المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني - انبعاث الإسلام في الأندلس

[علي المنتصر الكتاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديم

- ‌مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني

- ‌مقدمة المؤلِّف

- ‌الفصل الأولنشأة وسقوط دولة الإسلام في الأندلس

- ‌1/ 1 - الأمة الأندلسية وتكوينها:

- ‌1/ 2 - قيام مملكة غرناطة:

- ‌1/ 3 - جهاد مملكة غرناطة المتواصل:

- ‌1/ 4 - اتحاد الممالك النصرانية:

- ‌1/ 5 - الحرب الأهلية وسقوط غرناطة:

- ‌مراجع الفصل الأول

- ‌الفصل الثانيالاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م

- ‌2/ 1 - بداية الغدر وتنصير مسلمي غرناطة (1492 - 1502 م):

- ‌2/ 2 - محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا:

- ‌2/ 3 - ذروة اضطهاد المسلمين 1502 - 1567 م:

- ‌2/ 4 - وضع المسلمين في مملكتي البرتغال وقشتالة:

- ‌2/ 5 - وضع المدجنين في مملكة أراغون:

- ‌مراجعالفصل الثاني

- ‌الفصل الثالثثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م)

- ‌3/ 1 - تهيىء الثورة:

- ‌3/ 2 - إعلان الثورة وبيعة ابن أمية:

- ‌3/ 3 - انتشار الثورة واستشهاد ابن أمية:

- ‌3/ 4 - مراحل الثورة تحت قيادة ابن عبو:

- ‌3/ 5 - الانهزام والاستسلام:

- ‌مراجعالفصل الثالث

- ‌الفصل الرابعالتشتيت وزيادة القهر (1570 - 1608 م)

- ‌4/ 1 - إخراج المورسكيين من مملكة غرناطة:

- ‌4/ 2 - أوضاع المسلمين في مملكة قشتالة من سنة 1570 م إلى سنة 1608 م:

- ‌4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون من سنة 1570 م إلي سنة 1608 م:

- ‌4/ 4 - علاقات مسلمي إسبانيا الخارجية من 1570 م إلى 1608 م:

- ‌4/ 5 - التفكير في الطرد:

- ‌مراجع الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامسطرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م)

- ‌5/ 1 - قرار الطرد سنة 1608 م:

- ‌5/ 2 - طرد مسلمي مملكة بلنسية:

- ‌5/ 3 - طرد مسلمي أراغون القديمة وباقي مملكة أراغون:

- ‌5/ 4 - مسلمي مملكة قشتالة:

- ‌5/ 5 - المورسكيون المطرودون في مناطق هجرتهم:

- ‌مراجعالفصل الخامس

- ‌الفصل السادسديموغرافية المورسكيين وحياتهم الاجتماعية

- ‌6/ 1 - ديموغرافية المورسكيين:

- ‌6/ 2 - حياة المورسكيين الدينية:

- ‌6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية:

- ‌6/ 4 - حياة المورسكيين الاقتصادية:

- ‌6/ 5 - الثقافة المورسكية:

- ‌مراجعالفصل السادس

- ‌الفصل السابعاستمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر

- ‌7/ 1 - إسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر:

- ‌7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين:

- ‌7/ 3 - معاملة محاكم التفتيش:

- ‌7/ 4 - مؤامرات وثورات:

- ‌7/ 5 - شواهد الرحالة:

- ‌مراجعالفصل السابع

- ‌الفصل الثامنتكوين القومية الأندلسية (في القرنين التاسع عشر والعشرين)

- ‌8/ 1 - إسبانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين:

- ‌8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية:

- ‌8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م):

- ‌8/ 4 - بروز الحركة الأندلسية ودور بلاس إنفانتي:

- ‌8/ 5 - تطور الحركة الأندلسية: إسلام بلاس إنفانتي واستشهاده:

- ‌مراجعالفصل الثامن

- ‌الفصل التاسعانبعاث القومية الأندلسية 1975 - 1990 م

- ‌9/ 1 - دكتاتورية فرانكو (1939 - 1975 م):

- ‌9/ 2 - رجوع الديموقراطية وانبعاث القومية الأندلسية:

- ‌9/ 3 - إنشاء منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

- ‌9/ 4 - رموز منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

- ‌9/ 5 - إحصائيات الأندلس المعاصرة:

- ‌مراجعالفصل التاسع

- ‌الفصل العاشرالانبعاث الإسلامي على مفترق الطرق (منذ سنة 1970 م)

- ‌10/ 1 - الجمعيات الإسلامية للوافدين:

- ‌10/ 2 - الطريقة الدرقاوية في غرناطة:

- ‌10/ 3 - جمعية قرطبة الإسلامية:

- ‌10/ 4 - محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس:

- ‌10/ 5 - محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس:

- ‌مراجعالفصل العاشر

- ‌الفصل الحادي عشرالجماعة الإسلامية في الأندلس

- ‌11/ 1 - الأيام الأولى في إشبيلية:

- ‌11/ 2 - الإنطلاقة من إشبيلية:

- ‌11/ 3 - النكسة والانطلاقة الجديدة:

- ‌11/ 4 - العودة إلى قرطبة:

- ‌11/ 5 - العلاقة مع الشتات الأندلسي:

- ‌مراجعالفصل الحادي عشر

- ‌الفصل الثاني عشرالشتات الأندلسي اليوم

- ‌12/ 1 - الأندلسيون في المغرب:

- ‌12/ 2 - الأندلسيون في تونس:

- ‌12/ 3 - الأندلسيون في باقي القارة الإفريقية:

- ‌12/ 5 - الأندلسيون في باقي أوروبا وأمريكا:

- ‌مراجعالفصل الثاني عشر

- ‌خاتمة

- ‌ملحق معاهدة تسليم غرناطة المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين

- ‌المادة الأولى:

- ‌المادة الثانية:

- ‌المادة الثالثة:

- ‌المادة الرابعة:

- ‌المادة الخامسة:

- ‌المادة السادسة:

- ‌المادة السابعة:

- ‌المادة الثامنة:

- ‌المادة التاسعة:

- ‌المادة العاشرة:

