الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر
7/ 1 - إسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر:
كان القرن السادس عشر قرن توسع إسبانيا وقوتها تحت هيمنة قشتالة ولغتها، ولذلك سماه الإسبان بالقرن الذهبي. فبعد اتحاد قشتالة وأراغون في مملكة إسبانية واحتلال مملكة غرناطة آخر دولة أندلسية مستقلة، غزت إسبانيا معظم القارة الأمريكية، وقضت على ممالكها، وأرغمت جميع أهلها على اعتناق الكاثوليكية، وكونت بها إمبراطورية استعمارية. ثم نقلت الأموال الأمريكية المنهوبة، من ذهب وفضة، إلى أرضها، وأجبرت الأهالي على العمل في الزراعة والمناجم في ظروف قاتلة. ولما قل عددهم بسبب انتشار الأوبئة وسوء المعاملة، أخذت إسبانيا تستعبد الأفارقة وتنقلهم إلى مزارع المستعمرين في أمريكا. ودامت تجارة العبيد هذه التي اشتركت فيها معظم دول أوروبا إلى القرن التاسع عشر.
وتوسعت إسبانيا في آسيا باحتلال جزر الفلبين وتابعت حربها على الإسلام في تلك المناطق النائية.
وأخذت إسبانيا تتوسع في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط أولاً بضم منطقة الروسيون الفرنسية سنة 1493 م، ثم مملكة نبارة سنة 1512 م. وفي سنة 1516 م، بويع كارلوس الخامس خلفًا لجده فراندو الكاثوليكي، وهو ابن ابنته خوانا المجنونة من إيسابيلا الكاثوليكية وفليبي الجميل ملك هولاندا ابن الإمبراطور مكسمليان هابسبورغ إمبراطور النمسا وماريا برغونيا التي ورثت من والدها شارل المغامر ممالك هولاندا واللوكسمبورغ والفرانش كونتي (بفرنسا اليوم) وقسمًا من الألزاس. وهكذا ضمت لإسبانيا بولاية كارلوس الخامس، أول ملوك السلالة النمساوية في إسبانيا، إمبراطورية أوروبية شاسعة تضم النمسا وهولاندا واللوكسمبورغ والفرانش كونتي وما
جاورها، ومنطقة ميلانو الإيطالية، وجنوب إيطاليا وجزيرتي سردانية وصقلية. وفي سنة 1580 م، بعد معركة وادي المخازن، انضمت البرتغال بجميع مستعمراتها إلى إسبانيا. ثم احتلت إسبانيا شواطىء شمال إفريقيا ومرانئها كطرابلس وتونس والجزائر ووهران ومليلة، وبعد ذلك سبتة وطنجة والمهدية والجديدة والصويرة، الخ
…
وخلف كارلوس الخامس ابنه فليبي الثاني (1556 - 1598 م)، ثم خلفه ابنه فليبي الثالث (1598 - 1621 م)، وهو الذي قام بطرد المورسكيين من إسبانيا سنة 1609 م. فكان لهذا الطرد أسوأ الأثر على اقتصاد إسبانيا، خاصة في مملكة أراغون، حيث أدى إلى تردي صناعات كثيرة كانت من اختصاص المورسكيين، كصناعة الحرير والسكر. فأخذت إسبانيا تتقهقر، وحدودها تتقلص. فطردت هولاندا الإسبان، وكونت جمهورية مستقلة أصبحت تهدد البحرية الإسبانية.
وخلف فليبي الثالث ابنه فليبي الرابع (1621 - 1665 م)، وكان عهده منعوتًا بالضعف والفوضى. ترك فليبي الرابع السلطة لوزيره كوندي ودوق دي أليبارس، فانتشر الظلم وعمت المجاعة والأوبئة في البلاد، فتزعزعت وحدتها وقل سكانها.
