الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسنين: إما أن يرغم أنف أعدائه ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصاله بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت فيصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم. وقدمنا في الآية 56 من سورة العنكبوت في ج 2 ما يتعلق بهذا الحديث فراجعه.
مطلب في قصر الصلاة وكيفيتها وهل مقيدة بالخوف أم لا ومدتها، وقصة سرقة طعيمة بن أبيرق وجواز الكذب أحيانا:
قال تعالى «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» من أربع إلى اثنتين «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأن يغتالوكم وأنتم فيها «إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا» ولم يزالوا «لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً» (101) فتحذروا منهم ثم بين كيفية صلاة الخوف فقال جل قوله «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل «فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» فاقسمهم إلى طائفتين وأمرهم «فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» تقتدي بك في صلاتها «وَلْيَأْخُذُوا» أي الطائفة الأخرى التي أمرتها أن لا تصلي معك أولا «أَسْلِحَتَهُمْ» ليحرسوكم «فَإِذا سَجَدُوا» أي الطائفة التي اقتدت بك «فَلْيَكُونُوا» أي الطائفة الحارسة تجاه العدو وليراقبوهم لئلا يغدروا بكم «مِنْ وَرائِكُمْ» لأنكم لا ترونهم حال إحرامكم بالصلاة، وليبقوا هكذا في حراستكم حتى إذا أكملت الطائفة المصلية معك ركعة تأخرت وراءها ووقفت بإزاء العدو مكان الطائفة الحارسة وأكملت صلاتها وحدها، ويبقى الرسول أو الإمام بعده واقفا في محله، وبعد إكمالها صلاتها تقدمت الطائفة التي لم تصل فتأتم بالإمام، وهذا معنى قوله تعالى «وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا» بعد «فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ» أيضا لأنها كانت تحرس المصلين الأولين «وَلْيَأْخُذُوا» هؤلاء المصلون «حِذْرَهُمْ» بأن يكونوا يقظين لئلا يباغتهم العدو، وعليهم أن يرتدوا ما لديهم من درع وغيره من كل ما يتحرز به «وَأَسْلِحَتَهُمْ» أيضا ليكونوا متهيئين عند مبادرة العدو لهم، ويبقى الإمام جالسا إلى أن تأتي هذه الطائفة الأخيرة بالركعة الثانية بالنسبة للامام، وهي أولى بحقهم، أو تتم صلاتها، ثم يسلّم الإمام فتكون الطائفة الأولى أدركت أول صلاة الإمام والأخرى مسبوقة بركعة،
وإنما كان كذلك لأن الإمام كان رسول الله ولا يفرط أحد بأن يحرم من الاقتداء به، أما الآن فيمكنهم أن يصلوا كل طائفة بإمام على حدة، ولكن يا حسرتاه أين الصلاة الآن، فإنهم يستصحبون في حروبهم الفتيات والخمور ويعملون الفواحش ويريدون النصر من الله وهيهات ذلك لمن عصاه وبارزه بالمناهي وأعرض عن الطاعة وركن إلى الملاهي، ولا يخجلون فيقولون لم لا ينصرنا الله وقد وعدنا النصر؟. نعم إن الله تعالى وعد المؤمنين النصر، ولكن هات المؤمنين وخذ نصر الله المبين، والله لا يخلف الميعاد، ولكن نحن الناكثون المنافقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنما أمرهم الله بأخذ حذرهم لأن الكفرة بالمرصاد لهم، وقد «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ» فتتركونها باشتغالكم بالصلاة أو غيرها «فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ» في هذه الفرصة التي يتربّصونها «مَيْلَةً واحِدَةً» ويحملون عليكم حملة رجل واحد فيقتلونكم على غرة ويأخذون ما لديكم من سلاح ومتاع هذا «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ» في الصلاة وغيرها على أن تكونوا يقظين «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ» في هذه الحالة أيضا لئلا يبغتكم العدو المتربص لكم ولم تتمكنوا من تناول أسلحتكم إذا تركتموها «إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (102) لهم، لأنهم لا يراعون حقه ولا يتقيدون بأمره ونهيه «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ» أي في كل حال كما مر في الآية 197 من آل عمران فإن كثرة ذكر الله توقع السكينة في القلب وتزيل الخوف والرعب «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ» وأمنتم من هجوم عدوكم وعرفتم بما بثثتم من العيون والجواسيس إنه لا يمكنه الوصول إليكم في صلاتكم «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» كاملة وصلوها جميعا جماعة «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ» ولا تزال «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» (103) محدودا بأوقات معلومة لا يصح تقديمها، ولا ينبغي تأخيرها عنها ولا يجوز إهمالها حتى يخرج وقتها لأنها تكون قضاء، قال تعالى «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» بأن تتقاعوا عن طلبهم بل تعرضوا لهم واطلبوهم ولا تحجموا عنهم وتحتجوا