- ‌المادة الحادية عشر:

- ‌المادة الثانية عشر:

- ‌المادة الثالثة عشر:

- ‌المادة الرابعة عشر:

- ‌المادة الخامسة عشر:

- ‌المادة السادسة عشر:

- ‌المادة السابعة عشر:

- ‌المادة الثامنة عشر:

- ‌المادة التاسعة عشر:

- ‌المادة العشرون:

- ‌المادة الحادية والعشرون:

- ‌المادة الثانية والعشرون:

- ‌المادة الثالثة والعشرون:

- ‌المادة الرابعة والعشرون:

- ‌المادة الخامسة والعشرون:

- ‌المادة السادسة والعشرون:

- ‌المادة السابعة والعشرون:

- ‌المادة الثامنة والعشرون:

- ‌المادة التاسعة والعشرون:

- ‌المادة الثلاثون:

- ‌المادة الحادية والثلاثون:

- ‌المادة الثانية والثلاثون:

- ‌المادة الثالثة والثلاثون:

- ‌المادة الرابعة والثلاثون:

- ‌المادة الخامسة والثلاثون:

- ‌المادة السادسة والثلاثون:

- ‌المادة السابعة والثلاثون:

- ‌المادة الثامنة والثلاثون:

- ‌المادة التاسعة والثلاثون:

- ‌المادة الأربعون:

- ‌المادة الحادية والأربعون:

- ‌المادة الثانية والأربعون:

- ‌المادة الثالثة والأربعون:

- ‌المادة الرابعة والأربعون:

- ‌المادة الخامسة والأربعون:

- ‌المادة السادسة والأربعون:

- ‌المادة السابعة والأربعون:

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني

‌مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني

"انبعاث الإسلام في الأندلس "! الله أكبر! ولا غالب إلا الله! نعم، ذلك ما حدث في الأندلس بالفعل، بعد موت الديكتاتور الإسباني الجنيرال فرانكو. الصليبي الصميم، وإعلان إسبانيا دولة ملكية دستورية لا مركزية، اعترفت بالقوميات المختلفة، ومن بينها القومية الأندلسية، واعترفت بالدين الإسلامي. فأعلن بعض الأندلسيين عن إسلامهم، وأسسوا المساجد والجمعيات والمراكز الإسلامية، وأعلنوا الآذان لصلاة الجماعة والجمعة، واحتفلوا بالأعياد الإسلامية، وعقدوا الندوات والمؤتمرات الإسلامية بمشاركة مسلمين غير أندلسيين.

وإذا كانت هذه الأمور قد أصبحت عادية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في كل أنحاء العالم، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا واليابان وأمريكا الشمالية والجنوبية وغيرها. فإن الأمر في الأندلس يختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا.

فقد أسّس الإسلام في الأندلس دولة عظيمة، وأقام حضارة شامخة، ساهم فيها الأندلسيون والمغاربة والمشارقة والمولدون والموالي واليهود، وكان لها إيجابياتها وسلبياتها، وأنجبت أعلامًا فطاحل في مختلف فروع المعرفة بدون استثناء، فأغنوا الخزانة العلمية الإسلامية العربية بآلاف المجلدات، ونشروا المعرفة على نطاق واسع حتى لم يبق في الأندلس كلها أمي ولا أمية، كما يؤكد ذلك " دوزي "، المستشرق الهولاندي.

ومع أن دولة الأندلس الإسلامية كان يعيش فيها مع المسلمين اليهود والنصارى في أمن وسلام، يتمتعون بحريتهم الدينية التي ضمنها لهم الإسلام، وينهلون من معين المعرفة على أوسع نطاق، فإن الصليبية الجهولة المتوحشة المشركة الوثنية أعلنتها

ص: 9

حرب إبادة شرسة ضد المسلمين والإسلام، وحضارته وثقافته وعلومه، في معركة، استمرت عدة قرون. نعم عدة قرون.

وذلك ما يتحدّث عنه هذا الكتاب "انبعاث الإسلام في الأندلس "بقلم الدكتور علي بن المنتصر الكتاني، معتمدًا على حوالي خمسمائة مصدر أغلبها مصادر إسبانية بأسمائها وصفحاتها، وبذلك يملأ فراغاً في المكتبة العربية والإسلامية.

لقد قرر الطغاة الصليبيون منع الإسلام بالأندلس، فهاجر منها مَن هاجر من المسلمين، وهجروا مَن هجروا، وقرر مَن لم يهاجروا، أو بعضهم، أن يخضعوا للتنصير ظاهريًّا، ويحتفظوا بإسلامهم خفية، في انتظار أن يأتيهم الفرج من عند الله.

ولكن الكنيسة لم تنخدع، فكانت تحاكم مَن ظهر عليه إخفاء الإسلام، كالاغتسال أو الامتناع عن أكل الخنزير أو شرب الخمر، وقد تحكم عليه بإحراقه حيًّا في ساحة المدينة بحضور الجماهير! وأذكر بالمناسبة أنني قرأت عن رسالة جامعية قُدِّمت لكلية الآداب بجامعة محمد الخامس استنادًا إلى وثائق برتغالية عن محاكمة نساء بإخفائهن الإسلام. وقد تحدّث الشهاب الحجري عن تربية والده له على الكتمان، بتعاون مع أُمه وعمه، قبل أن يلقّنه العقيدة الإسلامية، وتوصيته بإخفاء ما يقوله عن أمه وعمه.

وإني لأذكر أني في أول زيارة لي في غرناطة كنت مارًّا بحيّ البيازين، فمررت بدار يدخلها السّوّاح، فدخلت معهم، ووجدت شابة جالسة في "برطال" الدار، وبين يديها "مرمة" تطرز فيها منديلاً طرز "الغرزة"، كأنما هي في دار فاسية. وقد لفت نظري أن الشابة كانت مقبلة على عملها من غير أن تبالي بالواقفين حولها أو ترفع رأسها للنظر إليهم. وخطر ببالي إذ ذاك أن ذلك من بقايا التربية الإسلامية التي كانت الفتيات المسلمات يتربين عليها، ولم يخطر لي ببال أنه ما يزال بالأندلس مسلمون يخفون إسلامهم.

