الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى.. الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض
هذه السورة مكّيّة، سوى ستّ آيات منها:{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} إِلى آخر ثلاث آيات {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى آخر ثلاث آيات. هذه الآيات السّت نزلت بالمدينة فى مرّتين، وباقى السّورة نزلت بمكة دفعة واحدة.
عدد آياتها مائة وخمس وستون آية عند الكوفيّين، وستّ عند البصريّين والشَّأْميّين، وسبع عند الحجازىّ.
وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر أَلفاً ومائتان وأَربعون.
والمختلف فيها أَربع آيات {الظلمات والنور} {بِوَكِيلٍ} {كُنْ فَيَكُوْن} {إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
فواصل آياتها (ل م ن ظ ر) يجمعها (لمَ نظر) .
ولهذه السّورة اسمان: سورة الأَنعام، لما فيه من ذكر الأَنعام مكرّراً {وَقَالُواْ هاذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ} {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} {وَأَنْعَامٌ لَاّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} ، وسورة الحُجّة؛ لأَنَّها مقصورة على ذكر حُجّة النبوّة. وأَيضاً تكرّرت فيه الحجّة {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} .
مقصود السّورة على سبيل الإِجمال، ما اشتمل على ذكره: من تخليق السّماوات والأَرض، وتقدير النُّور والظلمة، وقضاءِ آجال الخَلْق، والرّد على منكِرى النبوّة، وذكر إِنكار الكفَّار فى القيامة، وتمنّيهم الرّجوع إِلى الدّنيا، وذكر تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذِّبين، وإِلزام الحجّة على الكفار، والنَّهى عن إِيذاءِ الفقراءِ، واستعجال الكفَّار بالعذاب، واختصاص الحقّ تعالى بالعلم المغيّب، وقهره، وغلبته على المخلوقات، والنَّهى عن مجالسة النَّاقضين ومؤانستِهم، وإِثبات البعث والقيامة، وولادة الخليل عليه السلام، وعرْض الملَكوت عليه، واستدلاله، حال خروجه من الغار، ووقوع نظره على الكواكب، والشمس، والقمر، ومناظرة قومه، وشكاية أَهل الكتاب، وذكرهم حالة النزع، وفى القيامة، وإِظهار بُرْهان التَّوحيد ببيان البدائع والصّنَائع،
والأَمر بالإِعراض عن المشركين، والنَّهى عن سبِّ الأَصنام، وعُبّادها، ومبالغة الكفَّار فى الطّغيان، والنَّهى عن أَكل ذبائح الكفَّار، ومناظرة الكفار، ومحاورتهم فى القيامة، وبيان شَرْع عَمْرو بن لُحىّ فى الأَنعام بالحلال والحرام، وتفصيل محرّمات الشريعة الإِسلامية، ومُحْكَمَات آيات القرآن، والأَوامر والنَّواهى من قوله تعالى {قُلْ تَعَالُوْا} إِلى آخر ثلاث آيات، وظهور أَمارات القيامة، وعلاماتها فى الزَّمن الأَخير، وذكر جزاءِ الإِحسان الواحد بعشرة، وشكر الرّسول على تبرّيه من الشرك، والمشركين، ورجوعه إِلى الحق فى مَحياه ومَمَاته، وذكر خلافة الخلائق، وتفاوت درجاتهم، وختم السّورة بذكر سرعة عقوبة الله لمستحِقِّيها، ورحمته، ومغفرته لمستوجبيها، بقوله {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيْمٌ} .
النَّاسخ والمنسوخ
الآيات المنسوخة فى السّورة أَربعَ عشرة آية {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} م {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ن {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} م آية السّيف ن {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ} إِلى قوله {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُوْنَ} م {فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} ن {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} م {قَاتِلُواْ
الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله وَلَا باليوم الآخر} ن {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} م آية السّيف ن {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} م آية السّيف ن {وَلَا تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} م آية السّيف ن {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} م آية السّيف ن {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَليه} م {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ن {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} م آية السّيف ن {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات
قوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ} وفى الشعراءِ {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ} لأَنَّ سورة الأَنعام متقدّمة فقيّد التكذيب بقوله: {بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} ثمّ قال: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} على التمام، وذكر فى الشعراءِ {فَقَدْ كَذَّبُواْ} مطلقا؛ لأَن تقييده فى هذه السّورة يدلّ عليه، ثمّ اقتصر على السّين هناك بد (فسوف) ليتَّفق اللفظان فيه على الاختصار.
