الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
يظهر جليًّا أن تاريخ الإسلام في الأندلس منذ سقوط غرناطة إلى اليوم يتسم بظاهرتين أساسيتين: أولهما، ارتباط الشعب الأندلسي الوثيق بالعقيدة الإسلامية والتراث الإسلامي، وتشبثه بهما ما أمكن طوال خمسة قرون منذ سقوط غرناطة؛ ثانيهما، خذلان الأمة الإسلامية المتواصل لمجهودات الشعب الأندلسي في الحفاظ على هويته وشخصيته والدفاع عن إسلامه.
فبعد غدر الملكان الكاثوليكيان لكل المواثيق التي وقعوها إبان سقوط غرناطة لإضعاف المقاومة الأندلسية، تحول النضال الأندلسي طوال القرن السادس عشر، بعد الصدمة الأولى، إلى حرب عصابات دائمة ضد الوجود القشتالي، وصلت في أوجها إلى ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م التي جند لها الشعب الأندلسي كل طاقاته.
كما اتسمت هذه الفترة بخذلان جميع دول الإسلام آنذاك لصيحات الشعب الأندلسي المتواصلة في محنته، فلم تستجب لهم لا الدولة السعدية بالمغرب ولا الدولة المملوكية بمصر ولا الدولة العثمانية بعدها، وكانت القوى الإسلامية الثلاثة في البحر الأبيض المتوسط. ووصل الخذلان أوجه إبان ثورة غرناطة الكبرى، حيث اتكل الأندلسيون على وعود الدولتين السعدية والعثمانية الكاذبة، فذاقوا بسببه أمرّ الشرور وأقساها.
وتفتّق فكر الدولة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية سنة 1609 م على طرد الطبقة المفكرة من الشعب الأندلسي، فطردت منهم حوالي 230 ألف شخص، تشتتوا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، خاصة بشمال إفريقيا. وإبان هذه المأساة ذاق
اللاجئون الأندلسيون مرارة التشريد وقبح الاستقبال وظلم ذوي القربى في مواطن هجرتهم.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تحول نضال الشعب الأندلسي إلى مقاومة صمّاء دفينة في القلوب، وهو يحاول التشبث ببقايا هويته وشخصيته الإسلامية تشبث الغريق. وتجاهل العالم الإسلامي، في هذه الأثناء، كلية كل مظاهر الوجود الإسلامي في الأندلس رغم السيل المتواصل من العائدين إلى الإسلام الذين انضموا إلى جيوشه البرية والبحرية في المغرب والمشرق، وقد أضاعوا أسماءهم وهوياتهم ولم يرجعهم إلى الإسلام إلا ذكرى جماعية في مجتمعاتهم وبين أهاليهم، وحقد دفين على الذين اضطهدوهم جيلاً بعد جيل، وحوّلوهم من أمة سائدة إلى أمة مستعبدة.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تحول النضال الأندلسي إلى شكل جديد يتماشى مع لغة ذلك العصر، عصر القوميات. فحاول مفكرو الشعب الأندلسي الدفاع عن ما تبقى من هويتهم الخاصة التي تجعلهم قومية متميزة بلغة لا دينية يقبلها الغرب الصليبي. ولا يميز القومية الأندلسية عن باقي قوميات أوروبا، رغم ضياع لغتها العربية وكثير من خاصياتها الثقافية، سوى ذكراها لأمجادها الإسلامية وجذورها العريقة.
وحتى في هذه الفترة، تجاهل العالم الإسلامي محاولات الأندلسيين ربط الصلة به، ولم ينظروا إلى قوميتهم بالنظرة البعيدة التي تستحقها.
ثم تزعّم بلاس إنفانتي هذه الحركة فوصل بها إلى منطقها الطبيعي في ربطها بجذورها الإسلامية، فاعتنق الإسلام إيمانًا به واستعادة لشخصيته الأصيلة وطالب الأندلسيين بالرجوع إليه. وأدت أفكاره المجهولة في العالم الإسلامي إلى استشهاده على يد قوى الظلم والطغيان والتعصب قبل الحرب العالمية الثانية.
فرجعت بموته القومية الأندلسية إلى السرية الكاملة، لم تخرج منها إلا بعد انتهاء العهد الدكتاتوري الفرنكوي سنة 1975 م. فاعترفت الدولة الإسبانية لأول مرة بعد تكوينها بتعددية الحضارات والديانات الموجودة على أرضها. فساندت الأكثرية الساحقة للشعب الأندلسي أفكار بلاس إنفانتي مطالبة بالاعتراف بالشعب الأندلسي كقومية مميزة شأنها شأن القوميتين الباسكية والقطلانية. وهكذا تأسست سنة 1980 م منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي من ثمان مقاطعات في جنوب إسبانيا هي: قادس وولبة وإشبيلية وقرطبة ومالقة وجيان والمرية وغرناطة، واختيرت إشبيلية عاصمة لها.