وفي سنة 1640 م انفصلت البرتغال عن إسبانيا، وثارت عليها قطلونية. وفي سنة 1643 م، انهزمت الجيوش الإسبانية في روكروا. وفي سنة 1647 م، ثارت صقلية ونابل. وفي سنة 1648 م، وقعت إسبانيا على معاهدة وستفاليا التي اعترفت فيها باستقلال "الأراضي المنخفضة" وبما ضمنه السويد وفرنسا وبراندبرغ والساكس وبفاريا من أراضيها. وفي سنة 1659 م، بعد انهزامات متواصلة على يد فرنسا وانكلترا برًّا وبحرًا، اضطرت إسبانيا في معاهدة "البرت" إلى التخلي لفرنسا عن منطقتي الأرتوا والروسيون، والموافقة على زواج بنت فليبي الرابع الكبرى بلويس الرابع عشر، ملك فرنسا. وبهذه المعاهدة حلت فرنسا محل إسبانيا في الهيمنة على أوروبا.
وخلف فليبي الرابع ابنه كارلوس الثاني (1665 - 1700 م)، وكان أضعف ملوك السلالة النمساوية إذ تابعت إسبانيا تقهقرها في أيامه. وطالب لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، فور وفاة فليبي الرابع بإرثه الإسباني بصفته زوج ابنته الكبرى، فاحتل المناطق البلجيكية التي كانت في حوزة الإسبان. لكن الدول الأوروبية الأخرى عارضت هذا التوسع الفرنسي، فاضطر لويس الرابع عشر في معاهدة آخن سنة 1668 م، إلى إرجاع معظم الأراضي التي احتلها، عدا مدينة ليل وبعض المدن الفلامنكية الأخرى. وفي معاهدة نيميك سنة 1678 م، اضطرت إسبانيا بعد حرب
مع فرنسا إلى التخلي لها عن الفرانش كونتي ومنطقة من مقاطعة الهينو وأخرى من الفلاندرز. وفي سنة 1681 م، احتلت فرنسا بالقوة مناطق أخرى من إسبانيا أهمها اللوكسمبورغ. وفي سنة 1686 م، تحالفت إسبانيا مع إمبراطور ألمانيا والسويد والساكس وبفاريا في "رابطة أوقسبرغ" في حرب ضد فرنسا، فانهزمت "رابطة أوقسبرغ" وفي سنة 1700 م، تحاشيًا لغزو فرنسي، اضطر الملك كارلوس الثاني الذي كان عقيمًا، قبل وفاته بقليل، إلى تعيين دوق آنجو، حفيد الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وليًّا للعهد شرط تنازله عن عرش فرنسا.
وفي سنة 1700 م، انقرضت السلالة النمساوية بوفاة كارلوس الثاني ومبايعة حفيد ملك فرنسا تحت اسم فليبي الخامس، أول ملوك سلالة البربون في إسبانيا.
فخافت دول أوروبا من خطر توحيد العرشين الفرنسي والإسباني، فتحالفت بريطانيا وهولاندا والإمبراطورية الألمانية في "معاهدة لاهاي"، وأعلنوا الحرب على فرنسا. فانهزمت في أول الأمر فرنسا أمام الحلف، واحتلت بريطانيا جبل طارق وبرشلونة، بينما طرد فليبي الخامس من مجريط في سنة 1708 م. وفي سنة 1713 م، توصلت فرنسا إلى توقيع معاهدة أوتريخت مع الحلفاء، بعد أن أحرزت بعض الانتصارات، تنازلت لبريطانيا بموجبها على مستعمراتها في أمريكا. وتنازل فليبي الخامس، مقابل حفاظه على عرش إسبانيا، لإمبراطور ألمانيا على ممتلكات إسبانيا في الأراضي المنخفضة ومنطقة ميلانو ونابل وجزيرة سردانية، ولدوق السافوا على جزيرة صقلية، واعترف لبريطانيا بحيازتها لجبل طارق.