قوله {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} فى بعض المواضع بغير واو؛ كما فى هذه السّورة، وفى بعضها بالواو، وفى بعضها بالفاءِ؛ هذه الكلمة تأتى فى القرآن على وجهين: أَحدهما متَّصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فذكره بالأَلف
والواو، ليدلّ الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وكذا الفاءُ، ولكنَّها أَشدّ اتِّصالاً بما قبلها، والثانى متَّصل بما الاعتبارُ فيها بالاستدلال، فاقتُصِر على الأَلف دون الواو والفاءِ، ليجرى مَجْرَى الاستئناف؛ ولا يَنْقُصُ هذا الأَصلَ قوله {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} فى النَّحل؛ لاتِّصالها بقوله {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وسبيله الاعتبار بالاستدلال، فبنى عليه {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} .
قوله {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض [ثُمَّ انظروا} فى هذه السورة فحسب. وفى غيرها: {سِيرُواْ فِي الأرض] فَاْنظُرُواْ} لأَنَّ ثُمَّ للتراخى، والفاءَ للتعقيب، وفى هذه السّورة تقدّم ذكرُ القرون فى قوله {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} ثمّ قال {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًاءَاخَرِيْنَ} فأُمِرُوا باستقراءِ الدِّيار، وتأَمُّل الآثار، وفيها كثرة فيقع ذلك (فى) سير بعد سير، وزمان بعد زمان، فخصّت بثمّ الدّالة على التَّراخى بعد الفعلين، ليُعلَم أَنَّ السّير مأمور به على حِدَة؛ ولم يتقدّم فى سائر السّور مثلُها، فخُضّت بالفاءِ الدَّالة على التعقيب.
قوله {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ليس بتكرار لأَنَّ الأَوّل فى حقِّ الكفَّار، (والثانى) فى حقِّ أَهل الكتاب.
قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ [لَا يُفْلِحُ الظالمون} وقال فى يونس (فمن) بالفاءِ، وخَتم الآية بقوله {إِنَّهُ] لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُوْنَ} لأَنَّ الآيات الَّتى تقدّمت فى هذه السّورة عُطِف بعضها على بعض بالواو، وهو قوله {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هاذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ
…
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ} ثمّ قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} وخَتَم الآية بقوله: {الظالمون} ليكون آخر الآية [موافقا للأَول. وأَما فى سورة يونس فالآيات التى تقدمت عطف بعضها على بعض بالفاءِ وهو قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ثم قال: فمن أَظلم (بالفاءِ وختم الآية] بقوله: {المجرمون} أَيضاً موافقة لما قبلها وهو قوله: {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} فوصفهم بأَنَّهم مجرمون، وقال بعده {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} فختم الآية بقوله: المجرمون ليعلم أَنَّ سبيل (هؤُلاءِ سبيل) مَن تقدّمهم.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفى يونس {يَسْتَمِعُونَ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة نَزَل فى أَبى سفيان، والنَّضْر بن الحارث، وعُتْبَة، وشَيْبَةَ، وأُمَيَّةُ، وأُبىّ بن خَلَفَ، فلم يكثروا ككثرة قوله (مَن) فى يونس لأَنَّ المراد بهم جميع الكفَّار، فحمل هاهنا مرَّة على لفظ (مَنْ) فوُحِّدَ؛
لقلًَّتهم، ومرَّة على المعنى، فجمع؛ لأَنَّهم وإِن قَلُّوا جماعةٌ. وجُمع ما فى يونس ليوافق اللَّفظ المعنى. وأَمَّا قوله فى يونس:{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} فسيأْتى فى موضعه إِن شاءَ الله تعالى.
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ثمّ أَعاد فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} لأَنَّهم أَنكروا النَّار فى القيامة، وأَنكروا الجزاءَ والنَّكال، فقال فى الأُولى:{إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، وفى الثَّانية {عَلَى رَبِّهِمْ} أَى جزاءِ ربِّهم ونكالِه فى النار، وختم بقوله:{فَذُوْقُوْا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُوْنَ} .
قوله: {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ليس غيره. وفى غيرها بزيادة (نموت ونحيا) لأَنَّ ما فى هذه السّورة عند كثير من المفسرين متَّصل بقوله ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وقالوا إِن هى إِلَاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولم يقولوا ذلك، بخلاف ما فى سائر السُّوَر؛ فإِنهم قالوا ذلك؛ فحكى الله تعالى عنهم.
