الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بك يا سيد الرسل وجحودهم كتابك «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46) إيمانا لا يعبا به مثل اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم وإقرارهم بالبعث ونبوة موسى، ولكن هذا كله ليس بشيء فإذا لم يؤمنوا بجميع الأنبياء والكتب كافة لا يقبل منهم.
واعلم أن هذا النطق باللفظ الذي له معنيان وإرادة الأسوأ من جملة طبايعهم التي جبلوا عليها.
مطلب طبايع اليهود أخزاهم الله واسلام عبد الله بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك وعلقة اليهود:
ولهم طبايع مذمومة كثيرة، منها التناقض بالأقوال والأفعال المشار إليه بالآيتين 84 و 85 والعظمة والكبرياء المنوه بهما في الآية 87 والحقد والحسد المذكورين في الآيتين 78 و 90، والعناد واللجاج في الآيتين 98 و 99، والكذب على النفس والإفراط في حب الحياة في الآيتين 94 و 96 وخصومتهم بالباطل لكل من يدعي الحق والمكابرة في الحق في الآيتين 98 و 99 أيضا، ونقض العهد ونبذ الدين في الآيتين 100 و 101، والميل إلى الطرق غير المشروعة في سبيل غرضهم وميلهم إلى السحر في الآية 102 من سورة البقرة، ولهم طبايع أخرى كثيرة ذميمة قبحهم الله وأخزاهم، هذا. ولما قال صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن حوريا وكعب بن الأشرف يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم تعلمون أن الذي جئتكم به حق وصدق، قالوا: ما نعرف ذلك وأصروا على جحودهم أنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» لأن القرآن مصدق للتوراة «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً» نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وحاجب وفم «فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها» أي على هيئة قفاها مطموسة لا شيء فيها أو نديرها فنجعل الوجه إلى خلف والقفا إلى قدام «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» أي نمسخهم كما مسخناهم قردة وخنازير، ويرمي هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إلى التهديد العظيم وإيقاع الوعيد بهم «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» (47) البتة لا يحول دونه حائل ولا يرده راد. ولما كان حضرة الرسول يعلن ما ينزل إليه من القرآن حال نزوله سمع في هذه الآية عبد الله بن
سلام وكان قافلا من الشام فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال وصوله المدينة قبل أن يأتي أهله وأسلم، وقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي إلى قفاي، لأني سوّفت بالإيمان، ولذلك بادرت إليك وحسن إسلامه رضي الله عنه، وكان إسلامه على الصورة المبينة في الآية 10 من سورة الأحقاف في ج 2 وأسلم معه جماعة من أتباعه وغيرهم بعد نزول هذه الآية العظيمة، وكل ما قيل بأنه أسلم قبل نزول هذه الآية لا صحة له كما أوضحناه هناك فراجعه. واعلم أن صدر هذه الآية لم يكرر في القرآن كله. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» بلا توبة فلا يغفر للمشرك وهو مشرك فإذا تاب غفر لهو يغفر للمذنب وهو مذنب لقوله تعالى «وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» الكبائر وغيرها فإذا مات مرتكبها بلا توبة فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. أما من مات على الشرك فهو مخلد في النار، روى مسلم عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار. وحمل الآية على التائب باطل لأن الكفر مغفور بالتوبة. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 38 من الأنفال المارة. فما دون الكفر لأن يغفر بالتوبة من باب أولى، وقد سبقت الآية في بيان التفرقة بينهما، قالوا لما نزل قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية 52 فما بعدها من سورة الزمر ج 2 في المدينة وكان نزل قبلها في المدينة الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان في ج 1 وبعدهما نزلت هذه الآية المفسرة التي نحن بصددها، وبعدها آيات سورة الزمر المذكورة، قال رجل يا رسول الله والشرك؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا، فنزل قوله تعالى «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» (48) وإنما سماه الله افتراء لأنه لم يخلقه ولم يكن في علمه أن له شريكا في ملكه، وكان في علمه أن من خلقه من يفتري هذا ويختلقه بهتانا وزورا قال تعالى (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية 101 من سورة الأنعام ج 2 فصارت نسبة الشريك إليه تعالى بهتا وافتراء عليه، فأجابه حضرة الرسول أن الشرك لا يغفر لتلك العلّة
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» كلمة تعجب «إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ» يا سيد الرسل وهي دنسة بالكفر والإنكار والجحود، وهذا تعجب من حالهم وعجّب رسوله من أطوارهم، وهذه نزلت في أناس من اليهود أتوا بأطفالهم إلى حضرة الرسول وقالوا له
هل على هؤلاء من ذنب؟ قال لا، قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا باليل، وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار، أي بسبب ما يقدمونه من العبادة والخيرات بزعمهم، وهذا هو معنى تزكيتهم أنفسهم، وقد قالوا بعد هذا (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) كما سيأتي في الآية 17 من المائدة الآتية، وقالوا قبل «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» الآية 112 من البقرة فرد الله عليهم بقوله «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فلا عبرة بتزكية المرء نفسه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (49) من نوابهم بسبب قولهم هذا لأنه ناشيء عن ظنهم ليس إلا والفتيل هو الخيط الذي في بطن النواة ويضرب به المثل بالقلّة والحقارة كالنقير الذي هو بظهرها والقطمير غشاؤها الرقيق الملتف عليها فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ» هؤلاء اليهود «عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بعدّ أنفسهم كأطفالهم غير المؤاخذين بما فعلوا لفقد سن التمييز مع إصرارهم على جحودهم القرآن الذي جئتهم به الذي لا أعظم من الكفر به إلا الشرك «وَكَفى بِهِ» بكذبهم هذا «إِثْماً مُبِيناً» (50) ظاهرا لا يحتاج إلى الإثبات،