وحدَّثني صديقنا الأديب الكبير خير الدين الزركلي رحمه الله أنه كان في زيارة للأشبونة واستدعاه أحد وجهائها، وأثناء الحديث قال له:"إننا ما نزال مسلمين نتوارثه عن جدودنا منذ العهد الإسلامي".

وأخبرني الدكتور محمد الناصري، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن شابين سلاويين أخبراه أنهما كانا في إسبانيا، فلقيهما رجل في

ص: 10

إحدى المدن فسلم عليهما وسألهما عن بلدهما. ولما عرف أنهما مغربيان استدعاهما لتناول طعام الفطور عنده وأعطاهما عنوانه. فلما ذهبا وجدا دارًا نظيفة مثل دور المسلمين، ورحبت بهما العائلة المحتشمة، وقالوا لهما:"إننا مسلمون نخفي إسلامنا ". ولم يفهم الشابان معنى لهذا.

وأخبرتني الدكتورة آمنة اللوه أنها كانت في الأندلس صحبة زوجها، صديقنا الأستاذ إبراهيم الألغي رحمه الله، فالتقيا في الطريق بأسرة أندلسية لاحظا أن نسائها يرتدين ثيابًا محتشمة، فتعارفا، وأخبرتهما أنهم مسلمون يخفون إسلامهم.

وقرأت في جريدة "النور" الإسلامية التي تصدر بتطوان مقالاً بقلم مديرها

صديقنا الدكتور إسماعيل الخطيب يتحدث فيه عن حضوره أول صلاة للعيد أقامها

المسلمون بمدينة غرناطة بعد إعلان الحرية الدينية بإسبانيا، وذكر أن من بين الذين

حضروا الصلاة شخص كان يحمل حقيبة أخرج منها ثوبًا إسلاميًّا لبسه بعد أن نزع

ثوبه النصراني، وأنه من المسلمين الذين كانوا يخفون إسلامهم. وقد اهتز كياني

واقشعرّ جلدي وأنا أقرأ هذا الخبر، وأسفت أسفًا شديدًا أن الدكتور لم يتصل بهذا

الرجل ويسأله عن شعوره في هذه المناسبة، وعن تجاربه الإسلامية في المرحلة

السابقة.

وبهذه المناسبة أشير إلى أن المكتبة الأندلسية، والإسلامية على العموم، في

حاجة أكيدة إلى معلومات وافية يُدلي بها هؤلاء الذين عاشوا هذه الحياة المزدوجة بين

النصرانية في العَلَن والإسلام في السّرّ. فإن استمرار جماعة من المسلمين الأندلسيين،

يعيشون مدة خمسة قرون حياة مزدوجة، يتظاهرون فيها بالنصرانية ويسرّون الإسلام،

مُتَعَرّضين في ذلك لمختلف الأخطار والأهوال التي تحدث عنها الكتاب ليعتبر ظاهرة

فريدة في المجتمع البشري، وخارقة للعادة بكل المقاييس، تبين بكل وضوح أن الدين

الإسلامي هو دين الفِطرة التي فطر الناس عليها، كما قال الله سبحانه، وهو أصدق

القائلين، وأنه استطاع أن يمتزج بأرواح وشغاف قلوب أفراد هذا الشعب الأندلسي

النبيل، رجالاً ونساء وأطفالاً، بدوًا وحضرًا، ويكون منهم أمة إسلامية حقيقية

استطاعت أن تحقق للإسلام هذه المعجزة العظمى، فتصمد في ميدان التحدّي خمسة

قرون، لا سلام لها إلا إيمانها الذي لا يغلب.

لقد تبيّن بما لم يبق معه شك ولا لَبْس ولا إبهام، أن جماعة من مسلمي

الأندلس الذين لم يغادروا الأندلس عندما استولى الصليبيون عليها، قد تنصروا ظاهرًا

ص: 11

مرغمين، واستمروا مسلمين مختفين، إلى أن "انبعث الإسلام بالأندلس "من جديد، فأظهروا ما كانوا يخفون. وتمثلت هذه الظاهرة الخارقة في ذلك المؤمن الأندلسي المجهول الذي شاهده الدكتور إسماعيل الخطيب يحضر صلاة العيد في غرناطة حاملاً حقيبته التي فيها ثوبه الذي كان يصلي به. واستمر المسلمون الأندلسيون يخفون إسلامهم خمسمائة عام إلى أن عادت الحرية الدينية لإسبانيا، واعترفت حكومتها بالدين الإسلامي، وبالقومية الأندلسية المتميزة التي جذورها الإسلام والعربية حسبما قرره بطلها في العصر الحديث الشهيد بلاس انفانتي، تغمده الله بواسع رحمته. فنؤكد أن التعرف على هؤلاء والتعريف بهم أمر شديد الأهمية لدرجة قصوى سواء من لا يزال منهم حيًّا لحد الآن، أو من أدركه أجله منذ "انبعاث الإسلام بالأندلس "، وكذلك كل من عرف أنه كان مسلمًا أيام "التقية ".

وقد تحدّث الدكتور علي الكتاني في الكتاب عن الشهيد أنفانتي رحمه الله حديثًا مستفيضًا، ومهمًّا جدًّا. وأخبرني أحد التطوانيين أنه كان يزور كثيرًا شمال المغرب، وكان له أصدقاء مغاربة. وذكر الكتاب أن خليل ابن أمية، رحمه الله، غامر بإعلان إسلامه في وقت لم يكن يجرؤ على ذلك أحد، وكان رحمه الله معروفًا بيننا بخليل ابن أمية، وكان صديقًا حميمًا لبطل الإسلام الخالد الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، كما كان عضوًا في جمعية إسبانية أسستها الحركة الوطنية المغربية من الإسبان الذين يعطفون على الحركة الوطنية، ولعلها كانت تسمى "بيت المغرب ". كما تحدث الكتاب عن البطل الشهيد محمد ابن أمية (فرناندو دي بالور) الذي قاد الثورة الإسلامية العظمى في جبال البشرات.