وتحسنت أوضاع إسبانيا إلى حد ما أيام فليبي الخامس. فارتفع عدد سكانها من ثمانية ملايين في أوائل القرن السابع عشر، وستة ملايين في أوائل القرن الثامن عشر، إلى أحد عشر مليونًا في أواخره. وأخذت إسبانيا تحاول الاعتماد على عمل أبنائها عوضًا عن الاتكال على الذهب والفضة المجلوبة من أمريكا الجنوبية. وأوقفت الحكومة الإسبانية الاضطهادات الدينية وطرد المواطنين، وازدادت أهمية طبقات الشعب المنتجة في المجتمع الإسباني، وانتشرت الزراعة في قطلونية وقشتالة بعد طول إهمال نتيجة طرد المورسكيين، وعادت الحياة للموانىء، وانتشرت التجارة فتكونت رؤوس أموال مهمة، وأخذت الصناعة تنتشر نتيجة الرغبة في الحد من الاستيراد. وعمل فليبي الخامس على تركيز وحدة البلاد حول قشتالة، فقضى على ثورة قطلونية (1700 - 1714 م)، وألغى ما كان يتمتع به نبلاؤها من امتيازات، وأنهى
المؤسسات المستقلة لولايات المملكة المختلفة. وحمت الدولة في أيامه التجار، وألغت الضرائب على الإنتاج، وسهلت المواصلات مع أمريكا الجنوبية. وأخذت العاصمة مجريط تستقطب الكفاءات البشرية من الولايات المختلفة.
وفي عهد فليبي الخامس، انتشر العداء للكنيسة الكاثوليكية بزعامة الطبقة المتنورة من التجار وأصحاب المال، فحدّت الدولة من امتيازات الكنيسة الضخمة، وطردت اليسوعيين. ورغم ذلك شجع الملك ووزراؤه محاكم التفتيش، التي كانت تعيش آخر أيامها، على متابعة كبار القوم ومحاسبتهم على أفكارهم.
وخلف فليبي الخامس ابنه كارلوس الثالث (1746 - 1790 م). وفي أيامه قامت حرب السبع سنوات (1756 - 1763 م) بين فرنسا والنمسا وروسيا والسويد والساكس من جهة، وبريطانيا وبروسيا من جهة أخرى، بسبب تنافس فرنسا وبريطانيا على الهيمنة على أوروبا والتجارة العالمية. وانتهت الحرب بمعاهدة باريز التي تنازلت بموجبها فرنسا لبريطانيا عن الهند، عدا خمس مدن منها، وكندا والضفة الشرقية لنهر المسيسيبي، وتنازلت لحليفتها إسبانيا عن الضفة الغربية للنهر مقابل تنازل إسبانيا عن فلوريدا لبريطانيا، واسترجعت إسبانيا جزيرة ميورقة من بريطانيا.
وتابع كارلوس الثالث داخل البلاد سياسة سلفه، فعمم حرية التجارة سنة 1778 م، وانتعشت بسبب ذلك الموانىء، بما فيها ميناء إشبيلية بالأندلس، وتوسع نشاط ميناء برشلونة ونجح تجاره في إنشاء صناعة محلية. وقوى كارلوس الثالث سيطرة إسبانيا على مستعمراتها الأمريكية.
وخلف كارلوس الثالث ابنه كارلوس الرابع (1790 - 1808 م). وكان ملكًا ضعيفًا تدهورت في أيامه أوضاع إسبانيا، وسيطر على الدولة شاب من الاسترمادورا اسمه قودوي، بسبب تدخل الملكة، فكان له أسوأ الأثر، خاصة في السياسة الخارجية. وتحالفت إسبانيا مع فرنسا إبان ثورتها سنة 1789 م، فأضاعت كثيرًا من مصالحها. ففي معاهدة "باسل" انسحبت إسبانيا من جزيرة سانتو دومنقو، وتنازلت لبريطانيا عن جزيرة ترينداد ولويزيانا. وأخذت إسبانيا تفقد استقلالها بعد بروز نابليون في فرنسا سنة 1799 م. فاحتل الفرنسيون الأشبونة، عاصمة البرتغال، ثم قطلونية ونبارة. وفي هذه الأثناء، حاول معارضو الملك كارلوس الرابع خلعه وتولية ابنه فراندو مكانه. فاكتشف كارلوس الرابع المؤامرة بينما كان الجيش الفرنسي بقيادة "مورات" يغزو البلاد.