الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقواد المجاهدين. فأخذت العزائم تخور، والأمل بالنصر يضعف، والشعور بخذلان العالم الإسلامي ينتشر.
3/ 5 - الانهزام والاستسلام:
بعد التقاء جيشي خوان النمساوي ودوق دي سياسة في سهل البدول، اتجها جنوبًا إلى أندرش حيث وصلا في شهر مايو. وتوجهت من أندرش كتائب بقيادة دوق دي سياسة لإخضاع حصون كمبيتة ومارو ونرجة وبرجة وقمارش وكوثر وبني مرغوشة، فاحتلوها ونقلوا أهلها الذين سلموا من القتل والاسترقاق إلى قشتالة. وتتابعت المعارك في منطقة رندة غربًا، وحرر المجاهدون حصن الحصينة وقصر بنيرة، وحاصروا أربوطو في الجبل الأحمر. فتوجه إليهم جيش بقيادة دوق دي أركش دخل معهم في معارك أدت إلى انهزامهم واستسلامهم في 20/ 9 / 1570 م.
وأمام هذه الانهزامات المتواصلة، ويأس المجاهدين من أي عون فعال من العثمانيين والسعديين، افترق المجاهدون بين ثلاثة آراء: منهم من آثر متابعة الجهاد إلى الاستشهاد، مفضلاً ذلك عن الاستسلام وما يتبعه من تنصير واسترقاق أو الموت ذلاًّ تحت سلطة الأعداء، وكان ابن عبو على رأس هذا الفريق. ومنه ممن رأى عدم جدوى متابعة الجهاد ورجح التفاوض مع النصارى للاستسلام بأفضل الشروط الممكنة، وكان فراندو الحبقي على رأس هذا الفريق. ومنهم من آثر الهجرة بنفسه وأهله إلى السواحل الجزائرية والمغربية والخروج من الجحيم الذي هم فيه، فعبر البحر منهم عدد كبير منذ فبراير عام 1570 م.
وفي 5/ 2 / 1570 م اجتمع في مرتفعات جبل شلير هرناندو برادة، أحد وجوه وادي آش الأندلسيين، بالحبقي الذي أصبح قائدًا عامًا لجيوش المجاهدين بعد استشهاد ابن المليح في غليرة. دخل برادة وسيطًا بين الإسبان والمجاهدين بموافقة خوان النمساوي، وعرض على الحبقي إنهاء القتال مقابل العفو العام عن المجاهدين. وتتابعت المفاوضات، فاقترح الحبقي على خوان النمساوي إقناع ابن عبو وباقي زعماء الأندلسيين بالاحتفاظ بالبشرات والتخلي عن جميع ما بيدهم من مناطق خارجها، بما فيها وادي المنصورة، وإعلان الهدنة، مقابل إعطاء الأمان على أرواح جميع المجاهدين. وافق خوان النمساوي مبدئيًّا على ذلك، واستصدر أمرًا ملكيًّا بالعفو عمن يسلم سلاحه من الأندلسيين في ظرف عشرين يومًا من إعلانه، شرط أن يكون عمره بين الخامسة عشرة والخمسين عامًا، وأن ينضوي تحت قيادة وطاعة الملك فليبي
الثاني. ويسمح القرار لكل من يستسلم بتقديم شكواه ويعد ببحثها بعناية. كما وعد القرار بإعطاء جائزة لكل من يستسلم، وإطلاق سراح شخصين من عائلته. وحكم القرار بالإعدام على من يرفض الاستسلام، عدا النساء والأطفال دون الخامسة عشرة.
وعين القرار مراكز للاستسلام تابعة لخوان النمساوي والدوق دي سياسة. ووزعت بين الأندلسيين مناشير مزورة باسم أحد الفقهاء تدعو المجاهدين إلى الاستسلام "تخلصًا من المصائب التي جرها عليهم ابن عبو". وفي نفس الوقت تابع خوان النمساوي القتل والسبي بين الأندلسيين مسالمين كانوا أو محاربين.
وفي هذا الجو القاتم تتابعت المفاوضات. ورفض معظم المجاهدين الاستجابة لنداء خوان النمساوي لعدم ثقتهم بوعود النصارى. ومال ابن عبو إلى التفاوض للحصول على أحسن ظروف الاستسلام، عندما عجز عن الدفاع عن قومه وتخليصهم مما أصابهم.