وهل مَرَدّ عدم إعلان عدد أكبر من الأندلسيين إسلامهم يعود إلى أنهم ما زالوا لم يطمئنوا إلى هذا الإعلان، أو يخشون أن يحدث انقلاب جديد يلغي هذا الإعلان ويعود الوضع إلى ما كان عليه من قبل، خصوصًا والكتاب يتحدث عن أن الكنيسة تقيم الاحتفالات بذكريات احتلال المدن وما ارتكبته فيها بتلك المناسبات من مذابح وجرائم!؟ وفي السبعينات من القرن الميلادي الجاري عقد رهبان مسجد قرطبة (الكاتدرائية)، برئاسة مطران قرطبة، لقاء دعوا له مسلمين من المغرب والمشرق، وقالوا إنه حوار بين الإسلام والمسيحية، وإنهم نظموه من تلقاء أنفسهم لم يستشيروا فيه مع الفاتيكان! وقالوا إنهم يعترفون بأن محمدًا رسول الله حقًا وصدقًا، وإنه صادق

ص: 12

أمين، وإنهم يعترفون بأنهم كذبوا عليه، وشوهوا سمعته، ونسبوا إليه ما هو صلى الله عليه وسلم منه بريء، وإنهم فعلوا ذلك بعد أن لاحظوا أنه لم يبق في شمال إفريقيا نصراني واحد، فحتى لا يقع في الأندلس ما وقع في بلدان المغرب فعلوا ما فعلوا. وقالوا إنهم يعترفون أن عندهم في دينهم أشياء غير معقولة تلقوها عن قدمائهم، فهم يؤمنون بها من غير أن يفهموها. كما أن عند المسلمين في دينهم أشياء يعترفون بأنها غير مفهومة. ثم اقترحوا على المسلمين أن يلغوا فكرة الجهاد حتى يمكن للنصارى أن يتعايشوا مع المسلمين. ثم أذنوا للمسلمين بصلاة الجمعة في مسجد قرطبة لأول مرة من استيلاء النصارى عليه. ذلك ما وعته ذاكرتي من مقال نشرته مجلة"العربي" الكويتية، ولست أدري بماذا أجاب المسلمون الحاضرون.

ولعل من المناسب أن أذكر رأي الإسلام في بعض ما قاله الرهبان: إن ما وقع في إفريقيا الشمالية (المغرب العربي) بعد الفتح الإسلامي، من تخلي السكان عن النصرانية حتى لم يبق في البلاد نصراني واحد، فمن المقطوع به أن ذلك لم يكن ناشئًا عن جهاد ولا ضغط ولا إرغام، وإنما كان أمرًا تلقائيًّا، يمكن البحث عن سببه أو أسبابه خارج نطاق الجهاد والإكراه. ولعل من أسباب ذلك ما يتحدث عنه هذا الكتاب من صمود جماعة من مسلمي الأندلس طوال خمسمائة عام متمسكين بإسلامهم مستهينين بالأهوال التي تحدث عنها الكتاب.

وأما ما قالوه عن اللامعقول في المسيحية والإسلام فنحيلهم على كتابين، أحدهما"كتاب الملل والنحل"تأليف العالم القرطبي المسلم أبي محمد بن حزم، وهو أول كتاب وضع في علم تاريخ الأديان المقارن. وقد درسه جيدًا أو ترجمه إلى الإسبانية المستشرق القس أسين بلاثيوس، ونشرته الأكاديمية الملكية الإسبانية في مجريط في خمس مجلدات. وأما الكتاب الثاني فهو"الكتب المقدسة والعلم الحديث"تأليف الجراح الفرنسي المعاصر المسلم موريس بوكاي. هو مطبوع بالفرنسية في طبعة عادية وأخرى شعبية للجيب وبالعربية وبالإنجليزية.

وأما قولهم عن الجهاد، فنقول إنه تشريع اضطر إليه الإسلام للدفاع عن نفسه وعن المسلمين. والجهاد كما يكون بالسلام يكون بالحوار والمحاججة. وقد قال الله لرسوله عن القرآن:"وجاهدهم به جهادًا كبيرًا". وما يزال القرآن من أعظم الأسلحة التي لا تغلب. وقد دخل في الإسلام في هذا العصر ما لا يعد في مختلف أنحاء العالم ممن اطلعوا عليه مترجمًا إلى غير العربية، وأحيانًا تكون الترجمة غير دقيقة، بل

ص: 13

وأحيانًا غير أمينة! وصدق الله العظيم إذ يقول: {سَنُرِيهِمْءَايَاتِنَا فِى اَْلآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} [فصلت: الآية 53].

ونعود إلى الحديث عن جامع قرطبة، فبعد أن أخذ الإسلام يظهر علنًا بين مواطني قرطبة، وتكوّنت أول جماعة إسلامية لهم بها، تنكّر مطران قرطبة لكل كلماته المعسولة، وأخذ يتهجم على الإسلام وأهله كما ذكر الكتاب، ويرجع بالمسلمين الأندلسيين إلى أسوأ الذكريات من أعمال سلف المطران سيئي الذكر. ووصل الحقد بالمطران والكنيسة إلى منع المسلمين، بما فيهم أهل قرطبة، من الصلاة في مسجد قرطبة الأعظم منعًا باتًا. وانقطعت بعد ظهور الإسلام في قرطبة علانية مؤتمرات الكنيسة مدعية الحوار مع المسلمين.

وذكرت جريدة"العلم"المغربية في عددها الصادر بتاريخ 25 أكتوبر 1990 م خبرًا ورد في أثنائه أن مسجد النور بمجريط شيد قبل حوالي سنة بفضل هبات الجالية المغربية المقيمة بمجريط، وأن ملحقًا بسفارة المغرب بإسبانيا يشرف على تعليم اللغة العربية للجالية المغربية. وقالت عن المسجد إنه أحد مساجد مجريط! وذلك مظهر آخر من مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس". وبضواحي مدينة مربلة (مقاطعة مالقة) بني أحد الأمراء السعوديين مسجدًا بالقرب من قصر له هناك، وقد صليت فيه بعض الأوقات.

