الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أن عددًا كبيرًا منهم بيعوا للنصارى كعبيد، وأصبحوا موضع تجارة خسيسة بين النصارى القدامى والكنيسة.
وتابع ديوان التفتيش مطاردة المسلمين دون هوادة طول هذه الفترة، أي بين سنة 1570 م وسنة 1609 م، في كل من مملكة قشتالة ومملكة أراغون. وقد سجلت وثائق ديوان التفتيش 291 قضية ضد المورسكيين سنة 1591 م، و 117 قضية سنة 1592 م. وظهر في حفل "الأوتودافي" الذي أقيم في 5/ 9 / 1604 م حوالي 68 مورسكيًّا نفذت فيهم أحكام مختلفة، وظهر في "أوتودافي" يوم 7/ 1 / 1607 م حوالي 33 مورسكيًّا أحرقوا أحياء، وعذب أكثرهم إبان محاكمتهم.
ولنرَ الآن وضع المسلمين في مملكة أراغون وكيف قاوموا محاولات الإدماج والتنصير في أواخر القرن السادس عشر الميلادي.
4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون من سنة 1570 م إلي سنة 1608 م:
أدى تهجير كثير من أهل مملكة غرناطة إلى قشتالة إلى إضعاف الدور القيادي لأهل غرناطة بين الأندلسيين، وأصبح بالمقابل دور مورسكيي مملكة أراغون من أهم مشاغل الدولة الإسبانية. فقد عاشوا عدة قرون مع النصارى كمدجنين، حتى قبل تأسيس دولة بني الأحمر في غرناطة. ولم يقل تشبثهم بالإسلام عن تشبث إخوانهم في غرناطة، رغم رفضهم المشاركة في ثورة غرناطة الكبرى سنة 1568 م.
وكانت أعدادهم كبيرة، ونسبهم بين مجموع السكان مرتفعة، خاصة في مملكة بلنسية ومملكة أراغون القديمة، حيث كانوا يكونون معظم السكان في مناطق مختلفة منها. وكانوا أهل زراعة يعملون للنبلاء النصارى ويدفعون ضرائب باهضة لهم مقابل حمايتهم.
أدت ثورة غرناطة الكبرى إلى تقوية الشعور الإسلامي بين مورسكيي مملكة أراغون، وكان أقصى ما تخشاه الكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية، هو تأثير أهل غرناطة "السلبي" على مورسكيي مملكة أراغون، لذا منعوا أهل غرناطة من دخول مملكة أراغون. لكن رغم المنع، فقد دخل أراغون ما لا يقل عن 3.000 غرناطي، ووجدوا فيها الحماية التامة والمساندة الكاملة من طرف أهلها المسلمين. وتزعم مورسكيو مملكة أراغون التفكير في الثورة وتحرير المسلمين. وكان كثير من زعمائهم
يتجولون عبر الأراضي الإسبانية، لتقوية صلات التضامن بين الجماعات الإسلامية المختلفة، كما ربطوا علاقات قوية مع المغرب والدولة العثمانية وبروتستانت فرنسا.
لذا أصبحت الكنيسة والدولة ترى في مسلمي أراغون طابورًا خامسًا في وسطهما، كما ظلت الإشاعات تنتشر حول قرب قيام ثورة إسلامية شاملة.
ومثال هذه الإشاعات ما كتبه الملك فليبي الثاني في رسالة بعثها سنة 1570 م إلى نائبه على جزيرة سردانية، التابعة حينذاك لإسبانيا، قال فيها:"وقد هددت في شتاء هذه السنة البحرية التركية هذه المناطق بسبب ثورة غرناطة، آملة أن يقوم المورسكيون في مملكتينا أراغون وبلنسية بنفس الثورة. وظهر لهم (أي العثمانيين) كذلك أنهم إذا سيطروا على هذه الجزيرة (أي سردانية) سيصبحون على قرب من الساحل الإفريقي لدرجة تسهل عليهم التعاون مع هؤلاء". ولمواجهة هذا الوضع أمر الملك فراندو دي لواسس، كاردنال بلنسية، بالاجتهاد في تنصير الموركسيين في بلنسية تنصيرًا كاملاً وعدم التهاون في ذلك.
واغتنم بعض النصارى حرب غرناطة للهجوم على الغرناطيين لسلب أموالهم وسبي أبنائهم ونسائهم وبيعهم عبيدًا. وقد كتب بيمنتيل، نائب الملك على بلنسية، رسالة من بلنسية بتاريخ 14/ 4 / 1569 م إلى الملك يخبره بما يحدث ويطلب منه التعليمات لمواجهة الوضع. فأمر الملك بجرد كل الغرناطيين الذين استعبدوا بهذه الطريقة، ثم أمر بتركهم عبيدًا في يد مشتريهم.