قوله: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} قدّم اللَّعب على اللَّهو فى موضعين هنا، وكذلك فى القتال، والحديد، وقدّم اللَّهو على اللَّعب فى الأَعراف، والعنكبوت، وإِنما قدّم اللَّعب فى الأَكثر لأَنَّ
اللعب زمانه الصبا واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدّم على زمان الشباب. يُبَيِّنه ما ذكر فى الحديد {اعْلَمُوْا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الشبَّان {وَزِيْنَةٌ} كزينة النِّسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الإِخوان {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر السُّلطان. وقريب من هذا فى تقديم لفظ اللعب على اللَّهو قوله {وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} وقدّم اللَّهو فى الأَعراف لأَنَّ ذلك فى القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأَ بما به الإِنسان انتهى من الحالتين. وأَما العنكبوت فالمراد بذكرها زمانُ الدُّنيا، وأَنَّه سريع الانقضاءِ، قليل البقاءِ، وإِنَّ الدَّار الآخرة لهى الحيوان أَى الحياة الَّتى لا بداية لها، ولا نهاية لها، فبدأَ بذكر اللهو؛ لأَنَّه فى زمان الشَّباب، وهو أَكثر من زمان اللعب، وهو زمان الصِّبا.
قوله: {أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} ثمّ قال: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} وليس لهما ثالث. وقال: فيما بينهما {أَرَأَيْتُمْ} وكذلك فى غيرها، ليس لهذه الجملة فى العربيّة نظير، لأَنَّه جمْع بين علامَتَى خطاب، وهما التاءُ والكاف، والتَّاءُ اسم بالإِجماع، والكاف حرف عند البصريين يفيد الخطاب فحسْبُ، والجمع بينهما يدلُّ على أَن ذلك تنبيه على شىء، ما عليه من مزيد، وهو ذكر
الاستئصال بالهلاك، وليس فيما سواهما ما يدلّ على ذلك، فاكتُفِىَ بخطاب واحد والله أَعلم.
قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُوْنَ} فى هذه السورة، وفى الأَعراف:{يَضَّرَّعُوْنَ} بالإِدغام لأَنَّ هاهنا وافق ما بعده وهو قوله: {جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوْا} ومستقبل تضرَّعوا يتضرَّعون لا غير. قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات} مكرّر؛ لأَنَّ التقدير: انظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصْدِفُونَ عنها؛ فلا نُعرض عنهم بل نكرّرها لعلهم يفقهون.
قوله: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فكرّر {لَكُمْ} وقال فى هود {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} فلم يكرّر {لَكُمْ} لأَنَّ فى هود تقدّم {إِنِّيْ لَكُمْ نّذِيْرٌ} وعَقِبه {وَمَا نَرَى لَكُمْ} وبعده {أَنْ أَنْصَحُ لَكُمْ} فلمّا تكرّر {لَكُمْ} فى القصّة أَربع مرَّات اكتفى بذلك.
قوله: {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} فى هذه السّورة، وفى سورة يوسف:{إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} منوَّناً؛ لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم {بَعْدَ} {وَلَكِنْ ذِكْرَى} فكان {الذِّكْرَى} أَليقَ بها.
قوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} فى هذه السّورة؛ وفى آل عمران: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}
وكذلك فى الرّوم، ويونس {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} لأَنَّ [ما] فى هذه السّورة وقعت بين أَسماءِ الفاعلين وهو فالق الحبّ، فالق الإِصباح وجاعل اللَّيل سكناً، واسم الفاعل يُشْبه الاسم من وجه، فيدخله الأَلفُ واللَاّم، والتنوينُ، والجرُّ (من وجه) وغير ذلك، ويشبه الفعل من وجه، فيعمل عمل الفعل، ولا يثنى و (لا) يجمع إِذا عمل، وغير ذلك. ولهذا جاز العطف عليه بالاسم نحو قوله: الصّابرين والصّادقين، وجاز العطف عليه بالفعل نحو قوله:{إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً} ، ونحو قوله:{سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} فلمّا وقع بينهما ذكر {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} بلفظ الفعل و {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} بلفظ الاسم؛ عملاً بالشّبَهَين وأُخِّر لفظ الاسم؛ لأَنَّ الواقع بعده اسمان، والمتقدّم اسم واحد، بخلاف ما فى آل عمران؛ لأَنَّ ما قبله وما بعده أَفعال. وكذلك فى يونس والرّوم قبله وبعده أَفعال. فتأَمّل فيه؛ فإِنّه من معجزاتِ القرآن.
