الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المؤلِّف
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المُرسَلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فعند معظم المسلمين اليوم ينتهي تاريخ الأندلس بسقوط غرناطة سنة 1492 م. وكأن الأندلسيين اختاروا الخروج عن الإسلام بعد انهزامهم، وقبول أمر الواقع من الهجرة من ديارهم أو الاندماج في القوى النصرانية الغازية. أما عند الغرب، فيمر التاريخ الإسباني على طول الحقبة الإسلامية من تاريخ الأندلس، وكأنها حقبة عابرة لا قيمة لها في تكوين الشخصية الأندلسية المعاصرة. ولم تبتدىء هذه النظرة تتغير عند المفكرين في الأندلس إلا اليوم.
وكِلا الفئتين تتجاهل الواقع التاريخي الأندلسي. إذ أن الإسلام لم ينقرض في الأندلس بسقوط غرناطة، بل دخل الأندلسيون في حقبة طويلة من الدفاع المرير عن شخصيتهم وعقيدتهم الإسلامية دامت قرونًا وبقيت آثارها في المجتمع الأندلسي إلى اليوم. وقد برهن الشعب الأندلسي في صراعه المتواصل بطريقة لم يبرهنها مثله شعب من الشعوب الإسلامية، على تشبثه بالإسلام دينًا، وبالعربية لغة، لدرجة أصبح فيها مزدوج الشخصية، يتظاهر بدين ويضمر خلافه.
أما تجاهل الغرب للحقبة الأندلسية الإسلامية الطويلة في تكوين الشخصية الأوروبية فهو جهل وظلم وغباء لأن واقع هذا التأثير لا يمكن أن يتجاهله عاقل. ولا يؤدي ذلك إلا إلى دفع أجيال الغرب الصاعدة إلى المزيد من الجهالة والتعصب والانفصام عن الحضارة والفكر الإسلامي اللذان كان لهما عبر أرض الأندلس وشعبها أكبر تأثير في تحرير أوروبا من كثير من جهالتها وتأخرها ووحشيتها.
فالشخصية الأندلسية التي بقيت كثير من معالمها ثابتة إلى اليوم في الأندلس المعاصرة، استجابت لدعوة التوحيد منذ التاريخ السحيق. فالأندلسيون قبلوا الرسالة العيسوية بشكلها الأرياني الموحدي ورفضوا قبول الثالوث وما رافقه من بدع زائغة عن التوحيد رغم اضطهاد الحكومة القوطية في طليطلة وإجبارهم على التنصير الثالوثي في القرن الخامس الميلادي.
ولمّا ظهر الإسلام في شمال إفريقيا، انجذب إليه الأندلسيون بفطرتهم السليمة، وساندوه، وقاموا بثورة إسلامية شاملة ساهم فيها طارق بن زياد وموسى بن نصير المساهمة الفعالة للتخلص من الاضطهاد الثالوثي، وفتح الأندلس للرسالة المحمدية التي رأى فيها الأندلسيون التكملة الطبيعية لرسالة عيسى عليه السلام الحقيقية.
وهكذا افتتح الأندلسيون حقبة غراء من تاريخهم، دامت ثمانية قرون، أعزهم الإسلام فيها وأعزوا الأمة الإسلامية بفكرهم واجتهادهم وورعهم وجهادهم، حتى أصبحوا رواد الفكر البشري في العلوم والتقنية والتنظيم والأدب والأخلاق لقرون عدة.
ولم تمهلهم قوى الشرّ الداخلية والخارجية طويلاً. ففي الداخل تحول حب الأندلسيين للحرية وشهامتهم، من المشاركة إلى التشتت، واختل التوازن بين الدنيا والآخرة إلى التلذذ بالحاضر وعدم أخذ الحيطة للمستقبل. وأما في الخارج، فقد اتحدت قوى الثالوث الغربي ضدهم بوحدة وثبات ومواصلة لمدة قرون، لم يمهلوا فيها فترة، حتى قضت على وجودهم المستقل سنة 1492 م بسقوط غرناطة آخر معقل لهم ذي سيادة.
ولم يستسلم الأندلسيون بل قاوموا قوى الغدر والإدماج حفاظًا على إسلامهم رغم الاضطهاد المزدوج للكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية عبر محاكم التفتيش التي قتلت منهم كل من رفض التنصير حرقًا بالنار، وعملت على طمس الشخصية الأندلسية الإسلامية في أشكالها العقيدية والثقافية واللغوية بحرق الكتب ومنع التكلم باللغة العربية وارتداء الزي الإسلامي، وهدم الحمامات وإجبار الإنسان الأندلسي على التخلي عن كل مقومات شخصيته، بما في ذلك اسمه ولقبه وعاداته وتاريخه. فقاوم الأندلسيون لمدة قرن وربع تارة سلبًا وأخرى حربًا في الجبال التي تتوجت بثورة غرناطة العظمى سنة 1569 م.