ولعل من طريف مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس"نصب تماثيل لبعض رموز الوجود الإسلامي ببعض المدن الأندلسية. وقد كنا رأينا صورة تمثال للإمام أبي محمد بن حزم نصب في قرطبة، وقرأنا عن الاحتفال بنصبه، وسمعنا عن نصب تمثال بقرطبة للفيلسوف ابن رشد. ورأيت في إحدى ساحات مالقة تمثالاً لشخص عربي لم أدر من هو.

وقد وقف الشاعر المغربي محمد الحلوي بمدينة المنكب (مقاطعة غرناطة) على تمثال لعبد الرحمن الداخل، فأوحى له برائعة عنوانها"أما آن للفارس أن يترجل؟ "(جريدة"العلم"23/ 10/ 1990 م، ص 10) يقول فيها:

أما آنَ للصقر المحلّق في العُلا على قمم الفردوس أن يترجَلا؟

مُطِلاًّ من الماضي بقامة فارس ومرهف سيف كان في اليد مِشعَلا

وفي هامة شمَّاء شَدَت حمامة تظلّل وجهًا أسمرًا قد تهلّلا ..

شددت إلى تمثاله ورأيت في ملامحه عزًّا ومجدًا تَمَثَّلا

ص: 14

تجشّمت أن أرقى إليه فلم أجد وقد ملأ الإجلال قلبي أرجلا

فقبّلت بُردًا لف أطيب منكب وأكرم به بُردًا وإن شفَّه البلا

كأن على أكتافه كلّ ما بُنِي وما شُيِّد من مجد أخيرًا وأوّلا

فللَّه نحّات أعاد حقيقة بإزميله ما كان لي متخيَّلا ..

سلامٌ على غرناطة وقصورها وماضٍ سِنِي مستطاب بها حلا

والأندلس الإسلامية مغربية، وكذلك سمي النصارى الإسبان جميع المسلمين بالمغاربة"المورو"، وسمي عرب المشرق الأندلسيين مغاربة، وأدخلوهم في أوقاف المغاربة في الحجاز وبيت المقدس، وفي رُواق المغاربة في الأزهر بمصر. فبمجرد ما أكرم الله المغاربة بالدخول في الإسلام سارعوا إلى إدخاله إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد المغربي. واستشهد الكثيرون منهم، واستقر كثيرون آخرون هناك للدفاع عن الإسلام والمسلمين. وتوحد الشعبان في نطاق الإسلام والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر اختلاف الأنظمة الحاكمة في هذه الوحدة الشعبية إطلاقًا. وكذلك كان التنقل بين "العدوتين"، الأندلسية والمغربية، عبر البوغاز، أو المجاز، أمرًا عاديًا مستمرًا في الاتجاهين. وكان الأتقياء من المغاربة يذهبون إلى المرابطة في الأندلس في مواعيد محددة، ثم يعودون إلى ديارهم. وأكتفي بإيراد مثل واحد، هو عالم فاس دراس بن إسماعيل رحمه الله الذي تعلم في فاس وقرطبة والقيروان وبغداد، وأدخل مدونة سحنون للمغرب، وكان يدرسها بفاس. وكان يتردد على الأندلس ليرابط بها. والمرابطة نظام إسلامي طبقه المسلمون في المشرق والمغرب، كما هو معلوم. وكما قال لسان الدين ابن الخطيب:

حتى إذا سلك الخلافة انتثر وذهب العين جميعًا والأثر

قام بكل بلدة مليك وصاح فوق كل غصن ديك

ولكن هذه الديكة عجزت عن الدفاع عن نفسها، فاستغاثت بيوسف بن تاشفين، فقاد معركة الزلاقة المظفرة التي زادت في عمر الإسلام بالأندلس أربعة قرون، وأصبحت الأندلس جزءًا من الإمبراطورية المرابطية ثم الموحدية، التي كانت تمتد شرقًا إلى حدود مصر، وغربًا إلى حدود غانة وراء الصحراء الإفريقية الكبرى. وكان الأندلسيون يتولون فيها مناصب سامية، وفضل بعضهم مغادرة الأندلس والاستقرار في مختلف أنحاء هذه الإمبراطورية الشاسعة الأطراف، بل فيهم من تجاوزها إلى الاستقرار في أنحاء المشرق العربي.

ص: 15

وحتى عندما انفصلت الأندلس عن المغرب على عهد الدولة المرينية، بقي المغرب مرتبطًا ارتباطًا عضويًا متينًا بمشاكل الأندلس. وقد نشرت أكاديمية المملكة المغربية ديوان ابن فركون، وقد تضمن مضامين تاريخية، وهي مضامين تعرف لأول مرة وتكشف النقاب عن محنة دولة مجيدة هي دولة بني مرين التي قدّمت الكثير لأهل الجزيرة اليتيمة، وضحّت بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الإسلام بالفردوس المفقود، فلم تلق إلا نكران الجميل، وحبك الدسائس، والمؤامرات كما ذكر الأستاذ محمد بن شريفة.

ولقد أدّى المغرب ثمنًا باهظًا جدًّا لدفاعه عن الأندلس كاد أن يكون قاتلاً، فاحتلت شواطئه الأطلسية والمتوسطية من قبل الإسبانيين والبرتغاليين الذين جعلوا من الجديدة وآسفى منطلقًا للعبث في الأرض المغربية حتى أنهم وصلوا مرة إلى ضواحي عاصمة مراكش. وكان فضل الدولتين السعدية أولاً، والعلوية ثانيًا، لا يقدر في المحافظة على الإسلام بالمغرب وضد الاعتداءات الصليبية عليه، ومحاولة تحرير شواطئه المختلفة، وكانت وقعة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة)، التي قضت على الدولة البرتغالية بانضمامها إلى العرش الإسباني، بعدما كانت دولة عالمية، معركة فاصلة في إفشال المخطط الصليبي الجهنمي الهادف إلى القضاء نهائيًّا على الإسلام في المغرب العربي، شرقه وغربه. وتعتبر مشاركة الأندلسيين في المعركة من باب مشاركة جميع العناصر المغربية التي ساهمت بصفة طبيعية فيها، كل من موقعه الخاص. كما اعتاد المغاربة طوال القرون السابقة أن يتسابقوا تلقائيًّا إلى المشاركة في مختلف المعارك الأندلسية باعتبارها معاركهم الخاصة.