قوله {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثمّ قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وقال بعدهما {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأَنَّ مَن أَحاط علماً بما فى الآية الأُولى صار عالِماً، لأَنَّه أَشرف العلوم، فختم بقوله: يعلمون؛ والآية الثانية مشتملة على ما يَستدعى تأمُّلاً وتدبُّراً، والفقه علم يحصل بالتفكُّر والتدبُّر، ولهذا لا يوصف به الله سبحانه وتعالى، فختم الآية بقوله:{يَفْقَهُونَ} ومَنْ أَقَرَّ بما فى الآية الثالثة صار مؤمناً حَقّاً، فختم الآية بقوله {يُؤْمِنُوْنَ} وقوله {ذلكم لآيَاتٍ} فى هذه السّورة، لظهور الجماعات وظهور الآيات (عمّ جميع) الخطاب وجُمع الآيات.
قوله: {أَنْشَأَكُمْ} ، وفى غيرها {خَلَقَكُمْ} لموافقة ما قبلها، وهو {أَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} وما بعدها {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} .
قوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، وفى الآية الأُخرى {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} لأَنَّ أَكثر ما جاءَ فى القرآن من هاتين الكلمتين جاءَ بلفظ التَّشابه، نحو قوله:{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فجاءَ {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى الآية الأُولى و {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى الآية الأُخرى على تلك القاعدة. ثمّ كان لقوله "تشابه" معنيان: أَحدهما الْتَبس، والثانى تساوى، وما فى
البقرة معناه: الْتبس فحَسْب، فبيّن بقوله:{مُشْتَبِهاً} ومعناه: ملتبساً أَنَّ ما بعده من باب الالتباس أَيضاً، لا من باب التساوى والله أَعلم.
قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إلاه إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فى هذه السورة، وفى المؤمن {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَاّ إلاه إِلَاّ هُوَ} ؛ لأَنَّ فيها قبله ذكر الشركاء، والبنين، والبنات، فدفع قول قائله بقوله: لا إِله إِلَاّ هو، ثمّ قال {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وفى المؤْمن قبله ذكر الخَلْق وهو {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} لا على نفى الشَّريك، فقدم فى كل سورة ما يقتضيه ما قبله من الآيات.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال فى الآية الأُخرى من هذه السّورة: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} لأَنَّ قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} وقع عقِيب آيات فيها ذِكر الرّب مرّات وهى {جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الآيات
…
فختمها بذكر الرّب؛ ليوافق {أُخْرَاهَا أُوْلَاهَا} .
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ} وقع بعد قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} فختم بما بدأَ.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} وفى ن: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} بزيادة الباء، ولفظ الماضى؛ لأَنَّ
إِثبات الباء هو الأَصل؛ كما فى {ن والقلم} وغيرها من السّور؛ لأَن المعنى لا يعمل فى المفعول به، فقُوَّى بالباءِ. وحيث حُذفت أَضِمرَ فعل يعمل فيما بعده. وخصّت هذه السّورة بالحذف موافقة لقوله:{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وعُدِل إِلى لفظ المستقبل؛ لأَنَّ الباءَ لمّا حُذِفتْ الْتبس اللفظ بالإِضافة - تعالى الله عن ذلك - فنبّه بلفظ المستقبل على قطع الإِضافة؛ لأَنَّ أَكثر ما يستعمل بلفظ (أَفعل مَنْ) يستعمل مع الماضى؛ أَعلم مَن دَبّ ودَرَجَ، وأَحسن مَن قام وقعدَ، وأَفضل من حجّ واعتمر. فتنبّهْ فإِنَّه مِن أَسرار القرآن.
قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} بالفاءِ حيث وقع، وفى هود {سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} بغير فاء؛ لأَنَّه تقدّم فى هذه السورة وغيرها (قل) فَأَمرهم أَمْرَ وعيد بقوله (اعملوا) أَى اعملوا فستجزَونَ، ولم يكن فى هود (قل) فصار استئنافاً. وقيل:{سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} فى سورة هود صفة لعامل، أَى إِنّى عامل سوف تعلمون، فحَذَف الفاءَ.
قوله {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} ، وقال فى النحل: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا
مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} فزاد {مِن دُونِهِ} مرّتين، وزاد (نحن) لأَنَّ لفظ الإِشراك يدل على إِثبات شريك لا يجوز إِثباته، ودلَّ على تحريم أَشياءَ، وتحليل أَشياءَ من دون الله، فلم يحتج إِلى لفظ {مِن دُونِهِ} ؛ بخلاف لفظ العبادة؛ فإِنَّها غير مستنكرة، وإِنَّما المستنكرة عبادة شىء مع الله سبحانه وتعالى ولا يدل على تحريم شئ مما دلَّ عليه (أَشرك)، فلم يكن بُدٌّ (من تقييده بقوله:"من دونه". ولَمَّا حذف "من دونه" من الآية مرَّتين حذف معه (نحن) لتطَّرد الآية فى حكم التَّخْفيف.
قوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفى سبحان {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} على الضِّدّ؛ لأَنَّ التقدير: من إِملاق [بكم] نحن نرزقكم وإِياهم وفى سبحان: خشية إِملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإِيَّاكم.
قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وفى الثانية {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وفى الثالثة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ} لأَنَّ الآية (الأُولى) مشتملة على خمسة أَشياء، كلُّها عظام جسَام، وكانت الوصيّة بها من أَبلغ الوصايا، فختم الآية بما فى الإِنسان من أَشرف السّجايا (وهو العقل) الَّذى امتاز به
الإِنسان عن سائر الحيوان؛ والآية الثانية مشتملة على خمسة أَشياء يقبح تعاطيها وارتكابها، وكانت الوصيّة بها تجرى مجْرَى الزَّجر والوعظ، فختم الآية بقوله:{تَذَكَّرُونَ} أَى تتَّعظون بمواعظ الله؛ والآية الثالثة مشتملة على ذكر الصّراط المستقيم، والتَّحريض على اتباعه، واجتناب مُنافيه، فختم الآية بالتَّقوى الَّتى هى مِلاك العمل وخير الزَّاد.
قوله: {جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض} فى هذه السّورة، وفى يونس والملائكة {جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض} لأَنَّ فى هذه العشر الآيات تكرّر ذكر المخاطبين مرَّات، فعرّفهم بالإِضافة؛ وقد جاءَ فى السّورتين على الأَصل، وهو {جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ} . قوله:{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال فى الأَعراف {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة وقع بعد قوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقوله: {وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض} فقُيِّد قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بالَّلام ترجيحاً للغفران على العقاب. ووقع ما فى الأَعراف بعد قوله: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} وقوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فقيّد العقاب بالَّلام لما تقدّم من الكلام، وقيّد المغفرة أَيضا بها رحمةً منه للعباد؛ لئلَاّ يترجّح جانب الخوف على الرّجاءِ. وقدّم {سَرِيْعُ الْعِقَابِ} فى الآيتين مراعاة لفواصل الآى.
فضل السّورة
عن النَّبىّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "نزلت علىَّ سورةُ الأَنعام جملةً واحدة يُشيّعها سبعون أَلفَ مَلَك، لهم زَجَل بالتسبيح، والتحميد فمن قرأَ سورة الأَنعام صلَّى عليه أَولئك السّبعون أَلف مَلَك، بعدد كل آية من الأَنعام، يوماً وليلة، وخلق الله من كلِّ حرف مَلكاً يستغفرون له إِلى يوم القيامة" وعنه صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "مَنْ قرأَ ثلاث مرّات من أَوّل سورة الأَنعام إِلى قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تَكْسِبُوْنَ} وَكل الله به أَربعين أَلف مَلَك، يكتبون له مثل عبادتهم إِلى يوم القيامة، ونزل مَلَك من السّماءِ السّابعة، ومعه مِرْزَبَّة من حديد، فإِذا أَراد الشيطان أَن يوسوس ويوحى فى قلبه شيئاً ضربه بها ضربة كانت بينه وبينه سبعون حجاباً، فإّذا كان يوم القيامة يقول الرّب تبارك وتعالى: عِشْ فى ظلِّى وكُلْ من ثمار جنَّتى، واشرب من ماءِ الكوثر، واغتسل من ماءِ السّلسبيل، وأَنت عبدى، وأَنا ربّك". وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأَ هذه السّورة كان له نور من جميع الأَنعام الَّتى خلقها الله فى الدّنيا ذَرّاً بعدد كل ذرٍّ أَلفُ حسنة ومائة أَلف درجة" ويروى أَنَّ هذه السّورة معها من كلِّ سماءِ أَلفُ أَلف مَلَك لهم زَجَل بالتَّسبيح والتَّهليل، فمن قرأَها تستغفر له تلك اللَّيلة. وعن جعفر الصّادق أَنَّه قال:
من قرأَ هذه السّورة كان من الآمنين يوم القيامة. وإِن فيها اسم الله [فى] تسعين موضعاً. فمن قرأَها يغفر له سبعين مرّة. وعن النَّبى صلى الله عليه وسلم: "يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الأَنعام كُتِب اسمه فى ديوان الشهداءِ، ويأْخذ ثواب الشُّهداءِ، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب الراضين بما قسم الله لهم". وقال كعب الخير فُتحت التوراة بقوله (الحمد لله الذى خلق السماوات والأَرض) وختمت بقوله {الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} .