وطوال هذه الحقبة، وأجيال الأندلسيين تستغيث بالعالم الإسلامي، شرقًا وغربًا، فلم تصل استغاثاتهم إلا إلى آذان صماء ووعود كاذبة في معظم الأحيان، وخيانات صارخة في بعضها، وكأن العالم الإسلامي أقنع نفسه أن الأندلس أصبحت في عالم الخيال وأنه لا حول له ولا قوة في نصرة إخوانه الأندلسيين الذين يستغيثون به.
وثبتت الإرادة الأندلسية أمام هذا الخذلان والخيانات. ففي سنة 1609 م، قرر الطاغية بمباركة الكنيسة طرد ما يزيد على ربع مليون من مفكّري الأندلسيين ومثقفيهم ليترك جماهيرهم هملاً سهلة الإدماج فتشتت الأندلسيون على أطراف المعمورة، داخل العالم الإسلامي وخارجه، ووصل منهم إلى شواطىء المغرب الأقصى والجزائر وتونس نصيب الأسد، فزادوا المجتمع المغربي ثراء وقوة وحضارة وإيمانًا. وادعت إسبانيا أن الطرد شمل جميع مسلمي الأندلس وأنها أحلت محلهم مهاجرين نصارى من شمال البلاد. وما أبعد هذا الادعاء عن الحقيقة التاريخية التي وردت في المصادر الإسبانية نفسها.
ثم دخل النضال الأندلسي حقبة جديدة بعد هذا الطرد، تابع فيها دفاعه عن بعض مقومات شخصيته المتأثرة بالإسلام ثم ظهر هذا النضال في القرن التاسع عشر على شكل دفاع عن وجود قومية أندلسية متميزة تعتز بتاريخها الإسلامي، وتحاول استرجاع هويتها، مستعملة اللغة القومية المقبولة آنذاك في المجتمع الغربي. ثم ظهرت في أوائل القرن العشرين شخصية بلاس انفانتي الفذة الذي اعتنق الإسلام وعمل حسب طاقته في ذلك الحين على توعية المجتمع الأندلسي، وإزاحة الغشاء المظلم الذي أنزله أعداؤه على تاريخه وماضيه الإسلامي. فأدت أفكار بلاس انفانتي إلى استشهاده سنة 1935 م.
ثم رجعت هذه الأفكار إلى الظهور بعد نهاية الحكم الدكتاتوري في إسبانيا بموت فرانكو سنة 1975 م. فتحركت القوى التحررية إلى تخليص إسبانيا من الهيمنة الكاثوليكية والاعتراف بالتعددية القومية، فتحولت إسبانيا من دولة مركزية إلى دولة اتحادية اعترف فيها بالثقافات المختلفة. فظهرت من جديد القومية الأندلسية تطالب بالاستقلال الذاتي لمنطقتها، والاعتراف بشخصيتها، متمركزة حول أفكار بلاس انفانتي السياسية وبعض أفكاره الثقافية. وهكذا كان تأسيس منطقة الأندلس سنة 1980 م، وعاصمتها إشبيلية، نصرًا لتلك الأفكار. فاستعادت المنطقة بعض
الرموز الإسلامية كالعلم والنشيد الوطني والاعتزاز بالتاريخ الإسلامي. ثم أعطت الدولة الإسبانية حرية العقيدة للجميع، فظهر الإسلام الأندلسي من جديد لأول مرة بعد سقوط غرناطة، وأخذ العائدون إليه ينتظمون في جمعيات إسلامية. وكانت هذه العودة عبر طريقين: الصوفي، الذي يعم باقي أوروبا، الناتج عن بحث عميق بسبب الضياع العقيدي والروحي والأخلاقي الذي يعيش فيه شباب الغرب؛ والأندلسي، وهو الأقوى، الناتج بصفة طبيعية عن الوجود الإسلامي الأندلسي المتواصل. وقد تبنى هذا الاتجاه الأخير أفكار بلاس انفانتي كاملة، بما فيها ضرورة رجوع شعب الأندلس إلى الإسلام عقيدة وإلى العربية لغة كي يستعيد شخصيته كاملة، ويحرر نفسه من الهجمة الصليبية التي مزقت لعدة قرون شخصيته وعقيدته وثقافته وشرفه وتاريخه وحاضره.
ويسرد هذا الكتاب قصة الوجود الإسلامي في الأندلس منذ سقوط غرناطة إلى اليوم، ويفسر الصحوة الإسلامية المعاصرة، ويحاول تحديد ملامحها. وهو مجزأ إلى اثني عشر فصلاً. يلخص الفصل الأول نشأة دولة الإسلام في الأندلس منذ الفتح الإسلامي إلى سقوط غرناطة سنة 1492 م، ويفصل الفصل الثاني اضطهاد الكنيسة والدولة للشعب الأندلسي بالتنصير الإجباري منذ سقوط دولتهم إلى سنة 1568 م. ويلخص الفصل الثالث مراحل ثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م) التي حاول فيها الشعب الأندلسي بأكبر مجهود ممكن استعادة سيادته وطرد المستعمر. ويقص الفصل الرابع ما تلا انهزام ثورة غرناطة من تشتيت لأهلها وزيادة قهر لجميع الأندلسيين وطمس لشخصيتهم ومتابعة من طرف الدولة والكنيسة. ويعطي الفصل الخامس نظرة إجمالية عن طرد المسلمين الجماعي في الفترة (1608 - 1614 م) بهدف القضاء على الطبقة الرائدة وتسهيل إدماج الجماهير الباقية. ثم يفصل الفصل السادس ديموغرافية الأندلسيين في القرن السادس عشر الميلادي وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وقد أصبحوا يسمون في ذلك الحين من طرف أعدائهم بالمورسكيين.