أمر خوان النمساوي دون ألونسو دي غرناطة بنيغش، أحد زعماء الأندلسيين، بالكتابة إلى صديقه ابن عبو لحثه على الاستسلام. فكتب له رسالة بتاريخ 18/ 4 / 1570 م حاول فيها إقناعه بإنهاء "هذه الحرب المشؤومة"، ويطلب منه إرسال وفد باسمه للتفاوض على شروط الاستسلام والمصالحة. فرد ابن عبو رسالة بتاريخ 24/ 4 / 1570 م يرمي فيها مسؤولية إشعال الثورة ومآسي الحرب على القشتاليين بسبب اضطهادهم للأندلسيين وإرغامهم على التنكر لدينهم، وأكد في رسالته عدالة الجهاد، ورفض الاستسلام بدون شرط. ثم طلب ابن عبو من بنيغش الحصول على أمان من الملك للحبقي ليتفاوض مع القشتاليين باسم المجاهدين لإنهاء الحرب. وهكذا عين ابن عبو الحبقي مفاوضًا رسميًّا باسم الثورة الأندلسية، وجعله ممثلة المؤتمن.
وتتابعت المفاوضات بين الإسبان والحبقي عن طريق هرناندو برادة وألونسو بنيغش. ثم اجتمع الحبقي مع مندوبي الملك عدة مرات. وفي 13/ 5 / 1570 م اقترح الحبقي على بنيغش في فندون أندرش شروط الاستسلام. فنقلها بنيغش إلى خوان النمساوي الذي جمع المجلس العسكري. فطلب المجلس أن يأتي الحبقي بتفويض من قادة المجاهدين بتمثيلهم. فعاد الحبقي إلى فوندون أندرش يوم 19/ 5 / 1570 م بتفويض من ابن عبو، وتم الاتفاق مع ممثلي الإسبان على أن ذهب باسم ابن عبو وباقي قواد الجهاد إلى الأمير خوان النمساوي ويسلم إليه السلاح والعلم ويطلب الصفح والرحمة. وبعد ذلك يعفو عنه الأمير باسم الملك، ويصدر العفو العام عن
الأندلسيين، ويضمن لهم حياتهم وأملاكهم، ويؤمنهم من الاعتداء عليهم، ويسمح لهم بإقامة العلاقات الاجتماعية فيما بينهم من زواج إلى آخره
…
ويرسل المحاربين المستسلمين مع نسائهم وأطفالهم إلى الأماكن التي تحدد لهم على أن تخلى جبال البشرات منهم. وقبل الحبقي الشروط جميعها.
وتنفيذًا للاتفاق، تقدم الحبقي في 22/ 5 / 1570 م على رأس 300 مجاهد إلى خيمة خوان النمساوي في أندرش، وسلمه سيفه وعلم الاستسلام باسم ابن عبو. فقبله الأمير، وأرجع له سيفه، ومنحه الأمان بألا يتعدى عليه ولا يزعج ولا يلاحق ولا ينهب، وسمح للمستسلمين بالإقامة أينما أرادوا في مملكة غرناطة خارج البشرات.
ثم عاد الحبقي إلى ابن عبو ليخبره بما تم، وأرسل معه خوان النمساوي مندوبين لقبول الاستسلام من ابن عبو. فلما اطلع ابن عبو على الشروط التي وافق عليها الحبقي اتهمه بتجاوز التفويض الذي أعطاه إياه، واتهمه بالغدر والخيانة، إذ لم يحصل للأندلسيين على شيء، كإلغاء قرارات التنصير ومحو اللغة العربية. وفوق كل ذلك، وافق الحبقي على تهجير الأندلسيين من البشرات. فلم الجهاد؟ ولم التضحيات؟ وفي 25/ 5 / 1570 م عاد الحبقي إلى معسكر خوان النمساوي وأخبره بمعارضة ابن عبو للاتفاقية، ثم اقترح عليه تنفيذها دون ابن عبو، وأن يأتي به موثوقًا. فوافق خوان النمساوي، وأرسل في نفس الوقت ممثلاً عنه إلى ابن عبو يوم 28/ 5 / 1570 م يحاول إقناعه بالاستسلام، فلم يفلح. وساند المتطوعون موقف ابن عبو، فعمل الحبقي على إرجاعهم إلى بلدانهم، وأخذ يروج للاستسلام. فتوجه على رأس قوة للقبض على ابن عبو، لكن المجاهدين هزموه وقبضوا عليه وسلموه موثوقًا لابن عبو الذي اتهمه بالخيانة وأمر بإعدامه. فأعدم الحبقي وأخفى ابن عبو موته