أشجار الفواكه، فاشتهر وادي آش إلى اليوم بالتفاح (التفاح الجلياني)، ومالقة بالتين، وشرف إشبيلية بالزيتون، الخ
…
ويتهم الغرب الأندلسيين اليوم بما يتهم به جميع الشعوب الإسلامية من التواكل والكسل وحب اللهو، والتمادي في الخيال وحب الشعر. ويُنعت الأندلسيون إلى اليوم خارج منطقتهم في إسبانيا بكلمة "مورو"(مسلم)، وهذا يدل على أن صورة الأندلس في نظر باقي إسبانيا لا زالت إسلامية. وهكذا يراهم السياح الأوروبيون، كالفرنسي فيلار الذي زار إسبانيا بين سنتي 1679 م و 1681 م، فقال عندما حضر في مباراة لعب الفرسان بالثيران:"وهذه اللعبة من بقايا المسلمين الذين لم تطرد بطردهم من إسبانيا أفكارهم ولا طرق تعاملهم نهائيًّا".
وطريقة توزيع ملكية الأرض في الأندلس المعاصرة هي أكبر شاهد لاستمرارية الأمة الأندلسية عبر محنتها. فبعد سقوط مدن الأندلس ومقاطعاتها المختلفة، صودرت