الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يزد ولم ينقص «وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» محضرا أيضا كما عملته، وحذف لفظ محضر من هذه الجملة لدلالة وجوده في الأولى، كما يحذف مثله من الأول بدلالة وجوده في الثانية، وهو كثير في القرآن، ومن محسنات البديع في الكلام ولبحثه صلة في الآية 86 من سورة النساء الآتية. وإن النفس التي عملت السوء «تَوَدُّ» في ذلك اليوم العصيب «لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ» بين عملها السيء «أَمَداً بَعِيداً» زمانا ومكانا بحيث لا تراه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كررت هذه الجملة تأكيدا لزيادة الاعتناء بالاجتناب «وَاللَّهُ رَؤُفٌ 30» ولذلك يحذرهم بالتباعد عما يضرهم لئلا يؤدي بهم إلى الهلاك.
مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة الله ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها:
تفيد هذه الآية أن أعمال العباد كلّها تجسم لهم يوم القيامة كما وقعت منهم وتعرض عليهم بأزمنتها وأمكنتها وهيئتها كما يعرض شريط السينما الآن فيسرون لما فيها من الخير ويساؤن لما فيها من الشر، وهذه من معجزات القرآن العظيم إذ لم يغفل شيئا مما وقع في الدنيا من أولها إلى آخرها، راجع الآية 88 من سورة الأنعام والآية 49 من سورة الكهف المارتين في ج 2. وتشير أيضا إلى وجوب عدم التعرض لذات الله تعالى بالبحث عن كنهها أو تصورها وهيئتها، لأنه قد يوقع في نسبة التجسيم والتكييف وهما محالان على الله تعالى، ولهذا قال (ص) :
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته متهلكوا. وترمي إلى أن العبد إذا كان يوم القيامة تمثل له أعماله، وأنه يسر لما حسن منها ويساء لما قبح، فعلى العاقل أن لا يقدم على ما يعاقب عليه، ويكثر مما يثاب عليه.
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه وإلى وفد نجران القائلين إنما نقول إن عيسى بن الله محبة فيه وتعظيما له «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31» نزلت هذه الآية ردّا لهم وتعليما بأن طاعة الله هي محبته ولذلك أمره بقوله لهم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» لتكونوا أحبابه وأنبيائه على أنه هو الأب الأكبر
لجميع الخلق «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك ولم يمتثلوا أمرك وأصروا على كفرهم «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) » ومن لا يحبه الله فإنه يبغضه يا ويله، لهذا فإنه تعالى رسم لعباده في هذه الآية طريق القرب لرضائه والحصول على محبته، وبين لهم أن ذلك يكون بمتابعة رسوله في أقواله وأفعاله وفي كل ما يندب إليه.
نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سلول إذ قال إن محمدا يريد أن يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى. مشعرة بأن طاعة الرسول هي طاعة الله ولا تتم طاعة لله إلا بطاعة الرسول. والحكم الشرعي أن طاعته واجبة كطاعة الله، والامتناع عنها يعد كفرا يعاقب عليه من المقالات التي لا تقبل الجملة الأولى منها إلا بالثانية المعطوفة عليها، فلا تقبل طاعة الله مع عدم طاعة الرسول، وإن زعم أنه مطيع ومطيع، والثانية قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 14 من سورة لقمان في ج 2، فمن شكر الله ولم يشكر والديه فكأنه لم يشكر الله ولا يقبل منه شكره إن لم يشكر والديه. والثالثة قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية 43 من سورة البقرة المارة وهي مكررة كثيرا في المكي والمدني، فمن لم يزك كأنه لم يقم الصلاة. وهنا يقال أربعة تحتاج إلى أربعة: 1- الحب إلى الأدب، 2- والسرور إلى الأمن، 3- والقرابة إلى المودة، 4- والعقل إلى التجربة. وأربعة تؤدي إلى أربعة: 1- العقل إلى الرياسة، 2- والرأي إلى السياسة، 3- والعلم إلى التقوى، 4- والحلم إلى التوقير.
وهنا مثلثات أخر: المؤمن لا يخلو من قلة أو ذلة أو علة. وثلاثة لا ينامون:
البردان والخائف والجائع. وثلاثة لا يبردون: الوجه والجاهل والمجنون، أي لا يعرفون البرد ولا مضرته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. وقيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
وعليه فإن من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كان كاذبا في دعواه، لأن من أحب حبيبا أحب من يتصل به، حتى داره وكلبه، وقال العامري:
أمر على الديار ديار ليلى
…
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
…
ولكن حب من سكن الديارا
هذا وبعد أن بين الله تعالى لعباده طريق الظفر بمحبته وسبيل نيل رضوانه، أراد أن يبين لهم بعض من اصطفى من عباده فقال عز قوله «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ» إسماعيل وإسحاق ويعقوب «وَآلَ عِمْرانَ» موسى وهارون وأولادهم أو مريم وعيسى إذ قد يكون المراد بعمران والد مريم والأول أولى والله أعلم، واختارهم لذاته «عَلَى الْعالَمِينَ» (33) من أهل زمانهم وهذان الآلان النجيان كانا «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» على دين واحد وعقيدة واحدة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لمن يدعوه بنية خالصة «عَلِيمٌ» (34) بمن يؤهله لهذا الاصطفاء، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته. قال ابن عباس: قالت اليهود نحن من ذرية إبراهيم وإسحق وعلى دينهم، فأنزل الله هذه الآية ترد عليهم بأن الله اصطفى هذه الذرية للإسلام وإبراهيم كان مسلما، فلستم من ذريته ما دمتم على يهوديتكم. واذكر يا سيد الرسل لقومك وأمتّك «إِذْ قالَتِ» حنّة بنت فاقوذ «امْرَأَتُ عِمْرانَ» بن باثان أحد رءوس بني إسرائيل، قالوا كان بينه وبين عمران والد موسى ألف وثمنمئة سنة، ومقول القول «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» عتيقا خالصا لعبادتك لا أسفله بشيء من أمور الدنيا «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائي «الْعَلِيمُ» (35) بنيتي وحقيقة نذري «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» بأن هذه الأنثى خير من كثير من الذكور لما سيكون منها إلا أنه كان متعارفا عندهم أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة، لذلك قالت ما قالته على سبيل الاعتذار «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» في جواز تحريرها وصلاحيتها للنبوة «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» ومعناه الخادمة والعابدة «وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها» أعيذها بك يا رب «مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» (36) وأحصنها