وهنا ينساق بنا الحديث إلى ظاهرة المفاخرات بين المدن والحارات والأمم.

ففي باريس يعتبر سكان"جزيرة فرنسا"(ليل دوفراس) وسط باريس، حيث كاتدرائية نوتردام، نفسهم الباريسيين الحقيقيين، ومن عداهم طارئين، وكذلك المفاخرة بين سكان ضفتي نهر السين بها. وقد كان لي طبيب بباريس يسألني مازحًا إذا وصلت عنده:"في أية ضفة تنزل حتى نعرف هل أنت من جهتنا أو من خصومنا!؟ ".

والمفاخرات بين الفرنسيين والألمانيين، وبينهم وبين البريطانيين والإسبانيين، مما سارت بذكره الركبان، وكذلك بين الحجازيين واليمنيين، والمصريين والشاميين، والسلاويين والرباطيين، والطنجيين والتطوانيين. ويخترق مدينة فاس وادي الجواهر، ويسكن إحدى عدوتيه اللمطيون، ويسكن الأخرى الأندلسيون، ومن حارات عدوة

ص: 16

اللمطيين الطالعتان الكبرى والصغرى، فإذا تحدث سكان عدوة الأندلس عن سكان الطالعة قالوا بصيغة التحقير:"إنه من سكان الطوالع". ولكن شاعرًا من سكان الطالعة قال:

إذا كنت في فاس ولم تكن ساكنًا

بطالعها الأعلى فما أنت من فاس

ومن أروع مظاهر تعلق المغاربة بأندلسهم وأهلها ما ورد في الكتاب من وصول مائتي متطوع مغربي للمشاركة في ثورة الأندلسيين الكبرى بقيادة ابن أمية. فلنفكر جيدًا في الظروف والملابسات والصعوبات التي سبقت هذا الوصول. فهم ليسوا جنودًا نظاميين، ولم تبعثهم دولة، فكيف وصلتهم الدعوة؟ وكيف اجتمعوا؟ وكيف هيأوا السفن التي أقلتهم؟ ومن أين أقلعوا، والشواطىء المغربية ومراسيها يحتلها الأعداء؟ والمهم بعد كل ذلك أنهم ما جاؤوا طامعين في أي مكسب مادي أو معنوي، وإنما جاؤوا يطلبون الشهادة في سبيل الله، ويسعون لإنقاذ إخوانهم المسلمين مما هم فيه.

وقد قال الشاعر:

والجود بالنفس

أقصى غاية الجود!

ثم مَن هم؟ ما هي أسماؤهم أو قبائلهم؟ وماذا كان مآلهم؟ وكلها أسئلة، وكثير غيرها، تبقى بدون جواب. رضي الله عنهم وأرضاهم -، وأنعم عليهم بما وعد به الشهداء في سبيله.

وذكر الكتاب في فصول عديدة فظائع من التعذيب والتنكيل التي لقيها المسلمون الأندلسيون. وقد وقع اكتشاف في السنين الأخيرة لكهف مليء بجثث عديد من المسلمين المصفدين في الأغلال أدخلهم إليه النصارى وأغلقوه عليهم. وقد نشر صديقنا الدكتور عبد الرحمن الحجي العراقي مقالاً في الموضوع في مجلة"منار الإسلام"الإماراتية مصحوبًا بعدة صور، كان سبق له أن أهداني نسخًا منها.

وأشار الكتاب إلى الوثائق التي عثر عليها في أحد الكهوف بالأندلس. وكانت الدكتورة آمنة اللوه قد ألقت في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط محاضرة عمومية عن هذا الموضوع ونشرتها بمجلة"البحث العلمي".

وتحدّث الكتاب عن الأندلسيين خارج الأندلس. ففي الكلام عنهم في المغرب أشار إلى عددهم الضخم، وهو أمر طبيعي في بلد عاشوا مواطنين فيه عدة قرون، مقابل عدد ضخم من المغاربة الباقين بالأندلس. وقد ذكر منهم بعض العائلات التي

ص: 17

نسبها إلى الأندلس كالقصرى نسبة للقصر، وعائلات منسوبة إلى قبائل مغربية انتقل بعض أفرادها إلى الأندلس مدة ثم عاد منهم من عاد، وذكر من الأندلسيين شخصًا اسمه أزمور كان البرتغاليون أخذوه معهم لأمريكا الجنوبية، مع أن أزمور مدينة مغربية تقع بالقرب من مدينة الجديدة التي كانوا يحتلونها (مازنغان).

وذكر كثيرًا من العائلات الموجودة بتونس، مثل عائلة ابن عاشور التي ينتمي إليها صديقنا الشيخ الفاضل ابن عاشور ووالده الشيخ محمد الطاهر رحمهما الله. ومن الشخصيات الأندلسية عبد الله الترجمان (القرن التاسع الهجري) الميورقي. كان نصرانيًّا، والتحق بمدرسة لتكوين الرهبان، وتخلف الراهب المدرس عن الحضور في أحد الأيام لمرض اعتراه، فذهب الطالب يعوده. وتنوع الحديث بينهما إلى أن لاحظ المدرس ذكاء الطالب وحرصه على التعلم، فقرر أن يعترف له بسر بعد أن يعاهده على أن لا يذيعه ما دام المدرس حيًّا، مع أنه إذا أذاعه فلن يصدقه أحد! ثم قال له إنه توصل إلى أنهم في ضلال مبين، وأن الدين الصحيح هو دين الإسلام. ولما سأله الطالب لم لا يعلن هذه الحقيقة على الملأ؟ قال له إن نفسه لم تسمح بالتضحية بحياة الرفاهية والبذخ التي يحياها. فأقبل الطالب على البحث إلى أن توصل للنتيجة التي توصل إليها أستاذه. اهتبل فرصة رحلة سياحية في البحر المتوسط، فشارك فيها. وفي تونس طلب مقابلة أميرها الحفصي أبي العباس أحمد، وبين يديه أعلن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم طلب اللجوء السياسي، وألف رسالة"تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"فرغ من تأليفها سنة 823 هـ وطبعت بتونس في 1290 هـ، وفي مصر 1895 م في 68 ص.