وبعد القضاء على ثورة غرناطة، ومنذ الشهور الأولى لسنة 1570 م، أخذ اللاجئون الغرناطيون يتدفقون على مملكة بلنسية، وكلما قبض على أحدهم استعبد وبيع في سوق النخاسة. واجتهد مسلمو مملكة أراغون في شرائهم لعتقهم أو حمايتهم. فعندما علمت الحكومة ذلك، أمرت بمنع المورسكيين من اقتناء العبيد. فتحايل المورسكيون للتهرب من هذا المنع، لدرجة أن بيمنتيل، نائب الملك، أظهر تخوفه من العدد الكبير من الغرناطيين الذين دخلوا مملكة بلنسية بهذه الطريقة.
وفي أواخر سنة 1570 م منعت الحكومة جلب المستعبدين الغرناطيين إلى مملكة أراغون، بدون جدوى. فمثلاً تذكر الوثائق أن ثلاثة نصارى من جزيرة يابسة (من الجزر الشرقية التابعة لمملكة أراغون) اشتروا من مرسية خمسة مستعبدين غرناطيين، فسجنوا جميعًا بسبب ذلك بأمر من محكمة آريولة، لكن نائب الملك أمر بإطلاق سراحهم وسمح لهم بنقل "العبيد" الخمسة معهم.
ورغم الانتصار النصراني على القوات البحرية العثمانية في ليبانتو سنة 1571 م، لم يتوقف التخوف من مسلمي مملكة أراغون، بل زاد حدة بعد أن حرر العثمانيون حلق الوادي مدخل مدينة تونس من يد الإسبان سنة 1574 م. ففي 9/ 10 / 1575 م كتب الملك إلى كونساكا، نائب الملك على مملكة بلنسية، يأمره بمنع المورسكيين من السكنى قرب البحر، ولا حتى المرور بجانبه دون حراسة مشددة من طرف "النصارى القدامى". وهكذا أجلى نائب الملك المورسكيين من كل شواطىء مملكة بلنسية.
ووصل إلى الملك سيل من التحذيرات من مسلمي بلنسية خاصة، كالرسالة التالية المرسلة إلى الملك بتاريخ 17/ 3 / 1582 م من طرف أسقف طليطلة، يقول فيها:"أرجو من جلالتكم بكل تواضع أن تأخذوا بعين الاعتبار احتمال قدوم الأسطول التركي إلى بحارنا وسيجد في مملكة بلنسية وحدها من الأعوان خمسين ألف مقاتل دون الذين في أراغون (أي القديمة) وغرناطة، وهذا عدد ضخم وإذا تعاونوا جميعًا، مع معرفتهم للطرق بدقة. فستصبح بذلك مشكلة هذه الممالك عظيمة مع نقص في الخيول والأسلحة والرجال المدربة. وهذا ما لا يجهله المورسكيون الذين برهنوا في الماضي أنهم دققوا في كل شيء وحسبوه. فإذا اتحد كل هؤلاء مع "الهوكونوت" (بروتستانت فرنسا) والمرتدين الآخرين وضايقونا فستكون مشكلتنا أكبر".
وكتب المفتشون العامون في سرقسطة، عاصمة مملكة أراغون، رسالة بتاريخ 15/ 3 / 1582 م إلى الملك، يقولون فيها:"وسبب توصلهم (يعني المورسكيين) بأمر الثورة هو أن دون أنطونيو البرتغالي وأمير أورانج اتفقا مع مسلمي المغرب عن طريق بعض التجار والمورسكيين الغرناطيين الذين يترددون على تلك البلاد. وكذلك فإن أمير بيارن (رئيس الهوكونوت) شوهد مع ملك فرنسا يطلب منه إنجاز وعده له عندما تزوج بأخته بإعطائه الرجال لاحتلال نبارة. وأنه تفاوض مع مورسكيي أراغون (القديمة) لمساعدته، وكذلك مع مورسكيي بلنسية لحراسة أسطول الأتراك الذي لا يعرفون من أين سيأتي لكن يعرفون أنه يجب أن يكون في الجزائر بتاريخ 11/ 8".
وكانت الإشاعات المتواصلة تنتشر في مملكة أراغون (بأقسامها الثلاثة: أراغون القديمة وبلنسية وقطلونية) مفادها قرب تحالف ثلاثي بين المورسكيين والعثمانيين والهوكونوت. وكانت هذه الإشاعات تقوي عزيمة مسلمي مملكة أراغون على
المقاومة والثبات، وفي نفس الوقت تجعل النصارى يعيشون في جو من الإرهاب، مما زاد العلاقات بين المجموعتين المتساكنتين سوءًا.
