الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استقراره في اليمن
بعد أَن طوَّف المجد فى البلاد انتهى به المطاف فى اليمن. فقد استدعاه صاحبها الأَشرف إِسماعيل بن العباس من آل رَسُول إِلى حضرته زَبيد فى سنة 796هـ، وكان قادماً من الهند. وأَمر عامله على عَدَن أَن يجهّزه بأَربعة آلاف درهم، ووصله حين وصل إِليه بأَربعة آلاف درهم أُخرى.
وأَكرمه السلطان ونصبه للتدريس وصار يحضر دَرسه.
وفى سنة 797 ولَاّه منصب قضاء الأَقضية، وكان شاغراً منذ وفاة جمال الدين محمد بن عبد الله الرَيْمىّ فى سنة 792، وكتب له منشور بذلك فى أَقطارِ المملكة. وظل يزاول التدريس، فقد سمع السلطان عليه فى رمضان من سنة 798 صحيح البخارىِّ، وكان ذا سَند عالٍ من طرق شَتَّى.
ولقد لقى حظوة كبيرة عند السلطان الأَشرف، وتزوّج الأَشرف ابنته لفرط جمالها، فازداد المجد قربا منه وزُلفى لديه. ويُروى أَنه أَلَّف له كتابا وأَرسله إِليه محمولا على أَطباق فردَّها إِليه السلطان مملوءَة دراهم. وفى اليوم الخامش عشر من شهر شعبان من سنة 800هـ فرغ من كتابه "الإِصعاد" وكان ثلاثة مجلدات، فحمله ثلاثة رجال على رءوسهم إِلى السلطان، وسار أَمام حملة الكتاب الفقهاء والقضاة وسائر
الطلبة فلمّا دخل المجد على السلطان وقدَّم إِليه الكتاب أَجاره بثلاثة آلاف دينار.
ولم تكن هذه الطريقة فى رفع الكتاب إِلى السلطان غريبة فى بلاد اليمن، فيحكى صاحب العقود اللؤلؤية أَن سلف المجد فى قضاء الأَقضية الجمال الريمىّ فى سنة 788 رفع كتاب "التفقيه فى شرح التنبيه" فى فروع الشافعية، إِلى السلطان - وكان فى أَربعة وعشرين جزءا - فحمله المتفقهِّة على رءوسهم إِلى باب السلطان. وقد حباه السلطان بثمانية وأَربعين أَلف درهم.
وقد بلغ من اعتزاز الأَشرف به وحرصه أَلَاّ يفارقه أَبدا أَن طلب إِليه المجد أَن يأذن له بالسفر إِلى الحجّ، فرأَى أَن فى هذا حرمانا للبلاد من علمه وفضله، وعَزَم عليه أَن يبقى إِلى جانبه.
فلقد كتب إِلى السلطان فى سنة 799 كتابا فيه: "وممّا يُنهيه إِلى العلوم الشريفة أَنه غير خاف عليكم ضعف أَقلّ العبيد، ورِقَّة جسمه، ودقَّة بنيته، وعلوّ سنّه. وقد آل أَمره إِلى أَن صار كالمسافر الذى تحزّم وانتعل، إِذ وهَنَ العظم، بل والرأْس اشتعل، وتضعضع السِّن، وتقعقع الشَنّ. فما هو إِلاّ عظام فى جراب، وبنيان مشرف
على خراب. وقد ناهز العَشر التى تسميها العرب دقَّاقة الرقاب. وقد مرّ على المسامع الشريفة، غير مرّة فى صحيح البخارىّ قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذا بلغ المرء ستيّن سنة فقد أَعذر الله إِليه" فكيف من نيّف على السبعين، وأَشرف على الثمانين. ولا يَجمل بالمؤمن أَن تمضى عليه أَربع سنين ولا يتجدَّد له شوق وعزم إِلى بيت ربّ العالمين، وزيارة سيد المرسلين، وقد ثبت فى الحديث النبوىّ ذلك. وأَقلّ العبيد له ستّ سنين عن تلك المسالك. وقد غلب عليه الشوق، حتى جلَّ عمْره عن الطَوْق. ومن أَقصى أُمنيَّته أَن يجدّد العهد بتلك المعاهد، ويفوز مرة أُخرى بتقبيل تلك المشاهد. وسؤالُه من المراحم الحسَنيَّة الصدقة عليه بتجهيزه فى هذه الأَيام، مجرّدا عن الأَهالى والأَقوام، قبل اشتداد الحَرّ وغلبة الأُوام؛ فإِن الفصل أَطيب، والريح أَزْيب. ومن الممكن أَن يفوز الإِنسان بإِقامة شهر فى كل حَرَم، ويحظى بالتملّى من مهابط الرحمة والكرم. وأَيضا كان من عادة الخلفاء سَلَفا وخَلَفا أَنهم كانوا يُبردون البريد عَمْداً قصدا لتبليغ سلامهم إِلى حضرة سيد المرسلين
صلوات الله وسلامه عليه، فاجعلنى - جعلنى الله فداك - ذلك البريد، فلا أَتمنى شيئا سواه ولا أُريد.
شوفى إِلى الكعبة الغرّاء قد زادا
…
فاستحمل القُلُص الوخّادة الزادا
واستأْذن الملك المنعام دام عُلاً
…
واستودع الله أَصحابا وأَولادا
فلما وصل الكتاب إِلى السلطان كتب إِليه: إِن هذا شئٌ لا ينطق به لسانى، ولا يجرى به قلمى. فقد كانت اليمن عمياءَ فاستنارت. فكيف يمكن أَن نتقدم، وأَنت تعلم أَن الله قد أَحيا بك ما كان ميّتا من العلم. فبالله عليك إِلَاّ ما وهبت لنا بقيَّة هذا العمر. والله يا مجد الدين يمينا بارَّة، إِنى أَرى فراق الدنيا ولا فراقك، أَنت اليمن وأَهله.
وقد بقى فى اليمن مغمورا ببرّ الأَشرف إِسماعيل. ويظهر أَن المجد أَلحَّ عليه أَن يأْذن له فى الحج، فأَذن له. ففى سنة 802 حجّ، وأَقام بمكَّة بعد الحجّ، وبَنى له دارا على الصَّفا. ونراه يقول فى مادة (ص ف و) فى القاموس:"والصَفا من مشاعر مكَّة بلحف أَبى قُبَيْس. وابتنيت على مَتْنه دارا فيحاءَ". وفى هذه الدار أَتم القاموس، فهو يقول فى خاتمة هذا الكتاب:"وقد يسَّر الله - تعالى - إِتمامه بمنزلى على الصفا بمكَّة المشرَّفة، تجاه الكعبة المعظمة، زادها الله تعظيما وشرفا، وهيّأ لقُطَّان باحتها من بحابح الفراديس غرفا".
ويذكر الفاسىّ فى العقد الثمين أَنه جعل هذه الدار مدرسة بامس الملك الأَشرف، ورتَّب فيها مدرسين للحديث، وفقه مالك وفقه الشافعى.