«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ» مما أصابكم أو يصيبكم من الجراح والقتل والأسر «فَإِنَّهُمْ» أعداؤكم «يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ» أنتم لأنهم بشر مثلكم «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ» أيها المؤمنون من الثواب والسعادة في الآخرة والشفاء والخير في الدنيا «ما لا يَرْجُونَ، شيئا من ذلك، وقد يكون لهم الشفاء في الدنيا، أما العذاب في الآخرة فهو محتم لهم، وهذه الميزة العظيمة لكم دونهم فضلا عن أن الله وعدكم العز في الدنيا والسعادة في الآخرة وأوعدهم الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (104) فيما يفعل ويقدّر.
يفيد صدر هذه الآية أن القصر مشروط بوجود الخوف، وأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط، إلا أن الآية سكتت عن حال الأمن، وقد ثبت القصر فيها بخبر الواحد وإثبات الرخصة بخبر الواحد في حال الأمن إثبات لحكم سكت عنه القرآن ولا مانع من الأخذ بذلك، وإنما بمتنع الأخذ بالأخبار إذا خالفت صراحة ما دل عليه القرآن ويكون التقييد بالخوف على الغالب فضلا عن أن صلاة الخوف هي غير صلاة الأمن كما علمت مما بين الله لنا أخرج مسلم عن أبي يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح الآن فقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
أي بما أن الله تعالى تصدق عليكم بالقصر في الخوف فاقبلوا صدقة بالأمن أيضا، لأنه لم ينه عنه فيه، وأخرج النسائي عن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ) الآية؟ فقال ابن عمر يا ابن أخي إن رسول الله أتانا ونحن في ضلالة فعلّمنا، فكان مما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر، وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلّى ركعتين، ولنا فيه أسوة. هذا وإن الصلاة في السفر مقصورة أفضل لما روي عن عائشة قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين.
وقيد الشافعي رخصة القصر بالسفر في غير معصية ولم ير أبو حنيفة هذا القيد لعدم النخصيص. وعليه فلا فرق بين أن يكون السفر لطاعة أو غيرها لإطلاق النص فإن مدة السفر المجمع عليها ثلاث مراحل كل مرحلة ست ساعات بمشي الأقدام والإبل، وإذا امتطى ما يوصله هذه المسافة بأن يقطعها بساعة واحدة فله أن يقصر أيضا لأن الرخصة مطلقة والمطلق على إطلاقه. قال ابن عباس كنا مع رسول الله بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون لقد أصبنا غرة، وفي رواية غفلة، ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة، وقال ابن عباس ندم المشركون أن لا أكبوا على الرسول وأصحابه وهم في صلاة الظهر، وقالوا إن لهم صلاة بعدها أحب لهم منها ومن آبائهم وأمهاتهم يعني العصر، فإذا قاموا إليها شدّوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبريل بصلاة الخوف. وحكم هذه الصلاة ثابت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وللقائد أن يصلي بالجيش كصلاته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية 32 من آل عمران المارة، ولقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فلا وجه لقول من قال بعدم جوازها بعد الرسول مع أن قوله تعالى وقول رسوله مطلق عام لم يقيد ولم يخصص به ولا بزمنه، وقد ثبت أن عليا كرم الله وجهه صلاها بأصحابه ليلة الهرير، وكذلك أبو موسى الأشعري، وصلاها حذيفة بن اليمان بأصحابه بصهرستان، ولم يعترض عليهم أو يخالفهم أحد من الأصحاب، ولأن غالب ما خوطب به الرسول تخاطب به أمته لأنهم داخلون في الخطاب إلا ما خص به، ولا نص هنا على التخصيص، ولها صور في كتب الفقه فلتراجع.
قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» (105) عنهم ومدافعا لهم، إذ لا يليق بجنابك ذلك بل عليك بملازمة المحق ومناصرة الحق لكل أحد قريبا كان أو بعيدا، مسلما كان أو كتابيا أو معاهدا ولو كان مشركا، إذ يجب على من تولى الحكم عدم التفرقه بجهة إحقاق الحق تدبر. والداعي لهذا هو أنه كان طعيمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جواب فيه دقيق فجعل يتناثر من خرق فيه حتى انتهى إلى داره، فخبأها عند
زيد السهمي اليهودي فالتمسها صاحبها عند طعيمة، فحلف ما أخذها وما له بها من علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى بيت اليهودي فوجدوها عنده، فقال دفعها إلى طعيمة وشهد له جماعة من اليهود، فجاء بنو ظفر وسألوا الرسول أن يجادل عن طعيمة لأنها لم توجد عنده. فهم الرسول بمعاقبة اليهودي لوجودها عنده، فأنزل الله هذه الآية الدالة على أن الرسول ما كان يحكم إلا بالوحي الذي ينزل عليه من الله، لذلك قالوا ليس للقاضي أن يحكم بما يرى ولا يقول قضيت بما أراني الله ولا بما يعلم. قال تعالى «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ» مما هممت به من المجادلة عن طعيمة ومعاقبة اليهودي «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (106) بعباده، واعلم أنه لا تمسك في هذه الآية لمن يجيز وقوع الذنب من الأنبياء، لأن الرسول لم يفعل شيئا قط، وإنما هم لما رأى من السبب الظاهري وهو اتباع الأثر من دار المسروق إلى داره ووجود المال المسروق عنده، ولما قامت بينة اليهودي توقف عن الحكم لعدم الاعتماد عليهم فيما يؤول لبعضهم، ولما انزل الله له الحكم عمل به وأنفذه، أما ما تفيده هذه الآية من معنى المعاتبة لحضرة الرسول فهو بالنسبة لعلو شرفه وارتفاع درجته وكبير مقامه وعظيم منصبه وجليل مرتبته وكمال معرفته بالله مما يقع منه على وجه التأويل أو السهو مما قد بعد ذنبا من مثله، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، لأنه لا يعد ذنبا من غيره لو فعله. قال تعالى «وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ»
كهذا السارق والمساعدين له لأن من يقدم على ذنب أو يذب عن المذنب مع علمه بما أذنب فهو خائن «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً»
(107)
وصفه بالإثم، لأنه سرق وأودع المسروق عند غيره وخلف على براءته من فعل السرقة. وهذه الآية عامة لا يخصصها سبب نزولها، لأنها جاءت بلفظ مطلق. ولما سمع طعيمة ما أنزل فيه لحق بمكة مرتدا وعدا على الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من الحائط وأخرجوه من مكة، فلقي ركبا وقال لهم أنا ابن سبيل منقطع، فحملوه حتى إذا جن الليل سرقهم وهرب، فأدركوه ورموه بالحجارة حتى مات. ثم إن أقاربه صاروا يستترون حياء من النبي والناس، فأنزل الله «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ
اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ»
في سرهم وعلانيتهم بخلاف الناس «إِذْ يُبَيِّتُونَ»
فيما بينهم قبل نزول الآية في تخليص طعيمة «ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ»
الذي كانوا يدبّرونه لأجل خلاصه وإلصاق الجريمة باليهودي، ويقولون أن الرسول يسمع منا لأنه صاحبنا وذاك يهودي لا يأمن له «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً»
(108)
لا يخفى عليه شيء، وقد أطلع رسوله على حقيقة الأمر، وهو الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ»
يا قوم طعيمة «جادَلْتُمْ عَنْهُمْ»
عن طعيمة وذويه والخطاب لعشيرته «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
وهي فانية بما فيها فقولوا لي «فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
إذا أخذوا بذنوبهم من قبل ملائكة الله ونطقت عليهم جوارحهم بما فعلت وأخرست الألسن حينذاك «أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا»