ودرس الفصل السابع استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بينما وضح الفصل الثامن عوامل تكوين القومية الأندلسية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ثم وصف الفصل التاسع انبعاث القومية الأندلسية منذ سنة 1975 م، ووضح الفصل العاشر الانبعاث الإسلامي في الأندلس وتياراته
المختلفة، بينما ركز الفصل الحادي عشر على دراسة التيار الأندلسي الذي تبنته " الجماعة الإسلامية في الأندلس". وانتهى الكتاب في الفصل الثاني عشر بإعطاء فكرة موجزة عن الشتات الأندلسي المعاصر.
وقد اعتمدت في كتابة هذا المؤلف على مراجع معظمها إسبانية، وبعضها لمؤلفين مسلمين من أندلسيين وغيرهم أو غربيين. وقد أتيت في آخر كل فصل بالمراجع المستعملة، التي يزيد عدد جميعها على الخمسمائة.
وهدفي الأول من إخراج هذا التصنيف هو التعريف بالنضال الأندلسي المتواصل منذ سقوط غرناطة إلى اليوم، وتوضيح جذور الشعب الأندلسي المعاصر المتأصلة في الهوية الإسلامية، وتسليط النور على القوى الدافعة للانبعاث الإسلامي داخل الشعب الأندلسي. فالأندلس ليست خيالاً فقط كما يتصوره الكثيرون، وليست أشعار ابن زيدون وابن الخطيب وغيرهما كما يتخيلها البعض، وليست قصر الحمراء ومسجد قرطبة الأعظم كما يمكن أن يراها آخرون. فأشعار ابن زيدون وابن الخطيب وقصر الحمراء ومسجد قرطبة الأعظم وخيال الأندلس وغناه، كلها معالم من إنتاج شعب مسلم ناضل في سبيل الإسلام وتغنّى للإسلام وتحمس للإسلام وعاش للإسلام لمدة قرون. وذلك الشعب لا زال حيًّا قائمًا له ذكرى وإن كانت مشوشة وآمال وإن كانت غير واضحة وشخصية وإن كانت مقزمة، وهو القائم اليوم تحت أسماء مستعارة وبشكل يتنافى مع ماضيه، ولكن تحت تلك الأشكال لا زال وميض من شخصيته الإسلامية قائمًا، أصبح يقوى عند الكثير من شبابهم المثقف وينتقل إلى شعلة موذنًا بصحوة إسلامية يخرج نورها من بين الرماد، مظهرة في آن واحد عظمة الإسلام وأصالة الشعب الأندلسي، فهذا الشعب جدير باهتمام الأمة الإسلامية وجدير بها أن تحتضن صحوته وتنهي يتمه.
ويعود سبب عزمي إلى تصنيف هذا الكتاب إلى مطالبة بعض الأخوة الأندلسيين المتواصلة، منهم: الأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن مدينة مليرة، والأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن معنان حبصاوي، وغيرهم، كما طلبني عدة مرات لتصنيفه عدد من الإخوة في شرق البلاد الإسلامية وغربها. منهم: الدكتور الأستاذ ظفر إسحق الأنصاري، مدير عام مركز الدراسات والأبحاث الإسلامية بالجامعة الإسلامية بإسلام آباد، باكستان، والأستاذ الدكتور سيد زين العابدين رئيس مركز دراسات الأقليات الإسلامية، بلندن، بريطانيا، ورئيس تحرير مجلتها العلمية، والأستاذ الدكتور حسن
معايرجي رئيس مركز الأبحاث بجامعة قطر بالدوحة، والسيد العم الأستاذ الدكتور إدريس بن محمد بن جعفر الكتاني أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، المغرب، وغيرهم من الأخوة الكرام. فلولاهم لما ظهر هذا التصنيف إلى الوجود. فمني لهم الشكر الجزيل والامتنان.
كما يعود شكري لكل مَن ساندني على إنجاز هذا العمل بالمراجعة والرأي، خاصة زوجي السيدة نزهة بنت عبد الرحمن الكتاني وابني الحسن وشقيقي يحيى. كما يعود شكري إلى السيدة عائشة ودغيري حسني لطباعة النسخ المتعددة لهذا الكتاب وتصحيحه. وللجميع شكري الجزيل.
جعل الله عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وله الشكر والمِنَّة قبل كل أحد، ولا غالب إلا الله.
علي المنتصر الكتاني
الرباط في 6 محرم الحرام 1411 هـ
موافق 29 - 7 - 1990 م