الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:
قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه الله تعالى في الآيات 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2 من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة الله وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه الله منها على الصورة المبينة في الآية 50 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2 أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية 100 فما بعدها من سورة الصافات في ج 2 أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من الله تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية 14 الآتية منها، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية 36 الآتية أيضا، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في الآية 22 فما بعدها من سورة المعارج في ج 2، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين. روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه الله تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية 38 من سورة والنجم في ج 1، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً»
ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124» من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم الله، وإذا أراد إيقافها قال بسم الله معجزة له، راجع الآية 41 من سورة هود ج 2، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125» فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس
الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب
وامتهانها حرام لأنها محل ذكر الله ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 37 من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة الحج الآتية إن شاء الله «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» البلد المحتوي على الكعبة «بَلَداً آمِناً» يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» على اختلاف أنواعها، وقد أبدل من أهله «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع الله عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب «قالَ وَمَنْ كَفَرَ» أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره «فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» في هذه الدنيا «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» ألجئه وأرجه كرها «إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126» النار في الآخرة لإهلها. قال تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها «وَإِسْماعِيلُ» معه يعاونه على بنائه، فلما أكملاه قالا «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائنا «الْعَلِيمُ 127» بنيتنا «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» مؤمنة بك يا ربنا، منقادة لأوامرك. وقد أدخلا في دعائهما (من) التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها «وَأَرِنا مَناسِكَنا» شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت «وَتُبْ عَلَيْنا» عما هفا منا وزلت به ألسنتنا
وأقدامنا «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك «الرَّحِيمُ 128» بهم، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل، ولهذا قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) لا أنه من ذنب كذنوبنا، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد بينا في سورة طه في الآية 121 ج 1 ما يتعلق في هذا البحث مفصلا فراجعه. قال تعالى «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ» في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها «رَسُولًا مِنْهُمْ» الضمير يعود إلى قوله (أَهْلَهُ) في الآية المتقدمة، وقد أجيبت دعوتهما، إذ بعث الله من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه «وَالْحِكْمَةَ» الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق، راجع الآية 269 الآتية «وَيُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة الله تعالى وتشريعه لهم في الأزل، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب القادر «الْحَكِيمُ 129» فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك.
وقد أجاب الله دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية 33 من سورة العنكبوت في ج 2، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلى الله عليه وسلم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح
فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح) ، وسأخبركم بأول أمري انها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل الله وخيرته من خلقه لقوله تعالى «وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130» وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل الله تعالى كل من يصد عنها، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه الله على سائر الأديان وجاءت هذه الآية ايضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد الله بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة (من أن الله تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون) فآمن سلمة وأبى مهاجر، لا يصح لأن عبد الله نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه، راجع الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2. وبعد نزول هذه الآية، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية 47 من النساء الآتية
«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2 «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 131» وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو الله الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.