واستعادت هذه المنطقة بعض الشعارات الإسلامية كالعلم الأندلسي والنشيد الوطني
والاعتزاز بماضيها الإسلامي. وحاولت منطقة الأندلس ربط علاقات خاصة مع العالم الإسلامي، بصفة عامة، والعربي، بصفة خاصة، والمغرب العربي بصفة أخص. فلم تجد إلا سوء فهم وصد، مما جعل الكثير من زعمائها يتحولون عن العرب وينقلب حبهم لهم إلى عداء. ولا يفسر هذا الخذلان إلا جهل الدول العربية بالواقع الإسباني الجديد وبالتغيرات التي حدثت في إسبانيا بعد وفاة فرانكو.
وبفوز القومية الأندلسية ورجوع الديموقراطية والحرية الدينية إلى إسبانيا، ظهر المناخ المناسب لظهور الإسلام من جديد بين ثلة من شباب الأمة الأندلسية الذين تبنوا أفكار إنفانتي كاملة وفسروها بضرورة الرجوع إلى الإسلام لتحرير الشعب الأندلسي من الهجمة الصليبية على شخصيته ووجوده، أو دفعهم إلى الإسلام مناخهم العائلي والاجتماعي عبر الطرق الصوفية، خاصة الدرقاوية.
وكانت هذه النخبة المسلمة الأندلسية تعقد الآمال على العالم الإسلامي في مساندتها لتعليم أبنائها المبادىء الإسلامية واللغة العربية، ومساعدتها على التعريف بالأندلس، فلم تجد سوى سوء الفهم والصد المتواصل. فكل من يزورهم من العالم الإسلامي يصبح ناصحًا لاتّباع مذهب أو آخر أو مساندة دولة ضد أخرى أو إزاحة مسؤول أو آخر، مع بخل في المساندة وسوء فهم للدوافع. كما ساند العالم الإسلامي بعض المهاجرين الذين أرادوا أن يحتكروا الإسلام، والذين أساؤوا فهم حب الأندلسيين لوطنهم وأمتهم. أما السياح المسلمين إلى الأندلس وزوارها، منهم أغنياؤهم المشارقة وفقراؤهم المغاربة، فلا يعطون الصورة المشرّفة للإسلام التي يتخيلها الراجعون إليه في الأندلس، والتي يحاولون التمسك بها في شكلها الطاهر الجميل الذي أتى به سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما أخبار العالم الإسلامي من تشرذم وفقر واستهتار بالمبادىء الإسلامية وحقوق الإنسان واستبداد وتخلف وأوبئة اجتماعية، فلا تجعله في المستوى الأخلاقي المناسب للدعوة إلى الإسلام بين الأندلسيين. وأدى هذا الوضع إلى خلق فجوة بين المسلمين الأندلسيين الجدد والعالم الإسلامي، وبينهم وبين المهاجرين المقيمين في إسبانيا، جعلت الكثير منهم يحاولون فهم الإسلام دون مساندة العالم الإسلامي، بل يتخوفون من سلبياته على مسيرتهم.
ويبقى أن نترقب مستقبل هذه الصحوة الإسلامية الأندلسية. فالظاهر أن الفجوة بين الأندلسيين والمهاجرين سوف تزيد، بسبب محاولة بعض هؤلاء، بمساندة بعض الدول العربية، على التسلط على الوجود الإسلامي في إسبانيا، خاصة بعد أن اعترفت
الدولة الإسبانية بالإسلام، وطالبت من المسلمين أن يتنظموا في اتحاد للحصول على حقوقهم كاملة. فكوّن بعض هؤلاء المهاجرين، اتحاد يدّعي تمثيل جميع المسلمين، لكنهم طردوا منه الجماعات الأندلسية وحشوه بأفراد لا يمثلون شيئًا. ولكن عزم المسلمون الأندلسيون على التقدم إلى الأمام كمًّا وكيفًا رغم كل الصعاب، ولسان حالهم يقول قولة الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل غزوة بدر "لئن هزمت هذه العصابة فلن تعبد أبدًا". ندعو الله لهم التوفيق والسداد.
ولينصرن الله من ينصره. ولا غالب إلا الله.
انتهى من كتابته بالرباط في يوم الأحد 6 محرم الحرام عام 1411 هـ موافق 29/ 7 / 1990 م.
علي المنتصر الكتاني