وكان لرجوع إسكندر كستيانو، أحد مسلمي بلدة كلاندة من ولاية طرويل (مملكة أراغون القديمة) أعظم الأثر في نفوس مسلمي أراغون.
كان كستيانو قد هاجر إلى تركيا ورجع إلى بلاده بأخبار انتصارات المسلمين على النصارى في كل مكان، وانهيار ممالكهم أمام الزحف الإسلامي. وجاء لهم بتنبؤات الخلاص على يد غلام سيولد بأطراف غير متناسقة وسيموت والده وعمره لا يزيد على خمسة شهور، ويصبح هذا الفتى قبل سن الثلاثين زعيمًا للمورسكيين يخلصهم من قهر النصارى وظلمهم، في حرب ينتصرون فيها عليهم.
ويكون الموضوع أحيانًا أكثر من إشاعة. ففي 23/ 1 / 1582 م قبضت محاكم التفتيش في بلدة كوديل بمملكة بلنسية، شمال شقورب، على مورسكي اسمه شمس الدين، أدى استنطاقه إلى اكتشاف شبكة اتصالات سرية بين المسلمين، مركزها أراغون، تربطها بقشتالة وببيارن في فرنسا وبشمال إفريقيا. وضبطت المحكمة مع شمس الدين رسائل مكتوبة باللغة العربية واللغة الأعجمية توضح دور المورسكيين المقيمين في الجزائر. أبحر شمس الدين في قرطاجنة واجتمع سرًّا مع زعماء المورسكيين في مرسية وفي شقورب.
وفي مارس سنة 1583 م اكتشفت محاكم تفتيش بلنسية مؤامرة أخرى اشترك فيها المورسكيون وأهل بيارن (فرنسا) البروتستانت.
زادت الدولة والكنيسة من اضطهادها للمسلمين أمام هذه الشائعات والحوادث.
فمنذ سنة 1575 م أمرت الدولة بنزع سلاح المورسكيين في مملكة أراغون خوفًا من تحالفهم مع المغاربة والهوكونوت، فجمعت منهم حوالي 11.000 بندقية. وقام النبلاء أنفسهم بنزع سلاح المورسكيين الذين يعملون عندهم. وكان هؤلاء السادة دائمًا يدافعون على خدامهم المسلمين، فرفض بعضهم، كدوق بلاهرموزا وكوندي آرندة ودوق فرانسيس دي آرينيو، التعاون مع الدولة في جمع السلاح. وأدى تجريد مورسكيي أراغون القديمة من السلاح إلى تركهم فريسة للمجرمين والمنتقمين والطامعين من النصارى.
وفي سنة 1585 م اندلعت حرب أهلية بين نصارى أراغون القديمة الساكنين في الجبال الفقيرة ومسلميها القاطنين في سهول وادي أبرة الغنية، دامت ثلاث سنين، إلى سنة 1588 م. ساند المسلمين النبلاء الذين يعملون في أراضيهم، كما ساندهم الهوكونوت أهل بيارن الفرنسية وأميرهم (أصبح فيما بعد هانري الرابع ملك فرنسا).
وظلت الدولة الإسبانية في غياب تام عن هذه الأحداث، مما جعل أحد رهبان دير الروضة البندكتي يقول:"رغم أن هجمات الفرق المسلحة لمدة تسعة أشهر أدى إلى مقتل عدد كبير من الناس في هذه المملكة، لم يعاقب في سرقسطة إلا رجل واحد فقير لمخالفة قرار الطرد (من غرناطة)؛ فكم هي سيئة العدالة هنا". وقام النصارى عدة مرات بهجوم عام على القرى الإسلامية، ككودو وساستاكو وبينة وهم يصرخون "الكلاب المسلمون"، كلما وقعت أحداث ضد النصارى، كما حدث في غشت سنة 1586 م عند مصرع نصرانيين على يد مسلم من كودو، وفي أكتوبر سنة 1588 م عند مصرع 15 نصرانيًّا في مضيق الروميرة. وذهب ضحية هذه الأحداث عدد كبير من المسلمين.
تزعم المجاهد توريركو المقاومة الإسلامية في الحرب الأهلية بين المسلمين والنصارى في مملكة أراغون القديمة. فتابعته السلطات بعد انتهاء الحرب وقبضت عليه في يونيو عام 1591 م. وكتب مجلس أراغون بذلك كتابًا إلى الملك فليبي الثاني يبشره فيه بهذا الحدث الهام وينعت توريركو بأنه "شرير وسفاح ومسبب الصراع بين الجبليين (أي النصارى) والمورسكيين، وقد أتى به أحد البغالين (أي المسؤولين على النقل بين المدن) من البرتغال بأمر من ماركيز المنارة".