وعند كلامه على الأندلسيين بالشام ذكر من بينهم مغربيًّا صميمًا هو أبو الحسن الحرالي المولود بمراكش والمتوفَّى بمدينة حماة من بلاد الشام سنة 638 هـ. قال عنه دارسه الأستاذ محمادي الخياطي في رسالته"أبو الحسن الحرالي المراكشي"التي نال بها تحت إشرافي شهادة الدكتوراه بدار الحديث الحسنية بالرباط:"فالحرالي مراكشي نشأة ودراسة وفكرًا وثقافة". وشد الرحلة من مراكش إلى مدينة فاس، فأخذ عن أعلامها كابن الكتاني الفندلاوي، وأبي محمد القرطبي الذي تلقى عنه نظريته في مناسبات الآيات القرآنية، الذي يعرف اليوم"بوحدة الموضوع في السورة القرآنية"، وألف فيها"مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل". وقد درسه محمادي الخياطي المذكور في دراسته التي أشرت إليها. وشرع الحرالي في وضع تفسير للقرآن يبين فيه

ص: 18

المناسبات بين الآيات ولكنه لم يتمه، فأدخله البقاعي في تفسير وضعه في الموضوع وأتمه، وسمعت أنه طبع في الهند.

سبقت الإشارة إلى المساهمة العلمية الممتازة والمتميزة التي ساهم بها علماء الأندلس المسلمون في الميدان العلمي، والتي كان لها تأثيرها الفعال في مسيرة التطور العلمي على نطاق عالمي. كما سبقت الإشارة إلى الجريمة الشنيعة التي ارتكبها الرهبان المتوحشون الجهلة ضد الإنسانية جمعاء، وضد الحضارة البشرية، عندما أحرقوا مئات الآلاف من المجلدات العلمية الأندلسية في مختلف ميادين المعرفة في نوبة جنون هستيري مسعور، الأمر الذي أضاع على البحث العلمي حلقات مهمة، يمكن أخذ صورة مصغرة عنها من مراجعة كتب التراجم التي لم تضع فيما ضاع. وأشير مثلاً إلى"كتاب النبات"لأبي العباس بن الرومية، ومؤلفات بقي بن مخلد وابن حزم، وآلاف الأمثلة! أنها فاجعة إنسانية من نوع القنبلة الذرية في هيروشما وناكازاكي في اليابان.

وكما أخفى المسلمون إسلامهم، أخفوا مخطوطاتهم في انتظار فرج الله، خشية أن يحرقوها كما أحرقوا غيرها. فقد ذكر لي الباحث التونسي المرحوم عثمان الكعاك أن أحد الأندلسيين هدم سقف بيته وبنى سفله سقفًا ملأه كتبًا، ثم بنى فوقه سقفًا آخر حتى لا يكتشفه أحد، فبقي كذلك إلى أن اكتشف في هذا العصر عندما انهدم المنزل. وقد جاءني مرة الملحق الثقافي الإسباني، وكان زميلاً لي بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، بأوراق عربية حملها معه من إسبانيا، وقع العثور عليها مدونة في طليطلة، لأطلعه على موضوعها، فإذا هي أذكار ودعوات. وقد كنت اطلعت في مدرسة الدراسات العربية بمجريط على مخطوطات عربية احترقت أطرافها بالرطوبة، فلعلها كانت مدفونة بهذه الطريقة.

ومن الألطاف الإلهية أن آلاف المؤلفات الأندلسية كانت قد انتقلت من الأندلس

إلى مختلف المراكز العلمية في العالمين الإسلامي والمسيحي، فكونت الوجود الحي

والمستمر للإسلام الأندلسي عبر العالم تحقيقًا لوعد الله الصادق:"يريدون أن يطفؤوا

نور الله بأفواههم والله متم نوره، ولو كره المشركون".

ونظمت الكنائس العالمية غاراتها على العالم الإسلامي لاختلاس مخطوطاته المهمة، في مختلف الموضوعات، ونقلها بالغدر واللصوصية والخيانة إلى الخزائن الأوروبية في الجامعات والأديرة والكاتدرائيات، والتجند للترجمة والدراسة والتزوير

ص: 19

والتضليل والنشر. وفي هذا الإطار وقع الاهتمام في إسبانيا النصرانية ببعض المخطوطات العربية في بعض الجامعات والكاتدرائيات، كجامعة إشبيلية وكاتدرائية طليطلة وجامعة غرناطة ومكتبة الجبل المقدس وأكاديمية العلوم في قرطبة وأكاديمية التاريخ بمجريط والمكتبة الوطنية وكاتدرائية ليون. وقد كنت نشرت عن بعض المخطوطات المغربية في هذه المراكز المجريطية في"دعوة الحق"المغربية.

ولكن سمعة إسبانيا العالمية في ميدان المخطوطات العربية ستأتيها عن طريق خزانة مغربية ملكية بواسطة خيانة بحارة فرنسيين استأجرهم السلطان زيدان السعدي لينقلوا له خزانته الملكية، ففروا بها إلى فرنسا. ولكن القرصان الإسبانيين استولوا في البحر عليها، ووضعتها الحكومة الإسبانية في دير الأسكوريال.

واهتمت الدراسات الاستشراقية بصفة خاصة بتاريخ الأندلس وحضارتها وثقافتها. وتأسست المطابع العربية في البلاد الأوروبية، ومن بينها إسبانيا، لنشر المخطوطات العربية. ومن بين ما نشر بها ما عرف بالمكتبة الأندلسية، وهو تواريخ لعلماء الأندلس لابن الفرضي وابن بشكوال وابن الأبار والضبي وفهرسة ابن خير، إلى جانب دراسات المستشرقين الإسبان بالإسبانية عن جوانب مختلفة من الفكر الإسلامي في الأندلس، على علاتها. ومن المعلوم أن من المستشرقين من يتحامل على التاريخ الأندلسي الإسلامي منطلقًا من وجهة نظر نصرانية، ومنهم من أنصفه منطلقًا من وجهة نظر إسلامية مثل دوزي الهولاندي وديسي ميراندا (صديقي بالمراسلة) وغيرهما.