ثم ذكر الله جل ذكره شيئا من سيئاتهم الاخر وعجب رسوله منها فقال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ» هو كل ما عبد من دون الله من الأوثان إنسانا كان أو حيوانا أو جمادا «وَالطَّاغُوتِ» الشيطان اسم مبالغة الطاغية «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «هؤُلاءِ» يعنون المشركين أنفسهم «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (51) طريقا وهو قول كذب محض ليشطوهم على دينهم ويمنعوهم من الإسلام «أُولئِكَ الَّذِينَ» يقولون هذا القول «لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52) وهذه قصة أخرى من سيئات اليهود التي عملوها سابقا فيما بينهم يخبر الله تعالى رسوله بها وهي أن حيي بن أحطب وكعب بن الأشرف ذهبوا إلى مكة بعد واقعة أحسد في سبعين رجلا
من أصحابهم ليحالفوا قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخزاهم الله به وشقت شملهم كما مر في الآية 24 فما بعدها من سورة الأحزاب ونقضوا عهدهم معه، فقالت لهم قريش إنا لا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن تسجدوا لهذين الصنمين فنختبر صدقكم فسجدوا، قالوا اسم الصنمين جبتا وطاغوت، فذلك قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ) إلخ فتعاهدوا عند البيت على قتاله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو سفيان لكعب كيف أنتم يا أهل الكتاب نحن أميون لا نعلم أن محمدا أهدى أم نحن؟
قال اعرض عليّ دينك، فقال نحن ننحر للحجيج الكرماء الناقة كثيرة اللحم مرتفعة السنام ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر البيت ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد من علمت، فقال أنتم أهدى سبيلا مما عليه محمد، فأنزل الله هذه الآية. ويفهم من هذا أن هذه الآية نزلت بعد حادثة أحد وقبل الأحزاب فتكون متقدمة في النزول على ما قبلها كآية اليتيم المارة آنفا، ولا مانع، لأن الآيات التي نزلت بالحوادث أو بغيرها قد تتقدم على سورها وقد تتأخر كما ذكرناه غير مرة، وإن كلا منها توضع بمحلها كما هي الآن في المصاحف وفاقا لما هو عند الله بأمر من حضرة الرسول وإشارة من جبريل الأمين عليهما الصلاة والسلام، راجع الآية 44 المارة ومن جملة سيئاتهم أنهم قالوا نحن أحق بالملك والنبوة من العرب القرشيين فكيف نتبعهم، فأنزل الله تنديدا بهم «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» فيما سبق حتى يدعون الأولوية به «فَإِذاً» أي لو كان لهم حظ فيه «لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (53) منه راجع الآية 49 المارة آنفا تعلم أن النقير يضرب مثلا لكل تافة «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» أي محمدا وأصحابه «عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من النصر والغلبة والتقدم والملك والنبوة والكتاب، وليس هذا ببدع «فَقَدْ آتَيْنا» قبلهم «آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» مثل داود وسليمان ويوسف «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (54) في الدنيا لم نؤته محمدا ولا غيره راجع وصفه في الآية 9 من سورة سبأ ج 2 والآية 15 فما بعدها من سورة النمل ج 1 والآية 77 من سورة الأنبياء فما بعد في ج 2 وما بعدها فلماذا لا يحسدونهم وقد جمعوا بين الملك والنبوة والكتاب وخصوا بأشياء لم تكن
لأحد قبلهم ولا تكون لأحد بعدهم؟ وهؤلاء اليهود «فَمِنْهُمْ» أناس منّ الله عليهم بالإيمان المعنيون بقوله تعالى «مَنْ آمَنَ بِهِ» كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» كهؤلاء الموجودين عندك الذين شأنهم الكذب والحسد والنفاق ومن بعدهم ممّن كان على شاكلتهم «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (55) لمن لا يؤمن بالله ورسله وكتبه، وإن اليهود كما أنهم يطعنون بحضرة الرسول يطعنون أيضا بأصحابه كما مر في الآية 105 وفي كتابه في الآية 108 وفي مستقبل الإسلام في الآية 17 وفي الكعبة واستقبالها في الآية 115 وفي الدعوة الإسلامية في الآية 118 من البقرة المارة. وهناك لهم سيئات أخرى كثيرة مرت وستمر، قاتلهم الله ما ألعنهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» من جميع الخلق «سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» بالصفة وإلا فهي عين الأولى كما إذا صنعت خاتمك على غير هيئته الأولى فهو هو.
غير أن الصياغة تبدلت فبدلت صفته وذلك لأن الجوارح تعظم فيظن رائيها أنها غيرها فلا يصح القول بأن تكون جلودا غير جلودهم لمنافاته لقوله تعالى «لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» وأن الله غير الجلد الذي اكتسب الإثم واستحق العذاب على صفة أخرى لا أنه بدل نفسه بغيره إذ تأبى حكمة الله أن يعذب شيئا بجرم غيره لقوله جل قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) . وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا.
ومما يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وما رواه مسلم عنه قال قال صلى الله عليه وسلم ضرس الكافر أو قال نايه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام. وغير مستحيل على الله تعالى أن يضاعف أجسادهم ليضاعف عذابهم، ولا غرو أن الجريح قد يرم جرحه حتى يصير العضو المجروح مثله مرارا بسبب جرح بسيط فكيف بما يصيبهم من كيّ النار الدال عليها قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً» لا يمتنع عليه شيء يكبر ما يشاء ويصغر ما يشاء «حَكِيماً» (56) بما يفعل لا اعتراض عليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأقذار الدنيوية مما يعتري نساءها من