(109)
يحاجج ويناضل ويدافع عنهم أمام الله لأن محاماتكم له تنقطع في الدنيا، ثم رغب الله تعالى المسيئين بالتوبة والندم ليأملوا عفو الله عنهم، فقال جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ»
بشيء من المعاصي ويوقعها فيها «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ»
مما وقع منه «يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(110)
لأن التوبة مقبولة لديه عن الذنوب كلها ما دامت الروح بالبدن فيما عدا حالتي اليأس والبأس
قال تعالى «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ»
ويكون وبال إثمه عليها خاصة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً»
بمن يكسب الإثم مهما أخفاه عن الناس أو ألحقه بغيره «حَكِيماً»
(111)
بما يخبر به نبيه ليرتدع الناس وينزجروا عن الكذب والبهت وليعلموا أنه تعالى قادر على إخبار نبيّه بكل ما يقع في الكون «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً»
مثل طعيمه المذكور «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً»
كاليهودي الذي أئتمن المال المسروق من حيث لا يعلم أنه مسروق «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً»
(112)
لا خفاء عليه، إذ لا يجوز تهمة الكتابي أو الكافر بشيء لم يقترفه، ولا تجوز الشفاعة لمثل هذا ألا فليتنبه الناس عما من شأنه الإضرار بالغير وتهمتهم بما لم يقع منهم، فإنه موجب لعذاب الله «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ»
يا سيد الرسل «وَرَحْمَتُهُ»
لك وتقديره بعصمتك من الذنب لما أطلعك على شيء من هذه القضية و «لَهَمَّتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ»
من عشيرة طعيمة «أَنْ يُضِلُّوكَ»
عن القضاء بالحق الذي أمرك الله به بما تقدموا لك من القول ببراءة رفيقهم وإلصاق الجرم باليهودي ولكن الله حافظك من الضلال في الدنيا وكل ما يؤدي إليه. أما الذين يريدون إضلالك فأخيّبهم لأنهم لا يقدرون على شيء لا أريده «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ»
لأن وبال اضلالهم عليهم «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
لأنك إذا عملت شيئا عملته عن حسن نية حسبما يظهر لك «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»
لتحكم بين الناس بمقتضاها حسب ظاهر الحال، وقال بعض المفسرين إن الحكمة هنا بمعنى ما يتكلم به الرسول وتسمّى بالسنة، وهكذا أوّلوا أكثر ما جاء في القرآن من لفظ الحكمة بالسنة، إلا أن قوله تعالى بعد هذه الكلمة «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
من خفايا الأمور وضمائر القلوب ينافي المعنى الذي ذكروه لأن السنة هي من جملة ما علمه الله غير القرآن، وهو لا ينطق عن هوى، وهي من حيث اللفظ مرادفة لكلمة فلسفة اليونانية، تأمل «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(113)
في تعليمه وإخباره إياك وإنعامه عليك. قال تعالى «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» أي مما يسر به قوم طعيمة، والنجوى الإسرار في تدبير الأمر، ويكون غالبا في الشر «إِلَّا» نجوى «مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» والاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» التصدق والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لغرض ولا رياء أو سمعة «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (114) جزاء عمله يتعجب من كثرته وحسنه. روى البخاري عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم. وروى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس، فيقول خيرا وينهي خيرا. وفي رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح وحديث الرجل لزوجته وحديث المرأة لزوجها،. أي أن الكذب يجوز في هذه الأمور لأنه لمصلحة ماسة كما