وذلك مظهر من مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس"على نطاق ثقافي بعد أن توهم الفاتحون المبيدون استطاعتهم القضاء عليه. وقد ذكر كتاب"انبعاث الإسلام بالأندلس"مجلة"الأندلس"وسمعنا عن"الموسوعة الأندلسية"وقرأنا مقالاً معربًا منها عن"عباس بن فرناس"أول إنسان طار في الجو.

وكذلك استمر الوجود الثقافي الأندلسي قويًا، وعلى نطاق واسع خارج

الأندلس. عن طريق المخطوطات والمطبوعات والدراسات الأندلسية، وهو موضوع شاسع أكتفي بالإشارة إليه.

وقد عاشت الأندلس الإسلامية في ضمير جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وأحدث سقوطها جرحًا عميقًا في قلب كل مسلم، فلا تذكر إلا مقرونة بدعاء:"ردها الله دار إسلام! ".

ص: 20

ومن مظاهر الوجود الأندلسي في المغرب كتاب "الاكتفاء في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفاء " للشهيد الأندلسي أبي الربيع الكلاعي، الذي استشهد مدافعًا عن مدينته " بلنسية "، وهو على بغلته يثبت المجاهدين، ويقوي معنويتهم، مقبلاً غير مدبر. فقد أوقف المغاربة الكراسي في مختلف المساجد لتتلى صفحات منه بعد صلاة الجمعة، في فاس ومكناس مثلاً، وجعلته الدولة المغربية كتاب تربية روحية للجيش المغربي. وكان مجلس الملك يفتتح بتلاوة قطعة منه.

وكانت خارج باب أبي الجنود بفاس ساحة كبرى، على غرار جامع الفنا بمراكش، تجتمع فيها الجماهير الشعبية للاستماع للقصاصين (الفداوية) الذين يقصون المغازي الإسلامية. وقد ذكر الرحالة الجواتيمالي في كتابه الحفيل " فاس الأندلسية " أنه استمع إلى قاص بها يتحدث عن وقعة إقليش الأندلسية، وكانت زيارته لفاس سنة 1917 م (مجلة " البحث العلمي ").

ومن المعلوم أن مدينة فاس تنقسم إلى عدوتين: عدوة اللمطيين وفيها درب يسمى " طريانة "، وهو اسم أندلسي لمدينة على الضفة اليمنى للوادي الكبير من مدينة إشبيلية، وهي اليوم حي من أحيائها. وعدوة فاس الثانية هي عدوة الأندلس، وفيها جامع الأندلس. وفي كثير من مدن المغرب جامع الأندلس.

والأندلس موجودة في المغرب بصفة واسعة على نطاق حضاري. فموسيقى الآلة وصلت المغرب من الأندلس وتمغربت في المغرب. ومن فواكه وخضر المغرب الفول المالقي، والبرقوق البلنسي، والرمان السفري، وهو رمان لا عجب (عظم) له جاء به إلى قرطبة من الشام شخص اسمه سفر، نسب إليه، ونقل لفاس وتازة باسمه القرطبي، وطعام " البسطيلة " الفاخر المغربي ذو شهرة عالمية في الحفلات المغربية. وكلمات " البرطال " بمعنييه و " الكوفري " و " المريو " وغيرها كثير.

وفي فاس قصور ومدارس ومساجد يقال عنها إنها أندلسية. ولكن المستشرق الفرنسي ليفي بروفانسال، الذي أقام في المغرب مدة وكتب عن الأندلس كثيرًا، نقل في محاضرة ألقاها بالقاهرة عن الراهب الإسباني المؤرخ الشديد التعصب ضد الإسلام مرمول، أن القصور الحمراء في غرناطة كانت تقليدًا لقصور بني مرين الملكية بفاس عكس ما يتوهم.

وفي أندونيسيا، أقصى نقطة في العالم الإسلامي، توجد منطقة اسمها الأندلس حسبما أخبرني بذلك أحد كبار علماء أندونيسيا وهو متخرج من جامعة القاهرة. وغير

ص: 21

بعيد عن أندونيسيا، بماليزيا، توجد مدينة ومقاطعة مالقة، تقع على الساحل الجنوبي الغربي لشبه جزيرة الملايو، وتطل على مضيق مالقة الذي يصل المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي. نشأت حوالي 1400 م، وأصبحت مركزًا تجاريًّا هامًّا بجنوب شرقي آسيا. وفي القرن الخامس عشر الميلادي، بسط ملوك مالقة نفوذهم على جزء كبير من شبه جزيرة الملايو وسومطرة، ونشروا الإسلام في العالم الملاوي. استولى البرتغاليون عليها ثم الهولنديون ثم البريطانيون. ومن المعلوم أن في الأندلس مدينة مالقة. وعندما احتل الإسبان الأراضي المسلمة التي أطلقوا عليها اسم"الفيلبين"أطلقوا كذلك على سكانها اسم"المورو" الذي يطلقونه على مسلمي الأندلس.

وقد أشرنا سابقًا إلى تأسيس مصر للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمجريط وما ينشره من دراسات أندلسية من أهمها"فجر الأندلس"للدكتور حسين مؤنس.

وقد زار الأمير شكيب أرسلان رحمه الله الأندلس، وطلب من حكامها السماح

له بالصلاة في جامع قرطبة، وأخذت له صورة رائعة بثياب إسلامية، ولعله أول مسلم صلى فيه منذ الاستيلاء عليه. وكذلك فعل محمد إقبال الباكستاني رحمه الله. وذكر لي صديقنا الدكتور عبد الله المنصوري رحمه الله، وهو تلمساني عاش معنا في فاس حوالي ربع قرن، أنه يزور مع عائلته وأولاده الأندلس كل سنة حتى لا تنسى

(هذا آخر مقال كتبه الأستاذ المجاهد سيدي محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني في حياته، انتهى منه إلى هذا الحد دون أن يكمله، صبيحة يوم وفاته الأحد 29 ربيع الثاني عام 1411 هـ (18/ 11/ 1990 م). سويعات قبل وفاته، رحمه الله بواسع رحمته).

ص: 22