لمدة ثلاثين يومًا. وتابع ابن عبو المفاوضات مع خوان النمساوي على شروط أفضل بواسطة هرناندو برادة، وتابع في نفس الوقت جهوده في إعادة بعث الثورة، فأرسل رسله إلى المناطق المختلفة يحثون الأندلسيين على متابعة الجهاد. وقد احتفظ التاريخ برسالة جوابية مؤثرة من ابن عبو إلى برادة بتاريخ 3/ 7 / 1570 م، وهي بالدارجة الغرناطية، وهي آخر وثيقة عربية أتت من الأندلس، هذا نصها: "الحمد لله وحده قبل الكلم، أسلم مكرمو على من كرمهو سيدي وحبيب وعز من عندي دن هرنتدو، وني نعلم حرمتكم ين. أكن أنت تقول تجي عندي، تجي عند أخكم وحبيبك، وتجي مطمئن، وكل ميجكم فملي وذيمتي. وكن أنت تريد تترطل
فذى المبركم مين سلح، كل متعمل تعملو معي، وني نعمل معك كل متريد بحق وبل غدر. ودهر لي من الحبقي بن أشمكن يعمل معلمن ولطلعن ي على حق. وذهر لي يذ اسم للمطلب يرحو وينسو وتسحبو وبعد رعي. وديب أني نعرف حرمتك بهذا شي وكرمتك، اعمل الذي يذهر لكم عمل ميسلح بصرر. ويذ وعسي يقذيا الله خير بينين، وتكن حرمتكم أسبب فهذا شيء ومحملن مفدتكم بل آش كن معي من يكتيلي يل كنكن كتبلكم أكثر. وسلم وعليكم ورحمتو الله وبركتو الله. كتيب الكتب يوم الثليث فشهر أليو فعم 70".
وفي 30/ 7 / 1570 م أرسل خوان النمساوي مبعوثًا ليتفاوض مع ابن عبو وعرض الاستسلام عليه مقابل عروض مغرية لشخصه. فأجاب ابن عبو بأنه يشهد الله أنه لا يرغب في الملك، وحيث إن الأمة الأندلسية انتخبته سلطانًا عليها فإنه لن يستسلم ولو ظل مجاهدًا وحده في البشرات، وأن لديه ما يكفي من الغذاء والماء لمدة ست سنوات، وإذا انتهت مؤونته فهو يفضل عبور البحر لأرض المسلمين على الاستسلام.
وعندما رأى خوان النمساوي هذا الموقف من ابن عبو، وعلم مقتل الحبقي، قرر إنهاء الثورة بالقوة. فحاول ابن عبو تنظيم المقاومة من جديد في البشرات، وأرسل أخاه غالب إلى منطقة رندة لقيادة الجهاد فيها. بينما اتجه خوان النمساوي بقواته إلى وادي آش حيث التقى بقوات دوق دي سياسة. وخرج من غرناطة جيش ثالث بقيادة دون ركيصانص في اتجاه البشرات. وسار جيش رابع بقيادة دوق دي أركش إلى بسائط رندة وجبالها فقضى على المجاهدين في تلك المنطقة في 20/ 9 / 1570 م. وفي نفس الشهر شن دون ركيصانص هجومه الشامل على البشرات، فقتل وحرق وحطم وأباد الشيوخ والأطفال والنساء، ووزع على الجنود كعبيد من نجا من نساء وأطفال المسلمين من الموت.
ومن أفعاله الشنيعة إشعال النيران على مداخل الكهوف لخنق المختبئين فيها. وأمام هذه الهجمة الجديدة لم يبق للجهاد قوة تذكر للدفاع عن الأندلس.
فأخذت جيوش قشتالة تمزق كل السرايا المقاومة فانهارت المقاومة، وامتلأت الشواطىء المغربية والجزائرية باللاجئين الفارين بدينهم وأرواحهم.
وتابع ابن عبو المقاومة في أعلى وأوعر منطقة من البشرات، لم يبق معه سوى 400 مجاهد، من بينهم برناردينو ابن عامر وكونسالفو الشنيش. وضاقت رقعة
المجاهدين بين برشول وترفلش، فأوعز الإسبان إلى الشنيش بقتل ابن عبو مقابل عفوهم عليه. وكان الشنيش يحقد على ابن عبو لأنه منعه من عبور البحر إلى المغرب. وكان الإسبان قد قبضوا عليه وأطلقوا سراحه ومنحوه الأمان ووعدوا بتسليمه زوجته وابنتيه الأسيرات مقابل الإتيان بابن عبو حيًّا أو ميتًا.