ورفض كثير من المسلمين، كما حدث في قشتالة، تحمل هذا الذل والهوان، فاختاروا الثورة المتواصلة في الجبال حيث يغيرون في عمليات فدائية على مصالح الكنيسة والدولة. وانتشر الفداء بين سنتي 1580 م و 1590 م، خاصة في مملكة بلنسية. ففي 1/ 10 / 1584 م قتل بعض المسلمين "سيدهم" بسكوندي شلبة. وفي 18/ 1 / 1585 م أعدم شنقًا في بلنسية ستة غرناطيين عقابًا لهم على أعمالهم الفدائية ضد النصارى. وقام المجاهد صليح وجماعته الفدائية بعمليات متعددة زرعت الرعب في كل أنحاء مملكة بلنسية. كما قام نائب الملك بمجهود عسكري كبير للقضاء على المقاومة المورسكية المسلحة في مملكة بلنسية. ففي 7/ 6 / 1586 م أصدر قانونًا يحدد عقوبات شديدة ضد أعضاء العصابات الفدائية، وأفراد عائلاتهم، حتى إذا لم
يشاركوا في أي عمل فدائي، بنقلهم إلى قشتالة، وكذلك ضد من يحميهم وحتى من لا يحاربهم. ثم أخذ نائب الملك يتفاوض مع عائلات صليح وأتباعه ووعدهم بعدم قتلهم إذ استسلموا. واضطر صليح بذلك إلى الاستسلام في صيف سنة 1586 م إلى سلطات بلنسية، ومعه 21 فدائيًّا. وطبعًا غدرت تلك السلطات بالمستسلمين، وحكمت عليهم في 4/ 11 / 1586 م بالموت البطيء، وهو الخدمة الشاقة في مناجم المعدن لمدة ثلاثين سنة.
وتابعت الكنيسة اضطهادها لمسلمي مملكة أراغون. ففي سنة 1587 م، قامت الكنيسة في مملكة بلنسية بحملات تنصير جديدة. وفي سنة 1599 م، أخذت الكنيسة والدولة تتبعان طرقًا قمعية أكثر شراسة للقضاء على العادات الإسلامية رغم يأسهما من تنصير المسلمين تنصيرًا حقيقيًّا. وكأن التنصير أصبح في يد الرهبان سلاحًا لاستفزاز الأهالي المسلمين وتهديدهم واستنزاف أموالهم.
ثم تتابعت قرارات الدولة التي تأمر بنزع سلاح مورسكيي مملكة أراغون، في 16/ 6 / 1567 م ثم في سنة 1573 م و 1575 م و 1578 م و 1581 م و 1588 م و 1593 م و 1596 م، الخ
…
وفي 6/ 10 / 1575 م اتخذت الدولة قرارًا بمنع المورسكيين البلنسيين من الاقتراب من الشواطىء، ومعاقبة كل مخالف بثلاث سنوات خدمة تجديف في السفن. وفي 1/ 8 / 1586 م صدر قانون، يؤكد قانونًا سابقًا بتاريخ 1559 م، بمعاقبة كل من يغير محل إقامته، وبطرد كل المورسكيين الذين ليسوا من أصل بلنسي من مملكة بلنسية.
ولم ينج من متابعات محاكم التفتيش لا أقوياء المسلمين ولا ضعفاؤهم.
وتابعت تلك المحاكم حتى أفراد أسرة بني عامر، من وجهاء بلدة بني وزير من أعمال بلنسية، الذين كان لهم نفوذ كبير وغنى وجاه وصداقة مع البلاط الملكي.
ففي مايو سنة 1567 م صدر قرار محكمة التفتيش بالقبض على الأخوة الثلاثة كوزمي وخوان وهرناندو، وتابعت ملاحقتهم إلى سنة 1577 م. ولم ينج من الموت حرقًا إلا بعد استنزاف جميع أموالهم وتدخل ذوي الجاه لصالحهم. وكانت تهمتهم إخفاء العقيدة الإسلامية. ولم تتركهم محاكم التفتيش إلا بعد إعلانهم الإخلاص للنصرانية والتوبة من جريمة إضمار الإسلام. وكانت هذه طريقة محاكم التفتيش في متابعة ذوي المال من المورسكيين لاستنزاف أموالهم واقتسامها بين قضاتها.