وفي 13/ 3 / 1571 م نجحت المؤامرة إذ هجم الشنيش وستة من أتباعه على ابن عبو في الكهف الذي كان مختبئًا فيه، فقاوم حتى استشهد. فسلم الخونة جثمانه للإسبان الذين حملوه إلى غرناطة، وأدخلوه المدينة في حفل ضخم، ووضعوه في قفص حديدي بعد أن ألبسوه لباسًا كاملاً وكأن صاحبه حي، ثم حملوه على فرس، وقطعوا به المدينة تتبعه أفواج من أسرى الأندلسيين. ثم حمل الجثمان إلى النطع.
وأجرى فيه حكم الإعدام، فقطعوا الرأس وسحلوا الجسم في الشوارع فمزق أطرافًا ثم أحرق في أكبر ساحات غرناطة بهمجية لا تضاهى. ووضعوا الرأس في قفص من حديد رفع فوق باب المدينة باتجاه البشرات حيث بقي معلقًا لمدة ثلاثين سنة.
ولم تنته الثورة تمامًا إلا سنة 1573 م باستسلام مناطق غليرة وصيرون وبرشانة ومناطق وادي المنصورة في ولاية المرية.
وابتدأت بعد انهيار ثورة غرناطة الكبرى مأساة جديدة لم ير الشعب الأندلسي مثيلاً لها من قبل، إذ أعلن الملك فليبي الثاني في 28/ 10 / 1570 م، قبل استشهاد ابن عبو، قرارًا بنفي الأندلسيين من مملكة غرناطة إلى مختلف مناطق قشتالة وليون.
وقبل إنهاء هذا الفصل، لنر خصائص هذه الثورة الفريدة في الاستماتة والتنظيم والشجاعة ضد أقوى جيش في أوروبا آنذاك، بأقل الإمكانيات وأقل مساندة خارجية.
استعمل المجاهدون الأندلسيون تضاريس الجبال ومعرفتهم بالبلاد أحسن استعمال، فكانوا يضربون العدو ضربات سريعة ينتقلون بعدها بسرعة من جبل إلى آخر، ويتحاشون المعارك الطويلة، فكانوا مبدعين حتى في محنتهم، إذ اخترعوا حرب العصابات وأتقنوها. فخارت في أول الأمر معنويات الجيش الإسباني الذي كان يخوض حربًا كلاسيكية، خاصة بعد أن عمل المجاهدون على تجويعه بحرق المحاصيل الزراعية. ثم تحول الجنود الإسبان إلى مجرمين بقتل أو استعباد جميع من يقع في يدهم من أسر المجاهدين، من أطفال وشيوخ ونساء للقضاء على معنوياتهم.
ومن ناحية أخرى، لم يستطع زعماء الجهاد التغلب على نزاعاتهم الجانبية بين أهل حاضرة غرناطة مثلاً وأهل البشرات. وربما كانت تلك النزاعات هي سبب تقاعس
قاعدة غرناطة ومرسية عن الانضمام إلى الثورة في أول أمرها. ولم يكن الجانب الإسباني موحدًا كذلك، إذ كانت العداوة قوية بين ديسا ومندوجر، وبين سياسة وبلش.
وكانت القوات المتحاربة ضخمة بالنسبة لمجموع عدد السكان، إذ كان عدد المجاهدين في أول الثورة حوالي 4.000 مجاهد، ووصل إلى 30.000 مجاهد في قمتها. وتدل هذه الأرقام على المجهود الضخم الذي قام به الأندلسيون لتحرير بلدهم، كما يدل على إجماعهم على المقاومة. ولم يقل عدد القوات النظامية التي جابهتهم عن ثلاثين ألفًا، مسلحة بسلاح أفضل بكثير. ووقع ضحية هذه الثورة عشرات الآلاف من الأندلسيين، خاصة النساء والأطفال، كما قتل عدة آلاف من الإسبان.
ولقد انضمت للثورة جميع أراضي مملكة غرناطة عدا المدن الكبيرة كحاضرة غرناطة والمرية ووادي آش وبسطة وأشقر ومطريل.